فارس محمود
تحول الشرق الاوسط الى ميدان لأعمال القصف والقصف المتقابل المستمرة بين القوى المتصارعة في المنطقة. أمريكا وبريطانيا يقصفان الحوثيين ويرسلان بوارجهم الى البحر الأحمر بحجة “حماية التجارة البحرية”، وتقصف ايران اربيل بحجة وجود مكاتب لاسرائيل هناك، وتقصف باكستان التي ردت عليها في اقل من 24 ساعة، وترى الفصائل المليشياتية المسلحة في العراق اليوم يومها وتقصف القوات الامريكية في العراق وسوريا، وتتسع مديات الاغتيالات والتصفيات التي تقوم بها امريكا واسرائيل على قادة الحرس الثوري في لبنان وسوريا وغيرها، ناهيك عن حرب اسرائيل المدعومة على كل الاصعدة من امريكا والغرب والمتواصلة منذ أكثر من 4 أشهر. كل هذه الوضعية تنذر بمخاطر قد تكون كارثية على الشرق الاوسط والمنطقة.
وبغض النظر عن ادعاءات الجمهورية الاسلامية في ايران بكون خطواتها، بالأخص عبر أذرعها في المنطقة، للرد على “الأعمال الارهابية” التي تقوم بها اسرائيل و”الدفاع عن مصالحها القومية” و”أمنها”. بيد ان ايران تتعقب بصورة مباشرة إستعراض قدراتها العسكرية وارسال رسالة لخصومها بإنها قوة اقليمية لها نفوذ وأذرع في المنطقة، وإذا ارادت أمريكا أو اسرائيل توسيع نطاق الصراع ضد الجمهورية الاسلامية، فان عليهما ان يتحضرا للرد لا من جغرافية ايران، بل ان يواجها جبهة واسعة وعريضة تمتد من لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين نفسها. انها تنشد ان تقول للخصوم: انها ليست “طعماً سهلاً”، وان على الإخرين ان يأخذوها على محمل الجد. ناهيك عن ان هذه الاوضاع توفر لنظام الجمهورية الاسلامية “نعمة” مهمة إلا وهي الرد على الجبهة الداخلية التي تقضي مضجع النظام، اي فرض التراجع على الحركة الجماهيرية المليونية العارمة الداعية الى الاطاحة بنظام الجمهورية الاسلامية وارعاب هذه الحركة والمجتمع إجمالاً.
من جهة أخرى، ليست أمريكا التي يسير منحني تراجعها وافول نجمها كقوى عظمى وحيدة وشرطياً وحيداً للعالم، أية مصلحة في توسيع نطاق حربها. ببساطة لأنها ليست على استعداد لدخول حرب غير معروفة نهاياتها والى مَ تؤول، وهي الغارقة في وحل حرب اوكرانيا من جهة وثمة انتخابات رئاسية قادمة في أواخر هذا العام وتغط في ازمة اقتصادية خانقة في الوقت ذاته.
ولهذا فان كل من ايران وامريكا يتحركان بسقف محدد من التصعيد. بل حتى ان الاخيرة مجبرة من اجل كبريائها على عدم السكوت. انها ترد لذر الرماد في العيون بانها لن تسكت أمام من يتطاول عليها. لأن السكوت يدمر اعتبارها ومكانتها أكثر وأكثر، فيما تفتقد من الناحية العملية لأي أفق تجاه تحولات المنطقة. فيما ان الغرب والدول العربية يقفان بالضد من اتساع دائرة هذه الاوضاع نظراً لعواقبها الوخيمة.
أما اسرائيل، فانها الوحيدة التي لها مصلحة واضحة في توسيع نطاق هذه الحرب، وتريد، عبر الاغتيالات وشن الهجمات، جر ايران لهذه الحرب وتصعيد المجابهة بين امريكا وايران وتوسيع نطاقها لحرب شاملة. ان دوافعها واضحة بهذا الصدد. ان أول أهدافها هو التغطية على فشلها السياسي والعسكري الذريع وعدم تحقق اي من أهدافها المعلنة، ومن جهة أخرى، الرد على مأزقها الداخلي وسخط الجبهة الداخلية على الحرب وسياسات حكومة نتنياهو التي تتعكز على عامل الوقت وإطالة امد عمر الحكومة وإفلات النفس من المأزق الذي وضعت نفسها فيه. ان حكومة نتنياهو تعرف حق المعرفة ان المحاكم والسجون سيكون مصيرها ما أن تلقي الحرب بأوزارها. ولهذا تسعى بايديها واقدامها من أجل إبعاد هذا اليوم بكل السبل الممكنة حتى ولو على حساب مذابح الاطفال وكبار السن في غزة.
أما على صعيد العراق، فحكومة السوداني ومن خلفها القوى المليشياتية الحاكمة في العراق التي ظهرت للنور إثر توافق أمريكي-ايراني، فانها بالضد من هذه الوضعية إجمالاً، ولا تريد تعكير صفو ارباحها وسلطتها وثرواتها ونهبها. أما ما يسمى بـ”فصائل المقاومة”، فليس ثمة أفق واضح في الأعمال التي تقوم بها ضد أمريكا. ان أعمالها لا تتعدى استعراض عضلاتها من أجل نيل حصة أكبر من كعكة السلطة حين تنطرح القسمة والحصص غداً. لا أكثر. أما إدعائاتها بانها لاتوقف اعمالها الا بوقف اسرائيل لحربها في غزة لا يتعدى كذبة سمجة لا تنطلي على أحد!
ومثلما ذكرت، بغض النظر عن التوجه العام لكل الاطراف ماعدا اسرائيل وبعض القوى المليشياتية في العراق (لنطاق محدود!) وغيرها، فان لا طرف له مصلحة في شن حرب حياة او موت لا يعرف احد مآلاتها.
لكن ورغم كل هذا، فان استمرار هذا الوضع وهذا الشكل من التعامل غير المسؤول لهذا الطرف أو ذاك يجعل الابواب مفتوحة أمام انفلات هذه الوضعية ودخول البشرية في نفق مظلم آخر.
والاكثر من هذا ان الاعمال العسكرية والارهابية المختلفة التي تقوم بها امريكا وايران والميليشات المختلفة تبين حقارة هذه القوى وكامل الطبقة الحاكمة. من اجل عرض القوة، ردع الاعداء ومن اجل الاستهلاك الداخلي تقوم هذه القوى بتعريض امان مجتمعات من مئات الملايين بصورة كاملة للخطر، وفرض الخوف والقلق والترقب والشكوك على الملايين من البشر. فهي غير مبالية كم انسان بريء يقتل، وكم انسان يُحرم من النوم والشعور بالامان وكم طفل يصاب بامراض نفسية مختلفة. ان هذه الامور لا تدخل في حسابات هذه القوى.
ان البشرية المتمدنة والطبقة العاملة والجماهير الكادحة والمحرومة والمحبة للسلام تقف بالضد من هذا السيناريو وهذه الاعمال العسكرية والارهابية. ان وضع حد لهذا السيناريو واستمرار الاعمال الحربية والارهابية مرهون بتدخلها النشط والفعال وفرض ارادتها المليونية على تجار الحروب.