رشوى”المنافع الاجتماعية ” لضحايا انبعاثات من شركات النفط!
نادية محمود
فرضت لجنة الطاقة التابعة لمجلس الوزراء بالقرار رقم 139 بتاريخ 23 ديسمبر 2013، على الشركات النفط العالمية العاملة في الحقول العراقية بدفع مبلغ سنوي يصل إلى خمسة ملايين دولار عن كل عقد خدمة، ك”منفعة اجتماعية” للمناطق المحيطة بالحقول والرقع الاستكشافية التي تعمل فيها وقامت تلك الشركات بتقديم ” منافع” اجتماعية تمثلت على سبيل المثال بـ: تقديم سلة غذاء في شهر رمضان، منح مالية للمصابين بالامراض السرطانية، “منح مالية لعوائل شهداء الحشد الشعبي والقوات الامنية، تأهيل مستشفى، تعبيد طرق، شمول مدارس بالمنافع الاجتماعية، ودعم عدد من المؤسسات الخدمية..والخ. ومن المؤكد في دولة ينخرها الفساد حيث لا حسيب فيها ولا رقيب، مؤكد لا يصل للمواطنين نسبة من الارباح، او نسبة من الخمسة ملايين دولار، من “المنافع الاجتماعية” الا ” سلات غذاء”، بل قد تقوم الدولة نفسها بدفع كلفة “المنافع الاجتماعية” نيابة عن الشركات، كما تقرر في جلسة مجلس الوزراء بتوصيته رقم 24008 ط، لسنة 2024، المشتملة على منح 20 مليون دولار كمنافع اجتماعية لعقد شرقي بغداد وحقل ارطاوي.
الا ان هذا ليس موضوعنا، بل موضوعنا هو ماذا يعني هذا الفتات الذي تدفعها الشركات- ان دفعته- الى المجتمعات المحلية، التي من المفترض ان تستفيد من هذه “المنافع الاجتماعية” قياسا الى المخاطر التي يسببها وجود هذه الشركات النفطية. ان هذه المنافع الاجتماعية ليست فقط قليلة، بل لا تساوي الا قطرة في بحر مما يحتاجه السكان المحليون. حيث ان الاثار التي تسببها هذه الشركات هي كارثية عليهم، بحيث تغدو معها” المنافع الاجتماعية” نكتة سمجة لا تثير الا الغضب، وتدعو الى فضح كذبهم ونفاقهم.
لننظر ماذا يسبب وجود هذه الحقول: نظرا لقرب الحقول من المناطق السكنية، تنتشر الغازات والكاربون والميثان وبقية المواد الكيمياوية المرافقة لها والتي تسبب امراض السرطان. وفق القانون، يجب ان تبعد الحقول بمسافة 10 كم عن المناطق السكنية، الا ان واقع الحال هو ان بعض من تلك الحقول تقع على بعد 1.5 ميل من المناطق السكنية، كما هو الحال في حقل الزبير الذي يبعد بمسافة 2.5 كم. تبعث هذه الحقول ملايين الاطنان من انبعاثات الغاز، ويتلقف السكان هذه الغازات والسموم مما يؤدي الى انهيار صحتهم، وتلوث الهواء والطبيعة المحيطة بهم.
وفقا للتقارير الصحية تحرق البصرة التي يتواجد فيها حقل الرميلة النفطي، وهو ثالث أكبر حقل نفط في العالم- تحرق البصرة وحدها غازا أكثر من السعودية والصين والهند وكندا، حيث تثار الاسئلة حول فيما اذا كانت هذه المدينة ستصبح صالحة للعيش في العقود القادمة. وفقا لرئيس بلدية نهر عمر في محافظة البصرة، ارتفعت معدلات الإصابة بالسرطان على مدى العقد الماضي بنسبة 50%، بوجود 150 حالة ضمن 1600 ساكن.ان تلوث الهواء ، وبوصف الخبراء المختصين، هو واحدة من أكبر الأزمات التي يواجهها العراق، حيث تقول تقارير الصحة العالمية ان ” عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم بسبب تلوث الهواء يفوق عدد الوفيات المسجلة منذ الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.” اضافة الى ان حقول النفط الحالية، ادت الى أن “متوسط درجة حرارة العراق يرتفع بمقدار ضعفين إلى 7 أضعاف مقارنة بالمتوسط العالمي، وهو ما يهدد البلاد بتفاقم مشكلة الجفاف وندرة المياه”.
تسجل مدينة البصرة سنوياً أكثر من ألفي حالة إصابة بالسرطان بسبب الغاز المحروق المصاحب لإنتاج النفط، وفقاً لإحصائية دائرة حماية البيئة في المنطقة الجنوبية، نشرتها هذا العام وكالة الانباء العراقية. وتبلغ كلفة الجلسات العلاجية لمرضى السرطان ملايين الدنانير. في محافظة البصرة (عدد سكانها أكثر من ثلاثة ملايين و200 ألف نسمة). ان اضرار هذه الغازات ليست مقتصرة على السرطان بما فيه سرطان الاطفال بل ما تسببه من تشوهات خلقية وامراض تنفسية وامراض الجملة العصبية والنفسية تفوق اضرار السرطان.
في مدينة ذي قار، حيث يستخرج النفط ايضا من حقول الغراف، والرفاعي، يتعرض السكان أيضا الى امراض وأختناقات وتلوث بيئي بسبب الدخان والغازات المنبعثة واحواض التبخير التي تبعد 600 متر عن المناطق السكنية، والنتيجة هي تسجيل اعداد متزايدة من الاصابات بالسرطان والمزيد من حالات الوفاة. وفي الموصل، وفقا لشهادات الاطباء في المستشفيات ب”إن الأمراض الأكثر شيوعا في المستشفى هي مشاكل الجهاز التنفسي والصدر، حيث أن إمدادات المياه قد تأثرت بالسخام، وأحيانا ينسكب الماء أسود اللون من الصنابير”. في عام 2019 وحده بلغت حصة الفرد الواحد في العراق ما يقارب 10 اطنان من انبعاثات ثاني اوكسيد الكاربون.
واذا اخذنا بنظر الاعتبار بإن العراق يمتلك 73 حقلا للنفط والغاز، يبلغ سعة بعض الحقول، مثل حقل الرميلة أكثر من 1600 كيلومتر مربع والذي تعادل “نسبة انبعاث الغازات السامة منه ثلاثة أضعاف أي حقل آخر في العالم”. ليعلن وزير النفط بان المنافع ستزداد من 5 الى 10 ملايين دولار سنويا. اضافة الى فتح 29 حقل نفط وغاز في جولة التراخيص التكميلية الخامسة والسادسة. فمالذي ستقدمه ” المنافع الاجتماعية” تجاه كل تلك الاضرار التي تتسبب للمواطنين ومن مختلف الاعمار، في مناطق تعيش الفقر وانعدام الخدمات الصحية؟ و ليس لديهم المال اللازم لتلقي العلاج مالذي يفيدهم تعبيد طريق، او بناء محطة تحلية ماء، او طلي المدارس، او توزيع سلات غذاء؟ علما ان العراق يطمح الى زيادة انتاجه النفطي من 4 ملايين برميل يوميا حاليا الى 6 ملايين، فكم ستكلف هذه الزيادات في انتاج النفط من حياة وصحة السكان في العراق؟ ان العراق يبني المزيد من الانابيب ايضا، لغرض زيادة تصديره للنفط، ولكن على حساب من يتم استخراج وبيع كل هذا النفط، الذي يتجاوز فيه العراق حتى حصته المسموح بها له من قبل منظمة الاوبك؟ اذا استمر العراق بالمحافظة على المعدل الحالي لاستخراج النفط، فان الغاز والدخان والمواد الكيمياوية ستستمر لما يقارب القرن، حتى يستهلك العراق احتياطيه من النفط.
الان، مع احتفاء رئيس وزراء العراق بتوقيع جولة التراخيص التكميلية الخامسة والسادسة،و اطلاق 29 مشروعا للنفط والغاز في 12 محافظة وهي: نينوى والأنبار والنجف وكربلاء والديوانية والمثنى وبابل والقادسية والبصرة وذي قار وميسان وواسط. هذا يعني تحول اراضي العراق الى بئر نفط مترامي الاطراف يمتد على سعة محافظاته. و يعني ان الشركات سوف تحصل على الربح وسيكون نصيب الفرد المرض وسوء الاحوال الصحية وسيتحتم على المجتمع التعامل مع الاثار الاقتصادية والاجتماعية والصحية لهذه الامراض. فهذه الاضرار لاتدخل في حسابات الطبقة الرأسمالية المحلية منها والعالمية في مساعيها لتحقيق الربح، انما تسحق على حياة البشر، وتمضي قدما، بتقديم رشوة تافهة باسم” منافع اجتماعية” بدلا من الالتزام بالقيود والقوانين التي تحد من انبعاث الغازات والمواد السامة الاخرى من خلال نوع التكنلوجيا المستخدمة، واتباع الاساليب الصديقة للبيئة في الانتاج، التعامل الصحيح مع النفايات اي التخلص منها بشكل يقلل من تاثيرها على البيئة والانسان. ان العراق هو واحد من اكثر الدول التي عليها التحرك بسرعة لتوظيف الطاقة النظيفة نظرا لاوضاعه المناخية، قلة المياة، قلة الاشجار، ضعف البنية التحتية لتقليل اثار التغير المناخي وغيره.
فاية “منافع اجتماعية” ستصل لسكان كل هذه المحافظات؟ ولتعالج الاثار الكارثية التي يسببها استخراج النفط؟. ان النفط يستخرج ويباع على حساب حياة مئات الالاف من الناس، ممن يتضررون من استخراج النفط، ومن الغازات المنبعثة عنه. ان ما يحدث يجب ان يدق جرس الانذار لكل القوى المحتجة، ان تدافع عن حياة السكان في هذه البقعة الجغرافية، وهي دليل اخر، على لصوصية الطبقة الحاكمة، ومن معها من الطبقة الرأسمالية وشركاتها العالمية، التي تسحق من اجل ارباحها حياة البشر.