المقالاتسكرتير اللجنة المركزيةسمير عادل

الوضع السياسي في العراق في مرآة قانون الموازنة

سمير عادل

أخيرا نشر قانون الموازنة في الجريدة الرسمية (الوقائع العراقية)، وقد استغرق الجدال والصراع والتجاذبات حوله بين القوى السياسية مدة أكثر من  ثلاثة اشهر، حيث يعكس الوضع السياسي او لنقل مستجدات الوضع السياسي في العراق بعد اقصاء التيار الصدري وعودة أحزاب الإسلام السياسي وميلشياتها الموالية لإيران الى السلطة، وتسعى بتشديد قبضتها، مع وضع  نصب أعينها على التداعيات المرة لانتفاضة أكتوبر التي اطاحت بحكومتها التي تراسها عادل عبد المهدي، ومنحت الفرصة للإدارة الامريكية بتصفية عرابيها الإقليمي والمحلي على حدٍ سواء قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.

ان المعضلة الاصلية في قانون الموازنة ليس كما يراها او يصفها عدد من المحللين السياسيين والخبراء الاقتصاديين والمؤسسات المالية مثل صندوق النقد الدولي، بأنه اكبر موازنة في تاريخ العراق الذي بلغ (١٩٨,٩١٠,٣٤٣,٥٩٠) ترليون دينار أي ما يعادل ١٥٣ مليار دولار بسعر صرف ١٣٠٠٠٠ دينار، بينما ينخرها عجز بمقدار ( ٦٤,٥٣٧,٤٢٤,٥٢٧ ) ترليون دينار أي ما يعادل ٤٩ مليار و٥٠٠ مليون دولار، وينفق ما يقارب منها مقدار ٥٧ مليار دولار على دفع المعاشات والأجور في القطاع العام، انما الحقيقة التي يتم التعمية عليها في هذه الموازنة وبشكل مخطط ومدروس على الأقل بالنسبة للمؤسسات المالية الامريكية والسفيرة الامريكية في بغداد التي تمثل إدارة جون بايدن، بأن الأحزاب الإسلامية الميليشياتية الحاكمة تعمل بشكل حثيث لحسم مسالة السلطة السياسية وتصفية جميع المعارضين والمخالفين اما عبر ترسيخ وبناء مؤسسة قمعية ستبينه لاحقا او عن طريق منح الامتيازات وشراء الذمم على جميع الأصعدة.

 وأول الغيث في قانون الموازنة، هو تصفية الحسابات القديمة المؤجلة من قبل بغداد مع سلطة الأحزاب القومية الكردية في كردستان، ووسعت بغداد الهوة بين الحزبين القوميين الحاكمين، وبدأت لها اليد الطولى على أربيل، حيث أجبرت الأخير بالقبول على مضض بدفع أموال ٤٠٠ الف برميل من النفط الى الحكومة المركزية وقسم من واردات المنافذ الحدودية بعد ان كانت تماطل كل هذه السنوات، ولم تقف عند هذا الحد بل يشرف على التدقيق المالي شركة اجنبية ،وعلى كردستان تقديم فواتيرها إضافة الى تصفية الحسابات الختامية طوال السنوات المنصرمة. أي بمعنى اخر ان مكانة الأحزاب القومية الكردية في كردستان كما يقول المثل المصري (طب ساكت) أي هوت على الأرض دون ان يسمع لها صوت، وها هي تعيش احلك ايامها على الأقل خلال المدى المنظور، ولكن لا يعني ان هذه الأوضاع ستكون مستقرة وثابته، ففي العراق والشرق الأوسط وحتى العالم، دائما هناك مفاجآت ومنعطفات سياسية، تغيير من موازين القوى، مثل الثورتين المصرية والتونسية التي قلبت كل المعادلات السياسية في المنطقة، وإعلان تأسيس دولة الخلافة الإسلامية في ثلث مساحة العراق أي صعود نجم داعش، واشتعال شرارة انتفاضة تشرين-أكتوبر في العراق، والحرب الروسية على اوكرانيا، واندلاع الانتفاضة في ايران التي مازالت جمرتها مشتعلة تحت الرماد…الخ.

ان ما هو اخطر في قانون الموازنة ويكشف عن ماهية الحكومة الحالية التي يقودها السوداني،  هو زيادة ميزانية (الحشد الشعبي) التي تجند ١٢٢ الف عنصر كما هو مدون في القانون،  من ٢ مليار ونصف الى ٣ مليار و٥٠٠ مليون دولار، مع إضافة ميزانية الى ما يسمى ب(الفرقة الخاصة) التي لم نسمع بها وعدد عناصرها ١٢ الف عنصر، ويضاف الى كل تلك الأجهزة الأمنية جهاز مكافحة الإرهاب ووزارة الداخلية ومجلس الامن الوطني وجهاز المخابرات وهيئة المنافذ الحدودية، وبموازاتها خصصت أموال يقدر بمليون و٥٠٠ الف دولار لنقابة الصحفيين التي من المفترض ان تكون مستقلة، أي تخصيص ميزانية لشراء ذمم الصحفيين وتجميل صورة النظام السياسي في العراق عبر تجنيد صف من الأقلام المأجورة، وما يثير السخرية أيضا خصصت أيضا مليون ونصف مليون دولار (لهيئة الحج)، ويبدو انها من اجل التكفير عن ذنوبها عند كل عملية سرقة ونهب جديدة من هذه الموازنة مثلما حدث في (صفقة القرن)*، التي أدرجت أي ميزانية هيئة الحج مع ميزانية نقابة الصحفيين في حقل خاص سمي بالنشاط العام للدولة. ما نريد ان نقوله في هذا المضمار ان ما يسمى بالاطار التنسيقي الذي يلف الأحزاب والمليشياتية الإسلامية الموالية لإيران يسعى الى بناء مؤسسة قمعية تسمى بالحشد الشعبي وعن طريقها تعمل على  تقوية بقية المؤسسات الأمنية على غرار الحرس الثوري الإيراني، الذي طالما استقتلوا على بقائها بوجه حكومة العبادي وبعدها حكومة الكاظمي بحجة الدفاع عن الوطن وتضحياته بالتصدي لداعش، فها هو قانون الموازنة يبين ان ميزانية الحشد الشعبي والفرقة الخاصة التي بالتأكيد هي “الفرقة الناجية” تستحوذ على ميزانية هي نصف ميزانية وزارة الدفاع.

انما كل هذه اللوحة القاتمة لا تراها المؤسسات المالية الامريكية، انما ترى فقط بل وتستفزها معاشات العاملين في القطاع العام الى جانب توظيف عدد من العاطلين لا يتجاوز ٢٥٠ الف شخص بعيد عن مبالغات وتهويل المؤسسات المالية العالمية وخبرائها الاقتصاديين، وتم توظيفهم بعقود وبراتب شهري هو ٣٠٠ الف دينار أي ما يعادل ٢٠٠ دولار، الذي لا يسد تكاليف النقل والاتصالات وبدلات الايجار ومعيشة اسرة من فردين او ثلاثة افراد مدة أسبوع مع المبالغة بالتقدير طبعا. في حين يبلغ عدد العاطلين في العراق ١٢ مليون عاطل، ولا تفكر المؤسسات المالية بمصير أولئك العاطلين، لا نريد ان نخوض في هذا المجال لأننا كتبنا عنه في مكان اخر.

وكي تكتمل اللوحة السياسية من خلال قانون الموازنة فأن العجز الحاصل سيسدد من خلال القروض التي افردت لها ٧ صفحات مع الفوائد، الى جانب وضع الضرائب على الدخل والاتصالات والنقل والكهرباء والماء والخدمات وأصحاب المطاعم حتى الدرجة الثانية وأصحاب المحلات. وهذا يعني بقدر زيادة مساحة الفقر والعوز، وبقدر اشتعال غضب الجماهير واستيائهم وامتعاضهم من الموازنة، بنفس القدر هناك مؤسسة قمعية تعيد الجماهير الى رشدها وتفرض عليها الاستكانة والخنوع والرضوخ كما هو حاصل في ايران. أي من سيدفع تكاليف العجز هم الغالبية العظمى من سكان العراق وهم العمال والموظفين والعاطلين عن العمل والشرائح الاجتماعية الكادحة التي بالكاد تؤمن لقمة عيشها من اجل البقاء على قيد الحياة.

