المقالاتجديد المقالاتنادية محمود

الحركة النسوية والتغيير السياسي \ الجزء الأول

نادية محمود

تتطلع الحركات النسوية على اختلاف مدارسها الى إحقاق حقوق المرأة،بكل تنوعاتها: الاجتماعية، المدنية، السياسية والاقتصادية. الا انه قلما يتم تناول كيف يمكن للنسويات والحركة النسوية والنسويين التدخل في إحداث التغييرات السياسية باتجاه خلق الظروف والاوضاع التي تؤمّن تحقيق هذه الحقوق، وعلى رأسها إنهاء كافة أشكال التمييز القائم على نوع الجنس بشكل واقعي وليس فقط من الناحية القانونية والتشريعية او السياسية.
إن الفكرة الأساسية التي تسعى هذه المقالة الى إيضاحها هي أنه لا يمكن للنساء والنسويات الإنتظار إلى ان تقدم لهن حقوقهن، بشكل أوتوماتيكي مع كل سردية لتغيير النظام. وكأن تغيير النظام او حتى إسقاط النظام ” الذي يريده الشعب” لن يحقق حقوق النساء، مالم تكن النساء فاعلات في صنع هذا التغيير، والإسهام به، ومراقبته، والتأكيد على حصوله، والحفاظ عليه، وتطويره، حتى لا تجري مصادرة حقوقهن تحت أية ظروف سياسية وتحت تأثير اي قوة في تلك اللحظة. هناك ضرورة لانخراط النساء في عملية التغيير السياسي الشامل. كخطوة أولى وأساسية من أجل إحقاق حقوقهن، عبر مختلف السبل والأساليب.
تتعرض الحركة النسوية اليوم، الى تجزئة نضالها النسوي، وعلى الأخص من قبل المنظمات غير الحكومية النسائية التي تقوم بـ”لمدافعة والمناصرة” لبعض القضايا وكأنها إستراتيجية تضمن حصول المرأة على حقوقها. فترى هنالك منظمات تعمل من أجل إقرار قوانين تجرّم العنف الأسري، واخريات يعملن على إنهاء زواج القاصرات، وناشطات يعملن على إنهاء التحرش الجنسي في الأماكن العامة والخاصة، أو تمكين النساء..والخ. ان كل هذه المطالب تشكل أجزاء متفرقة من مطالب الحركة النسوية. ولكن ما هو جوهري ومفقود بشكل واضح وملموس هو غياب التصدي الكامل للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بوصفه المولّد الحقيقي لكل هذه الأنواع من الظلم والأنتهاكات، والتمييز ضد المرأة. أن هذه الأنتهاكات والخروقات لحقوق النساء تعكس حقيقة النظام الرأسمالي النيوليبرالي الذي يدعم ويستفيد من وجود النظام الأبوي والذكوري، الذين يعملان يدا بيد على معاملة المرأة كأداة جنسية وكمواطن من الدرجة الثانية، وككائن مملوك، وكجسد و كملكية خاصة بالرجل.
ولكن لنوضح ماذا نعني بالنظام الرأسمالي النيوليبرالي والنظام الأبوي الذكوري، اللذين يسهمان معا بوضع المرأة في مكانة دونية. واللذين يعتبران منبع الإنتهاكات لحقوق المرأة ومساواتها العادلة وللتعامل الدوني معها. بالرغم من الحصول على بعض الحقوق بفعل الحركات النسوية، مثل حق العمل والتعليم الى حق التصويت، والسفر دون إضطرارها الى أخذ موافقة ولي الأمر، ولكن بقيت الهيمنة على المرأة، واستعبادها، أمرا يوميا.
أولا: النظام الرأسمالي النيوليبرالي: هو النظام القائم على أساس ان كل شيء في هذا النظام هو سلعة قابلة للبيع والشراء، حيث يعد عمل الإنسان سلعة، وجسد الإنسان سلعة، وتقدر قيمة عمله، بل وجسده من خلال الثمن الذي يقرره ويحدده السوق. يمكن تلخيص وضع المرأة في النظام الرأسمالي كما يلي:
1- في هذا النظام، الحصول على فرص عمل تكون مخصصة للرجال. فالرجل له الأولوية في الحصول على فرص عمل، بوصفه إجتماعيا على انه هو معيل الأسرة، وهو متفرغ للعمل الإنتاجي أو الخدمي. وهو متفرغ – أي ليس مسؤولا عن العمل الرعائي- لا تشغله مسؤوليات الحمل والولادة والعناية بالاطفال وبقية أفراد الأسرة مما تعانيه النساء وما يفرض عليهن من أخذ إجازات من العمل.
يتمتع الرجل بحرية الحركة والتنقل والسفر، والعمل ليلا، مما يتيحه له النظام الأبوي الذكوري، والذي لا يتيحه للمرأة- على الاقل في نطاق العراق-. كل هذا يعطي للرجل الأولوية في الحصول على فرص عمل. أما عمل المرأة فيعد ثانويا، أقل قيمة، رغم انها قد تضاهية في الأنتاجية ولها ذات القيمة في السوق، الا أن سعر وأجر عمل الرجل هو أعلى من إجور عمل المرأة. لذلك،تظهر لنا الاحصائيات في العراق، على سبيل المثال، ان نسبة عمل النساء لا تتعدى10- 13 بالمئة، على إمتداد العديد من السنوات.
2- يوضع على عاتق النساء القيام بالعمل الرعائي، ويتضمن هذا، كل الأعمال التي تقوم بها النساء في البيوت من أجل ضمان إستمرار الحياة، من ولادة الأطفال وتربية الجيل الجديد والسهر على راحتهم ومن مختلف الاعمار من اطفال وكبار سن، أصحاء ومرضى. هذا العمل له أهمية في أدامة الحياة وإدامة النظام الاقتصادي الرأسمالي نفسه، تبخس قيمته وسعره في السوق رغم الساعات الطويلة التي تقضيها النساء في أعمال متعددة على إمتداد عشرات السنين من حياتهن، الا أن عملهن مجاني، غير مثمن، ولا يتم الحساب له.

3- يخلي النظام الرأسمالي النيوليبرالي مسؤولية الدولة من الإجابة على حاجات الأفراد، ومنهن النساء. فلا توفر لهن الشروط اللازمة من أجل أن يتمتعن بحقوق متساوية مع الرجل. فهن منهكات بالعمل الرعائي، دون أن تتحمل الدولة مسؤولية توفير حضانات الأطفال، دور الرعاية للمسنين، دور الرعاية للمرضى وذوي الحاجات الخاصة، لا توفر المطابخ الجماعية، ولا توفر المغاسل الجماعية. ولا يتم تشريك العمل الرعائي والمنزلي. أن إخلاء مسؤولية الدولة، هو من أجل تنشيط السوق، وتوفير فرص الأرباح للرأسماليين العاملين في قطاع الخدمات. أي يوضع على عاتق المرأة والأسرة، أن تشتري هذه الخدمات ، وتجعلها مدفوعة الثمن من قبل الأفراد. وبهذا يسرق هذا النظام، الإجور التي حصلت عليها الأسرة من العمل، لتحولها الى قطاع رأسمالي آخر، وهو الخدمات، من أجل تيسير أو تخفيف أعباء العمل الرعائي عن المرأة، وفي الأعم الأغلب، من أجل أن يتاح لها الوقت أن تقوم بالمشاركة في العمل مدفوع الأجر.
ثانيا: النظام الأبوي الذكوري هو النظام الاجتماعي القائم على أعراف وتقاليد وقوانين تضع الرجل في المركز وتضع المرأة على الهامش. للرجل- الذكر مكانة أعلى مما للانسان- الأنثى. يعد هذا النظام الرجل معيلا للمرأة- او النساء- والأطفال، وهو القائم على التحكم بسلوكهم، أطفالا ونساءً . يقر هذا النظام خضوع المرأة الكامل للرجل. يضع الرجال في تراتبية هرمية داخل الأسرة، فالجد، والأب والأخ الأكبر، ثم تنحدر السلطة الى من هم أقل عمرا، ثم تنتقل السلطة الى الأبن على الأم في حالة عدم وجود ذكر آخر في هذا التسلسل. وعلى النساء أن يخضعن لأوامر وتوجيهات هؤلاء الذكور في الأسرة.
في هذا النظام، يتحكم الرجل، وتسانده في ذلك، كامل المنظومة الاقتصادية الاجتماعية التي تقر له بهذا الأمتياز على حساب المرأة. حيث يمنح له الحق بالتحكم بحياة المرأة وحقوقها، من التعليم، والعمل وحق أختيار الشريك، والخروج من المنزل، وفرض العمل الرعائي، وصولا الى حق قتل ومصادرة حياة المرأة. تعزز هذه المكانة المتفوقة للرجل على المرأة، مجموعة من القوانين، والمؤسسات. في ظل هذا النظام، المرأة هي قاصرة، غير قادرة على صنع قرارات تخص حياتها، وبحاجة للتأديب، بمختلف الطرق والاشكال. فاذن، تنتظم العلاقة في النظام الابوي- الذكوري على هيمنة الرجل على المرأة.
يتظافر هذان النظامان، في ممارسة القمع المنظم ضد المرأة. فالمرأة تبقى راضخة لقوانين وأعراف الأسرة في النظام الرأسمالي، حيث: ليست لديها القدرة على الحصول على فرص عمل كما للرجل، فالفرص تعطى للرجال أولا، لذلك تكون محرومة من الدخل المالي ومن القدرة الاقتصادية التي تساعدها على الاستقلال. وحتى لو حصلت على هذه القدرة، وان كانت باجور اقل، يملك الرجل حق القرار على عمل المرأة، وحيث يمكن لهذا الحق ان يصادر في اي لحظة، وحيث أن النظام الرأسمالي النيوليبرالي، يخلي مسؤولية الدولة والقوانين، فتجد المرأة نفسها سجينة حلقتي هذا النظام الرأسمالي- الأبوي. في هذا النظام، جسد المرأة له سعر، مثل أية سلعة أخرى. ففي الزواج تتظافر عوامل النظام الابوي مع النظام الرأسمالي لتقييم سعر ومهر المرأة. فالمهر، سيحدد كشرط لزواج المرأة. والمهر يٌقرر حسب المكان الاقتصادي للأسرة، وحسب المواصفات الشكلية للمرأة، وحسب العمر، وحسب الوضع الاجتماعي، فيما اذا كانت قد ” أستعملت” في وقت سابق أم لا( أي اذا كانت باكرا او ثيبا). وبعد أن يتم نقل ملكية المرأة، وملكية جسدها، من بيت أسرتها، المتمثل بالوالد والأخوة، الى ملكية الزوج، لتصبح المرأة تابعة له، ومؤتمرة بأوامره.
أذن تقف النسويات، أمام نظام كامل ومتكامل ومتعاضد مع بعضه البعض يعمل من أجل إبقاء هذه التراتبية لصالح الرجل والتمييز والدونية ضد المرأة. لذلك أ ن تختار النسويات، إجتزاء القضايا، والأعتقاد بأنه بالامكان القضاء على التحرش لوحده، او القضاء على العنف الأسري، لوحده، أو القضاء على زواج القاصرات لوحده، سيغير في هذه النظام لا يعطينا أية ضمانات باننا سنحقق إنجازات في هذه الميادين، كل على حدة.
وبما أننا لا ننطلق من الطرح الليبرالي أو المدرسة النسوية الليبرالية التي تطالب باحقاق حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، فالمطالبة بالحقوق المتساوية تواجه ألف عائق وعائق، حتى لو تم اقرارها قانونيا، ولكن كيف سيتم فرضها على أرض الواقع مع وجود نظام أبوي- رأسمالي نيوليبرالي؟ أن الكثير من دول العالم الرأسمالي تقر بالمساواة، ولكن لازالت الفجوة بالأجور بين النساء والرجال تبلغ نسبة تتراوح بين1-19% في بعض البلدان الأوربية.
إن التصدي لهذا التمييز متعدد الأشكال، يحتم علينا كنسويات، أن نفكر بالنظام السياسي والاقتصادي والقانوني في نضالنا اليومي، وهو النظام الرأسمالي اليوم، الذي لديه مصلحة حقيقية في الإبقاء على النظام الابوي-الذكوري الحالي. حيث يُبقي هذا النظام، النساء دائما كطبقة عاملة تأخذ أجورا أقل، او تشكل جيشا من البطالة الإحتياطية التي تستعملها السلطات الحاكمة متى ما أرادت للضغط على العمال الرجال، أو تعتبرهن طبقة عاملة غير مدفوعة الاجر من خلال العمل الرعائي المجاني، غير المثمن الذي تقوم به النساء في المنازل، وتبقى تعامل كملكية خاصة بالأسرة، خاضعة لقوانينها التي يرأسها الرجل .
المجتمع الرأسمالي الأبوي- الذكوري يتبع سياسة فرق تسد بين النساء، حيث يسعى ان يضع المرأة في منافسة للمرأة، او عدوة لها .أن اتحاد النساء اللواتي يرفضن التمييز الجنسي وتضامنهن هو قوة حقيقية يرهبها هذا النظام . لذا، لا يجب ان تنتظر النساء حدوث تغيير سياسي لم يشاركن فيه بشكل مباشر أو يساهمن في صنعه ثم يتوقعن ان يمنحن حقوقا ، فقط عبر مطالبتهن بحقوقهن
من خلال آلية” ا لمدافعة والمناصرة” أو حتى عبر تغيير أو إسقاط النظام فقط. فقد أظهرت لنا تجارب القرن المنصرم والحالي، كيف تم الإتجار بقضية حقوق المرأة. تقدم الحقوق للنساء متى ما حقق ذلك منافع للطبقة الحاكمة وكامل منظومتها الاجتماعية والثقافية، و تصادر منها،متى ما شاءوا ذلك.
يجب أن تدخل النساء في الصراع من أجل ان يحققن التغيير لإيجاد دولة ومجتمع يضمن لهن حقوقهن وحقوق كل الفئات المضطهدة في المجتمع. وان يعملن أيضا، وبكل قواهن على زج وتعبئة وتوعية الآخرين في الدخول في عملية التغيير من أجل تحقيق المساواة. من المؤكد أن هذا الامر يبدو صعبا في ظل الحبس الجبري والقسري الذي يفرض على النساء، ومحدودية حريتهن في الحركة، ولكن كل هذه هي عوامل تحفزنا جميعا للتدخل كنساء، في التغيير السياسي. يجب ان لا نتكل ونعتمد على الرجال للقيام بهذه المهمة، يجب أن نكون معا في تحقيق التغيير الحقيقي والجذري.
للأسف لازالت الدراسات التي تعنى بقضية دور المرأة في التغيير السياسي تكاد تكون معدومة، وأكثر الكتابات تتحدث عن المشاركة السياسية للمرأة في الانتخابات، والكوتا، وتمكين النساء سياسيا، بينما ما نتحدث عنه في المقالة هو، مشاركة المرأة ودورها في التغيير السياسي كصاحبة مصلحة مباشرة في تغيير هذه النظام. يجب أن تجتاز النساء عتبة ” الدفاع والمطالبة بالحقوق” الى عتبة الإسهام بخلق الأوضاع التي تسهم بتحقيق هذه الحقوق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى