المقالاتمنصور حكمت

حول الماركسية ومكانة الماركسية اليوم!*

منصور حكمت

  • هناك فترات مهمة في تأريخ الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية كانت لها تأثيرات عميقة على مجمل
    الحركة المسماة بالشيوعية وعلى نفوذ واعتبار الاشتراكية، فمحاكمات عقد الثلاثينات، ونشر الخطاب
    السري لخروشوف حول فترة ستالين، واحتلال هنغاريا، ومن ثم تشيكوسلوفاكيا كل واحدة من هذه
    الأحداث تبعتها موجة من الانفصال عن الماركسية والشيوعية خارج حدود الكتلة الشرقية نفسها. أما ما
    نشاهده اليوم له أبعاد لا يمكن مقارنتها بأي من تلك الأحداث، ما هو تصورك حول هذا المسار السريع
    لانفصال “الشيوعيين” السابقين عن الماركسية ؟ والى أي حد يستلزم انهيار الكتلة الشرقية إعادة النظر
    في الماركسية؟
    منصور حكمت : إن الماركسية هي نقد قبل أن تكون سلسلة من الأحكام والطروحات. هي نقد المجتمع
    الرأسمالي. ومن الواضح أن هذا النقد يستند على تحليل عميق لأسس هذا النظام وتناقضاته الداخلية،
    وبنظري إن الانفصال عن الماركسية يعني انفصالاً عن الحقيقة ، ومجيء ألف اتحاد سوفيتي ورحيله لن
    يغير شيئاً من انتقادي، كماركسي، للمجتمع القائم ومن تصوري عن المجتمع اللائق بالإنسان الحر وحول
    القوة الاجتماعية التي ابحث عنها داخل المجتمع الراهن لإقامة ذلك المجتمع، فالماركسية هي رؤية عميقة
    جداَ و منهاج محكم ومنسجم عن المجتمع الرأسمالي. إنها نقد ورؤية قسم معين من المجتمع، أي الطبقة
    العاملة بالأجر، حول العلاقات القائمة. واعتقد أن التحولات التي تعصف بالاتحاد السوفيتي اليوم ليست
    وحدها، وإنما جميع الوقائع الاقتصادية والاجتماعية لعالمنا المعاصر، جميع اهتمامات العالم المعاصر و
    جميع المسائل التي تثار كمسائل رئيسية للمجتمع المعاصر في وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية، وفي
    المجالات الأخرىً كالأدب والفن وغيرها، اعتقد بأنها تؤكد كلها يومياً على صحة الرؤية والنقد الماركسي
    لهذا المجتمع. لقد كانوا يستهزئون بماركس لأنه اعتبر العلاقات الاقتصادية هي التي تحدد الحياة السياسية
    والثقافية للمجتمع، ولكن إذا ما سألت اليوم أي عابر سبيل في الشارع عن سبب تنامي العنصرية والفاشية
    والنزعة القومية والجريمة وحتى هبوط هذا الشكل أو ذاك من فنون الرسم أو الموسيقى فأنه سيربطها
    فوراً بالأوضاع الاقتصادية. فالملالي في إيران يرهنون بقاء الدين بدور البنك المركزي و وزارة
    الصناعة وسعر صرف الدولار مقابل الريال. الجميع يعلم بان المسألة تدور حول الربح وإنتاجية العمل،
    والجميع يعرفون في سريرتهم أية وسيلة هي الدولة ولماذا تشكل الجيوش وقوات الشرطة. والجميع
    يعرفون بأن هناك صراعاً دائمياً يدور في قلب المجتمع بين العامل والرأسمالي، بين المتلقي للأجرة
    والدافع لها . واتضح أن كل ما يمت بصلة للحرية والإنسانية في المجتمع اصبح مرهوناً بقدرة العامل
    والتنظيم العمالي مقابل الأجهزة الرأسمالية والأحزاب والحكومات التابعة لها. واصبح التطلع والانتظار
    من المنظمات العمالية أن تكون معارضة للاستغلال والاستبداد، ومعارضة للتمييز، وداعية للرفاه
    الاجتماعي وغير ذلك، هو التطلع الطبيعي الذي تنتظره الجماهير منها. وصار اسم العامل مرادفاً للحرية
    والرفاه واسم البرجوازي مرادفاً للتمييز والغزو، وبتصوري كان القرن العشرون، قرناً للماركسية
    ولانتشار الفهم والتحليل الماركسي للعالم الرأسمالي. لذلك، وبقدر تعلق الأمر بالماركسية كرؤية تدعي
    المعرفة الحقيقية للمجتمع، فإنني لست فقط لا أرى سبباً لإعادة النظر في هذه الرؤية، بل واعتقد بان
    التحولات العالمية الأخيرة أثبتت لمئات المرات حقانية هذه الرؤية، غير أن موجة الابتعاد عن الماركسية
    هذه ليس لها أي ارتباط بحقانية أو عدم حقانية الرؤية والتفسير الماركسي، فهذا المسار مسار سياسي
    والخيارات سياسية وليست علمية. والأمر ليس بهذه الصورة المشيرة الى أن مع التحولات الأخيرة توهج
    نور الحقيقة فجأةً، في قلب شخص ما. وصحة أو عدم صحة الرؤية والتفسير الماركسي عن المجتمع لا