الرخاء الاقتصادي السعودي والعسكرتاريا الإيرانية:

منذ تسليم نوري المالكي عندما كان رئيسا للسلطة التنفيذية ثلث مساحة العراق الى داعش ومرورا بالعبادي وعادل عبد المهدي وانتهاء بالكاظمي، فلأول مرة يفتح المجال لعودة تحالف الأحزاب الإسلامية وميلشياتها الى السلطة والاستحواذ على ما يمكن استحواذه دون أي رادع، فعلى الصعيد الاقتصادي يعمل على التناغم بقدر الإمكان مع المؤسسات المالية الامريكية مثل صندوق النقد الدولي والبنك وعدم استفزاها، حيث خصصت اقل من ١٪ من الموازنة لميزانية وزارة الصناعة التي تشرف على ٢٠٠ مصنع ومعمل من اجل البدء بعملية تصفيتها وبيعها، وكذلك لم توظف كما اشرنا اكثر من ربع مليون شخص بعقود ومحرومين من كل حقوقهم بالضمان الاجتماعي والتقاعد وغلاء المعيشة..الخ، كما انها استغلت فرصة التهدئة بين السعودية وايران التي نتجت عنها إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما.

 وهنا نتوقف قليلا كي نشير الى احد عوامل التي تقف وراء مثل هذا النوع من قانون الموازنة، وهو الاعتماد على توقعات واستمرار التهدئة وهبوب رياح الاستقرار في المنطقة، تقودها السعودية بسبب مشروعها الإقليمي الذي يغذيه رخائها الاقتصادي بسبب تدفق أموال النفط على اثر ارتفاع أسعار النفط، وان عملية تجميد الأموال بحد ذاته خسارة، ولذلك تسعى السعودية بتوظيف أموالها، والقانون الأساسي الذي يحكم راس المال ويجذبه ويشجعه لتفريخ رؤوس أموال جديدة هو الامن والأمان الذين يولدان الاستقرار، وهذا العامل أي المشروع الإقليمي لسعودية وراء التعجيل والقبول على المصالحة مع تركيا، وهو نفس العامل وراء إعادة العلاقات الدبلوماسية مع ايران، وكذلك بذل المساعي في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإعادة سورية الى الجامعة العربية وتأهيل نظام بشار الأسد من جديد.

ان هذا الوضع الإقليمي انعكس في قانون الموازنة على صعيد حجم الموازنة وعلى صعيد زيادة الانفاق على مليشيات الحشد الشعبي بشكل خاص والمؤسسة الأمنية بشكل عام، وعلى صعيد التوقعات باستمرار الاستقرار السياسي في العراق وفي استمرار ارتفاع أسعار النفط.

بيد ان المسالة المهمة التي يجب الإشارة اليها، هي ان الاستقرار السياسي النسبي في العراق بعد تشكيل حكومة السوداني، ويعود، ان نفس تحالف المليشيات التي كانت تعبث بأمن المجتمع من اجل العودة الى دفع إدارة السلطة، حصلت على مرادها في تشكيل الحكومة، نقول الاستقرار السياسي معرض لهزة عنيفة ودون أي سابق انذار، اذ ان العامل الإقليمي يلعب دورا في ذلك.

ان الجمهورية الإسلامية في ايران التي وافقت على مضض بسبب ازمتها الداخلية اثر الانتفاضة الجماهيرية ووضعها الاقتصادي، غير قادرة على الأقل منافسة السعودية وتركيا في المنطقة، وان بسط نفوذها السياسي ليس انعكاس لوضعها الاقتصادي سواء على صعيد تصدير واستثمار رؤوس الأموال او على صعيد قدرة بنيتها الصناعية بالمنافسة في أسواق المنطقة، بل عن طريق عسكرتاريتها وتمددها العسكري عبر المليشيات التي تشكلها، ولا تملك غير تلك الاستراتيجية التي اطرت بعناوين مرة (تصدير الثورة) وبعدها غيرت يافطاتها الى (المقاومة والممانعة)، ولذلك ان انهيار الاستقرار الأمني في المنطقة والعراق من ضمنها او عودة الأوضاع الى ما قبل على الأقل بين السعودية وايران هو مسألة وقت، وخاصة اذا ادخلنا في التحليل الدور الأمريكي الذي تهب رياح التغيير الذي تقودها السعودية بغير صالحها، ولن تقف أي امريكا مكتوفة الايدي تجاه ما يحدث.

وبالرغم ان السعودية تلعب دورا في إعادة العراق الى ما يسمى الى (الحضن العربي) او المحيط العربي وقيادة المجموعة العربية عبر الجامعة العربية، الا ان نجاحها في مواجهة ايران في العراق او في لبنان او اليمن وخلق حالة الاستقرار ليس سهلا، للأسباب التي اشرنا اليها. وفي المقابل لا تملك ايران غير استراتيجية  العسكرتاريا في فرض نفوذها السياسي على المنطقة.

ويجدر الإشارة الى ما جاء في مقال مايك نايتس وهو احد المستشارين السياسيين للطبقة الحاكمة الامريكية في مجلة فورين افيرز (Foreign Affairs ( التابعة لوزارة الخارجية الامريكية في ٥ حزيران المنصرم بتركيزه على (شركة المهندس العامة) التابعة للحشد الشعبي واستيلائه على مليون و٢٠٠ الف هكتار على الأراضي بين السعودية والعراق، والتي حاولت السعودية استثمارها الا ان المالكي والخزعلي رفضوا العرض السعودي ووصفوه بالاستعمار الجديد. ويذهب نايتس بمخاوفه لدق ناقوس الخطر امام نفوذ أمريكا في العراق والمنطقة، الى ان تلك الشركة هو استنساخ للتجربة الحرس الثوري الإيراني الذي أسس شركة خاتم الأنبياء واستولت على كل المقدرات الاقتصادية لإيران، لتوظيفها في خدمة الحرس.

ما نريد ان نقوله ان هذا المشهد جزء من لوحة اكبر يميط اللثام اجلا او عاجلا عن صراع إقليمي مرتقب ينعكس على الوضع السياسي واستقراره في العراق، وخاصة ان السعودية هي الأخرى تملك ادواتها السياسية او هناك من اطرف ستستفيد من ذلك الصراع لصالحه واهمها التيار الصدري الذي يلعق جراحه اثر اقصائه من السلطة.

بعبارة أخرى نقولها ان قانون الموازنة هو انعكاس للمكانة الجديدة التي احتلها تحالف الإسلام السياسي الشيعي على السلطة وتنفسه الصعداء، بيد ان العامل الذي يقض مضجعهم هو عدم قدرته على كسر صخرة الاحتجاجات والاعتراضات الجماهيرية، وكان اخرها التظاهرات التي اجتاحت عمال مصافي النفط وخاصة في مدينتي الناصرية والبصرة التي أرغمت الطبقة السياسية الحاكمة في اسقاط مادة ٤٢ من مسودة قانون الموازنة ومفادها رفع سعر انتاج البرميل من النفط من ١١ الف دينار الى ٢٢ الف دينار. ان هذا المشهد سيكبر بفعل عدم قدرة هذه الطبقة لا من الاكتفاء بفسادها او تقويض دائرته، ولا في حل مشكلة الفقر والعوز التي تتوسع مساحتها بفضل قانون الموازنة، حيث يعيش ٤٠٪ من سكان العراق تحت خط الفقر، ولا بقدرة فصل نفسها عن الأقطاب الإقليمية والدولية والكف عن العمل في موقع الذيل السياسي لهذا القطب او ذاك، ولا بامتلاكه الأفق السياسي ووضع استراتيجية عليها سوى العيش بخبز يومها والاعتماد على القمع وتحميق المجتمع، واكثر من كل ذلك، فما زالت أيام انتفاضة أكتوبر شاخصا امامهم وتبث الرعب في صفوفهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى