الماركسية والترف الفكري
انهى ماركس عمر الفلسفة بعبارته الشهيرة:” فسر الفلاسفة العالم بطرق وأشكال مختلفة، ولكنَّ المهمة تكمن في تغييره”.
أي كان فكر ماركس وإسهاماته الفكرية والسياسية والاقتصادية، ثوريا بالمعنى المطلق، وكان نقده ثوريا بامتياز الى فلسفة هيغل ومادية فيورباخ، واستطاع ان يرسخ نظرية مادية في تغيير المجتمع وإعادة القيمة إلى الإنسان التي عبر عنها بجملته المعروفة،” الإنسان هو أثمن رأسمال”.
تحويل ماركس الى أكاديمي وفيلسوف، هو محض عمل صرف للطبقة البرجوازية منذ ان حول لينين النظرية الماركسية على الصعيد الأيديولوجي والسياسي والاجتماعي الى واقع مادي ملموس، عندما بين ان السلطة ممكنة بيد الطبقة العاملة، وأن الثورة الوحيدة في عصر ما بعد الرأسمالية هي الثورة العمالية وتحت افاق الاشتراكية، وكل بخلاف ذلك، هي اما ثورات مرتدة لإعادة الأوضاع الى سابق عهدها، او ثورات ديمقراطية تحسن وضع تيارات الطبقة البرجوازية على صعيد السلطة والمعادلة السياسية على حساب الجماهير العمالية والكادحة، ولا يمكن نفي بأن وفي ظل أوضاع محددة، وضمن توازن القوى، يتحسن وضع الأخيرة وبشكل نسبي وبدرجات، وهي نفس الأوضاع قد يمهد او يفرض على أحزاب برجوازية تقديم التنازلات السياسية من أجل الحفاظ على سلطتها الطبقية.
هذه هي حقيقة ماركس والفكر الماركسي، فلم يكن ماركس فيلسوفا، وقد سدد ماركس ضربة قاصمة الى الفلاسفة، عندما صور تحلق مخيلتهم في تفسير العالم مع انجلز في كتابهما (الأيديولوجية الألمانية)، مثل ذاك الذي يحلق بخياله في عملية الاستمناء أو ما تسمى بالعادة السرية.
أي بشكل آخر نقول، كان ماركس اخطر قائد ثوري، يقض مضاجع البرجوازية والاقطاع وكل القوى الرجعية في اوروبا، والتي سماه في البيان الشيوعي الحلف المقدس. ولأنه كان كذلك، فقد منع من التدريس في الجامعات، وحظر دخوله او العيش في العديد من البلدان الاوربية.
ان الأقلام المأجورة و المفكرين البرجوازيين، لم يكن امامهم خيار في الحيلولة دون ظهور لينين جديد، يعلم الطبقة العاملة الطريق الى السلطة السياسية إضافة الى كل أساليب القمع السياسي والفكري وإشاعة التحميق والجهل، نقول لم يكن أمامهم سوى العمل بتحويل الفكر الماركسي الى منظومة اكاديمية معزولة، تدور اما في الجامعات او في ذهن لفيف من مثقفي الطبقة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، في حين منع صاحبه كما اشرنا من وضع أقدامه في تلك الجامعات.
إن المنطق المتماسك للفكر الماركسي، وتفسيره المادي لكل العلل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، هو احدى العوامل في تبني أولئك المثقفين، الفكر الماركسي، ولكن منزوع الثورية، مثل حليب منزوع الدسم، وفضلا على ذلك أن رقي الفكر الماركسي بالنسبة لهم وتبني كل منجزات العلم والتطور الانساني، هو مبعث راحة ضمير عندما يجلسون خلف مكاتبهم ، بأبداء النصح والغوص في التحليلات على أساس الماركسية، التي هي محل اعجاب طيف واسع من الجمهور.
ومثلما ابدعت البرجوازية من اجل الربح، ابتكار وسائل للترفيه والاستجمام، ابدعت أيضا في تحويل الفكر الماركسي الى ترف فكري يتمتع بالمنتجعات الفكرية مثل المنتجعات السياحية، مثل مراكز الدراسات والجامعات والصالونات، ويحضر إليها شلة من الناس الذين يسمون أنفسهم بالنخبة بالاستجمام الفكري، وينظرون من برجهم العاجي المحصّن من ضربات منجنيق القرون الوسطى، الى الطبقة العاملة والمحرومين وكل أشكال الظلم القومي والعرقي والجنسي وعملية التجهيل المنظمة من قبل الطبقة البرجوازية الحاكمة، وشيوع الخرافات الدينية، بأنهم أي الجماهير العاملة والكادحة، لم ينضجوا بعد، ولم يفكوا بعد شفرة طلاسم الديمقراطية، بينما هم أي النخبة، تمتلك اكسير الترف الفكري.
إن احدى السمات الإيجابية لانتفاضة أكتوبر في العراق أي انتفاضة تشرين ٢٠١٩، هي انتشار الفكر الاشتراكي بشكل نسبي، وتبني الفكر الماركسي في أوساط اجتماعية عديدة، وقد تحدثنا عنها في وقتها، الا ان ما نريد الإشارة إليه في هذه المساحة، هو سيادة التقاليد النخبوية للبرجوازية الصغيرة على هذه الأوساط، وتنظر الى الفكر الاشتراكي وحتى الحلقات الاشتراكية او التجمعات التي تبلورت حول هذا الفكر، بأن الفكر الاشتراكي هو فكر نخبوي، هو فكر صف من المثقفين الذين ينحدرون من البرجوازية الصغيرة، هو فكر ليس له علاقة بالتغيير، ولا بالتدخل في الحركات الاجتماعية، ولا تعترف بدوره بالتغييرات السياسية والاجتماعية في المجتمع.
وبموازاة ذلك أيضا يعزل الفكر الماركسي عن الفكر الاشتراكي، وكأن الفكر الماركسي هو فكر تحليلي وفلسفي، بينما الفكر الاشتراكي هو فكر نخبة من الناس المحترمين وطيبي القلب والنيات، ولديهم مستوى من الثقافة والفكر النير حول العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات.
هذا العزل، او وضع جدار بين الفكر الماركسي والاشتراكي هو من صنع البرجوازية الصغيرة، ويلتقي أصحابهما في نقطة اللاعمل، وحصر كل شيء بالثقافة وتنوير الناس، حتى ظهور “المهدي المنتظر” ولكن ليس نسخته الشيعية، انما بنسخته الاشتراكية ويقود التغيير.
وان هذا المشهد الكاريكاتوري في أوساط المثقفين الذين يتبنون الفكر الماركسي والفكر الاشتراكي، يمتد الى العديد من المدن، وخاصة بعد انتفاضة أكتوبر.
إذا لم يمض الفكر الماركسي نحو التغيير الثوري في المجتمع، وانهاء علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة على استثمار الانسان، وبناء المجتمع الاشتراكي، فهو فكر له علاقة بكل شيء ولكن ليس له أية علاقة لا من قريب ولا من بعيد بماركس ومنهجيته بالتغيير الثوري، اما الفكر الاشتراكي دون مد يده الى الماركسية كعلم التغيير او كما يصفه منصور حكمت بأنها علم تحرر الطبقة العاملة والذي بالضرورة علم تحرر المجتمع، مثل بقية العلوم الأخرى، يتحول دعاته الى انبياء لا حول لهم ولا قوة، حيث يفتقرون الى المعجزات كي يتبعهم الاخرين.
وكما ان التصورات والأفكار الليبرالية والديمقراطية والقومية والفاشية تمثل تيارات داخل الطبقة البرجوازية، فان التصورات والأفكار الاشتراكية و الشيوعية والفوضوية والنقابية، تعبر عن ميول وتيارات داخل الطبقة العاملة، ويعتبر الفكر الماركسي هو علم ذلك التيار في الحركة الاشتراكية داخل الطبقة العاملة مثلما يعلمنا منصور حكمت قائد ومفكر الشيوعية العمالية.
أي ما نريد ان نقوله، بأنه لا مكان للأفكار والتصورات خارج حدود الطبقات، وعليه ان الفكر الماركسي هو الراية النظرية لتيار محدد في الحركة الاشتراكية وهو التيار الشيوعي داخل الطبقة العاملة، وليس راية لكل الطبقة العاملة، شأن التيارات البرجوازية الانفة الذكر، التي تبغي كل واحد منها جر الطبقة البرجوازية تحت رايتها.
ولكن ماذا فعلت البرجوازية بالفكر الماركسي، فقد فصلته أو بالأحرى ودقيق العبارة انتزعته من طبقته، وحولته إلى راية سياسية للشرائح الاجتماعية المتذمرة والساخطة ضد الاستعمار والامبريالية والرأسمال العالمي وضد الاستبداد والدكتاتورية داخل الطبقة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة مع تفريغه من محتواه الفكري والسياسي، وعندما انتفت الحاجة اليه، حولته الى مكتب فكري لترفيه المثقفين من تلك الطبقات.
بمعنى اخر ان الفكر الماركسي هو راية التيار الشيوعي داخل الطبقة العاملة، ولا معنى للفكر الماركسي خارج طبقته، وكل ما يقال بخلاف ذلك هو محض هراء وفبركة برجوازية، لإبعاد هذا السلاح النظري من يد الطبقة العاملة في نقد الرأسمالية ونظامها الجائر والعمل على قلبه. وليس هذا فحسب فالفكر الماركسي دون تحزبه، دون تنظيم الفصيل الثوري الذي يعبر عنه التيار الشيوعي، دون العمل على سيادة افاقه الفكرية والسياسية والاجتماعية على الطبقة العاملة، فلا يتجاوز فلك البرجوازية ومكاتبها الفكرية، التي ترتعب من ظهور لينين آخر يٌمَكَنّه من تبنيه، و يسلحه بالجسارة الثورية لمد يديه إلى السلطة.