منصور حكمت ومنهجية الحرب
(ندوة أقيمت بمناسبة أسبوع منصور حكمت في البيت الحزبي عبر الزوم، 11 حزيران 2023)
الجزء الاول
مقدمة:
بمناسبة اسبوع منصور حكمت، أود أن أتناول اليوم موضوعة مهمة برأيي تتعلق بمنهجية منصور حكمت حين تناول ظاهرة معينة؛ هي الحرب.
ثمة قائمة طويلة وعريضة من المواضيع والقضايا التي تناولها منصور حكمت على امتداد تاريخه السياسي رغم قصره، ولكني أرى من الضروري أن أتناول منهجيته في تناول الحروب التي مرت على عصره. إن هذه المنهجية هي ضرورية لكل من ينشد التعامل مع الحروب من زاوية ماركسية وشيوعية ومن زاوية المصالح الاممية للطبقة العاملة. عالمنا الراهن يشهد “إعادة تقسيمه” بين القوى الامبريالية العالمية، وهذا التقسيم لا يجري إلا بالحروب والعنف. عالمنا اليوم غارق في دماء الحروب والصراعات الدموية، وأغلبها حروب بالوكالة. من ارمينيا واذربيجان واوكرانيا وليبيا والعراق واليمن وسوريا و…الخ تمتد قائمة طويلة في عالمنا المعاصر. ان التحلي بمنهجية منصور حكمت وتوظيفها في فهم هذه الحروب واهدافها والحقائق والتناقضات المادية التي تقف خلفها يزودنا برؤية صحيحة واتخاذ مواقف وتكتيكات شيوعية وعمالية صائبة تسلح الطبقة العاملة برؤية لا غنى عنها لحركتها وللمجتمع.
لم يتعامل منصور حكمت مع الحروب المختلفة التي اندلعت إبان عمره السياسي كأمر واحد أو يتخذ منها موقفاً واحداً. أي لا نجد في منظومته، سواء “إدانة” او “عدم ادانة” جاهزتين او مُعدتين مسبقاً، كما لم يتخذ منها موقفاً تكتيكياً وعملياً أو شعاراً واحداً.
إذ يتخذ موقفه من كل حالة على حدة استناداً الى الظروف التاريخية والصراعات المادية الواقعية. كما لا ينطلق من ظاهر الاشياء ولا من ادعاءات الاطراف المشاركة، ولا من مقولة “مَنْ شن الحرب؟!” و”مَنْ بدأها؟!” فهذه ليست “أصل القضايا”. إنه، كماركسي عميق وكممثل بارز وأمين لمصالح طبقته، الطبقة العاملة، وتحررها النهائي، يزيح كل الترهات التي تسعى البرجوازية وساستها وصحافتها الخانعة والذليلة والسطحية، ويمضي الى عمق وقعر الاشياء، اي الظروف والاسباب المادية والواقعية لكل حرب، والأهداف الحقيقة والواقعية والارضية والمبررات المادية لاندلاعها.
لا تبدأ منهجيته وتناوله من منطلقاته الأيديولوجية والفكرية الخاصة كما نرى ذلك في كل مواقف التيار اليساري المعادي للإمبريالية، اي من نقطة واحدة: معاداة الامبريالية. يسار تحوّر منهجيته غير الشيوعية كل شيء في نطاق معاداة الامبريالية، ومن هناك يتخذ مواقفه. ولهذا ليس بغريب ان تجد هذا اليسار يقف حتى مع طالبان أو نظام الجمهورية الاسلامية في ايران او حماس أو حزب الله تحت مبرر معاداة الامبريالية غاضاً للنظر عن كل جرائمهما تجاه الجماهير في البلدان التي يهيمنوا عليها بالعنف.
وكالكثير من الظواهر الاخرى، في تفسير وتحليل الحروب، يعد الاقتباس الحرفي للنموذج، اي (نسخ ولصق)، داء شائع لليسار. يستنسخون من ماركس ولينين موقفهما المحدد من هذه الحرب أو تلك دون الأخذ بالحسبان الظروف المختلفة والتوازنات الطبقية والسياسية والاجتماعية المختلفة. ان الماركسية علم وليست “جواب جاهز”! على المرء الاستفادة منها بوصفها علم ومنهج وليست مجموعة أحكام تحفظها عن ظهر قلب سلفا وتستنسخها وتلصقها بمعزل عن الاوضاع والظروف التاريخية. فعبر المنهجية الماركسية،[J1] هناك حرب تدينها وأخرى لا تدينها، حرب يمكن أن تحوّلها الى ثورة ويمكن ان لا تستطيع تحويلها و…الخ.
في حياة منصور حكمت، جرت عدة حروب، سأتناول تناوله لها هنا:
الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988):
تمثل موقف منصور حكمت من هذه الحرب بـ:”الدفاع عن الثورة بوجه حرب الرأسماليين”. السؤال الأولي والشائع المطروح هو: وما دخل الثورة بالحرب؟!
ينطلق منصور حكمت من موضوعة ضرورة وماهية الحرب من زاوية العراق وايران فحسب، بل من زاوية المصالح والأهداف الامبريالية العالمية المهيمنة على المنطقة، وهنا تحديداً الامبريالية الامريكية. إذ لا ينطلق من “السياسة الخارجية” للعراق أو ايران ولا من “التنافس التاريخي على شط العرب” ولا “الجزر الثلاثة” ولا الهيمنة على الخليج أو النفط، فهذه ليست اساس القضايا. بل ينطلق من التطورات السياسية والاقتصادية الجارية في المنطقة، وهنا تحديداً السياسة التي تتعقبها الرأسمالية الاحتكارية بقيادة الامبريالية الامريكية في وضعية ما بعد الاطاحة بالشاه وما بعد الثورة.
إن ثورة ايران هي ثورة عظيمة وهائلة ويسارية. كان يمكن أن يؤدي تطورها إلى تغيير ثوري وراديكالي كبير في المنطقة، وكل ذلك بفضل حضور الطبقة العاملة والشيوعيين واليسار، بمجالسها وبأشكال التنظيم الجماهيرية وتدخل الجماهير الواسع في الميدان والمطالب التي طرحتها. كان اسقاط الشاه لا يتعدى فاتحة تغيرات أعظم بكثير. انها لم تكن ثورة صراع أقسام مختلفة من البرجوازية، اي صراع برجوازيتين محليتين حول السلطة والحكم، بل صراع الطبقة العاملة ومعها اغلبية واسعة من الجماهير الكادحة والمحرومة والبرجوازية، يعني صراع وثورة وضعت وجود السلطة البرجوازية ككل تحت السؤال. عرضت هذه الثورة علاقات الانتاج في المنطقة الى ضربة جدية. من جهة أخرى، ايران ليست كسائر دول المنطقة، حيث لها ثقل كبير في المنطقة. انها بلد كبير وذو سوق داخلي ومحلي كبير، ومن الناحية التاريخية بلد قوي ومؤثر. وتتمتع البرجوازية الايرانية، بصورة تاريخية، بقدرة على ان تكون مركزاً اساسياً وحامي أمين لمصالح الاحتكارات الامبريالية الأمريكية وأفضل شرطي لها في المنطقة. وفي وقتها لم يكن العالم يشهد اعادة تقسيم بين القوى الامبريالية. أي يقر الجميع بنفوذ امريكا ولا منافس لها هناك. ولهذا، الثورة كانت تدفع بأن تكون هذه المكانة تحت مهب الريح. وهذا لن تسكت عليه أمريكا وبالأخص ليس لها منافس في هذه المنطقة.
وعليه، كانت سياسة الامبريالية العالمية تتمحور حول هدفين: القمع النهائي للطبقة العاملة الثورية واعادتها الى اوضاع الخضوع التام لمرحلة ما قبل الثورة، واحياء قيادة البرجوازية الاحتكارية في صفوف البرجوازية الايرانية. أي اعادة الاوضاع الى مرحلة ان تكون أيران مرة أخرى “الواحة الهادئة” للرأسمال وجنّته. وهذا يتم، مثلما قلنا، عبر قمع الثورة واحلال بديل راسخ يمثل مصالح الامبريالية الامريكية، وهو ما كانت الرأسمالية الامريكية منهمكة به منذ الاطاحة بالشاه وبعدها. وعليه، ومثلما يتم الحديث دوماً، ان الحرب هي ادامة عنفية للسياسة الرأسمالية الاحتكارية (بقيادة الامبريالية الامريكية) بوجه الثورة ونتائجها الاقتصادية-الطبقية. أي حاجة الرأسمالية لأحياء قيادة الرأسمالية الاحتكارية وتثبيت الممثلين السياسيين المباشرين للرأسمالية الاحتكارية وتأمين إعادة الاوضاع كالسابق. ومن الناحية التحليلية، هذا لا يقتضي العنف بالضرورة. ولكن نظراً لعجز برجوازية الجمهورية الاسلامية في قمع الثورة، لأكثر من عامين، كان التحرك الاساسي هو الدفع بممثلي البرجوازية الاحتكارية من المعارضة. كما يمكن تشكيل الحكومة عبر عامل وقوى “خارجية وليس من الداخل”، الحرب ، قمع الثورة، واحلال حكومة ممثلة لمصالح الرأسمال الاحتكاري.
ولكن السؤال هنا ما هي مصالح وأهداف كل من النظام البعثي والجمهورية الإسلامية؟! فيما يتعلق بالعراق وايران، لحاجات الرأسمال والبرجوازية لها مكان، ولكن لا يمكن ان ننطلق من حاجاتهما، لأنهما نفسهما خاضعيّن لحركة وحاجات الرأسمال الامبريالي العالمية بقيادة أمريكا. فبالنسبة للعراق، توفرت امكانية للحملة على ايران نظراً لانزواء ايران وقلق البرجوازية العربية من امتداد الثورة لبلدانها وللحيلولة منها. كما وفّر الشق والعداء التاريخي ما بين العراق وايران الامكانية للعراق لشن هذا الهجوم، وهذه الامكانية غير متوفرة لبلد اخر كالسعودية مثلا. ان الحرب انعكاس لمطلب البرجوازية العربية لفرض التراجع على ايران والحيلولة دون انتقال وامتداد الثورة الى البلدان العربية. ليس الأمر كما لو أن صدام نهض يوما ما وقال حسنا، الان ايران اصبحت ضعيفة ولنشن هجوم عليها ونحتل المحمرة.
المحتوى العملي لسياسة البعث هو تسهيل وتسريع هاتين العمليتين: قمع الثورة، وتأمين السلطة للسهر على مصالح الاحتكارات. إذ كانت الحرب فرصة للتغطية على التناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي في العراق وأداة للحيلولة دون شيوع اثار الثورة. ان الاطاحة بالجمهورية الاسلامية، او تغييرها أو على الاقل لجم ادعاءاتها الإسلاموية وحصر الثورة في نطاق ايران ومليء الفراغ الناجم عن النظام الشاهنشاهي في المنطقة والظهور بوصفه ممثل نشط للنزعة القومية العربية بوجه تهديدات النزعة الإسلاموية ( وهو الامر الذي عزّز من مكانة العراق بين الدول العربية) هي أهداف واقعية للنظام البعثي.
اما بالنسبة للجمهورية الاسلامية، فكانت تتعقب من الحرب إدامة سلطتها الجديدة وغير الراسخة بعد عبر قمع الاهداف الثورية والمكاسب “الديمقراطية” وفرض التراجع على الروحية الثورية للجماهير وعسكرة المجتمع وتوظيف الحرب لتعميق الاحاسيس والمشاعر الدينية والقومية والوطنية وجر الجماهير خلف الحكومة بحجة “خطر عدو أجنبي”.
وفي هذا السياق المذكور، كانت البرجوازيتان في العراق وإيران تتعقبان اهدافهما الخاصة. والا فان الصراع التاريخي بينهما وقضايا النزاع، على سبيل المثال، كانت موجودة دوما..
استنادا الى هذا التحليلات، صاغ منصور حكمت خطه التكتيكي الذي هو عبارة عن: “الدفاع عن مكاسب الثورة والانتفاضة غير المكتملة وتوسيع هذه المكاسب”. ولهذا حدد مهمة الطبقة العاملة في ايران بالدفاع عن ذلك.
ومن هنا صاغ منصور حكمت مهام الشيوعيين في صلب الحرب سواء في المناطق المحتلة أم في المناطق غير المحتلة. دعى الى عدم الالتحاق بالجبهات ومجابهة هذا الامر. لم يكن شعاره السلام، فهذا شعار غير كاف ومضلل، بل الدفاع عن مكاسب الثورة، وضرورة التصدي لعسكرة اماكن العمل والتصدي للتعدي على سلب الحريات السياسية بحجة الحرب والخ… ودونها بالتفصيل.
أما فيما يخص اليسار في ايران، ظهر توجهان: أحدهما اشتراكي شوفيني، وقف لجانب سياسة “الدفاع عن الوطن” والاخر اناركو باسفستي، دعا الى التكتيك الكلاسيكي، (تحويل الحرب الخارجية الى حرب أهلية). و”تحويل الحراب من صدور الاعداء الى صدور العدو المحلي”. انه تكتيك راديكالي وطنان شكلياً وعديم المحتوى وباسيف وسلبي عملياً. ان كلا التكتيكين يدعوان الطبقة العاملة للانقياد للبرجوازية. الاول كجندي لها في الحرب، والاخر، كعديم الحيلة والسياسة والخطة تحت رحمة البرجوازية. لقد انتقدهما منصور حكمت بجدية ووضوح وفندهما بوصفهما عديمي الصلة بمصالح الطبقة العاملة والاشتراكية.