يلعب هنا دوراً كبيراً واعتقد بأن أولئك الذين يسعون الى تغطية هذا التراجع السياسي لليسار على صعيد
اجتماعي واسع بإعادة نظر علمية، هم أبعد ما يكونون عن الرصانة والاتزان، وهم من المتكسبون
المرتزقة. فالحقيقة هي أن الهجمة السياسية والأيديولوجية البرجوازية على الماركسية و الاشتراكية،
بالاستناد على انهيار كتلة اشتراكية زائفة، قد أوجد ضغطاً سياسياً وإعلاميا كبيراً على الجناح اليساري
للمجتمع. وقد انعكس مسار إقبال المثقفين الإصلاحيين في المجتمع على الماركسية الذي ميّز المرحلة
الممتدة بين انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى أواسط السبعينات. والأمر يحتاج الى وقت طويل للتمكن
من إجهاض هذه الموجة من الهجوم ويحتاج الى توجيه ضربات عمالية مهمة الى البرجوازية كي يستعيد
المثقف البرجوازي تصوره بأن الادعاء بالماركسية يزيد من اعتباره وشعبيته. ومع هذه الحقيقة، يجب أن
أؤكد بأن قسماً كبيراً من “الماركسيين” كانوا يتألفون في الواقع من المحتجين والمنتقدين اللااشتراكيين
للمجتمع القائم من الذين تجرعوا على مضض كأس الماركسية نتيجة للنفوذ الواسع للماركسية داخل
الحركات الاحتجاجية المعادية للرأسمالية. فقد حول القوميون، والاصلاحيون، ودعاة التصنيع في العالم
الثالث، ودعاة الاستقلال، و المعارضون للاحتكارات، والأقليات المضطهدة بشكل عام والفئات مختلفة ،
الماركسية والاشتراكية الى إطار لإعلان احتجاجها ومطاليبها في المجتمع القائم. بالأمس كانت الصرعة
هي الماركسية، فكانوا ماركسيين واليوم “الديموقراطية” هي الصرعة فتراهم جميعاً يتحلقون حولها
ويتطلعون الى أن تحقق لهم الديموقراطية ورأسمالية السوق الحرة نفس تلك الأهداف والتطلعات. إن
انفصال هؤلاء عن الماركسية في هذه المرحلة أمر وارد واعتقد بأنه أمر مستحسن أيضاً. فهذا الأمر
وعلى الرغم من انه يضيق الخناق على الماركسية ، إلا انه يمهد الأرضية والأسس لبلورة شيوعية
عمالية وماركسية كلياً في العديد من الجوانب. وبتصوري، ليست هناك ضرورة لإعادة النظر في
الماركسية فيما لو جردناها من الكلائش التي أغرقت السوق لعشرات السنين تحت هذا العنوان بهدف
المزايدات السياسية المختلفة ، والشيء الضروري هو المساهمة التحليلية والنظرية الجدية للماركسيين
على كافة أصعدة النظرية الاجتماعية. فما يزال مكان التفسير الماركسي شاغراً حول الجوانب المختلفة
للمجتمع المعاصر والمسارات الحاسمة التي يتخطاها العالم المعاصر الآن، والتمسك بالماركسية كرؤية
شمولية للعالم ونظرية اجتماعية لا يعني تكرار الأحكام العمومية للماركسية بشكل معزول عن الأوضاع
الاجتماعية. بل يعني المشاركة، كماركسيين، في النضال الفكري لكل مرحلة وإبداء الرأي وطرح
التحليلات الخاصة بالمعضلات الجديدة التي يطرحها مسار الحركة التاريخية للمجتمع والنضال الطبقي.
إن حاجتنا لا تكمن في إعادة النظر في الرؤية الحقة والراديكالية الوحيدة في المجتمع، بل في استخدام هذه
الرؤية في تحليل العالم المعاصر ومعضلاته المتنوعة.
*رد على سؤال في حوار نشر باسم “الماركسية والعالم المعاصر”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى