توما حميد
إن أفضل مقياس لنجاح أي نظام اقتصادي هو مدى قدرته على توفير الحاجات الأساسية للسكان التي يحكمها. يعتبر الغذاء أحد اهم هذه الحاجات الأساسية. من جهة أخرى ان حيوية وديناميكية النظام تقاس بقدرته في التعامل مع الازمات التي قد تحدث بشكل متزامن وتوفير الحاجات الأساسية حتى في ظل تلك الازمات. تواجه البشرية في العالم اجمع اليوم خطر نقص وغلاء المواد الغذائية الأساسية بشكل كارثي.
أصدر رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس ، والمديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا ، والمدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي ديفيد بيسلي ، والمدير العام لمنظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونجو إيويالا بيان مشترك في 13 نيسان 2022 يدعون إلى اتخاذ إجراءات منسقة وعاجلة بشأن الأمن الغذائي العالمي.
ونقل بان الإجراءات المقترحة لمساعدة البلدان الضعيفة تشمل توفير الإمدادات الغذائية الطارئة ومد الدعم المالي للأسر والبلدان؛ وتسهيل التجارة دون عوائق ؛ والاستثمار في الإنتاج الغذائي المستدام والأمن الغذائي
ويدعو هؤلاء القادة المجتمع الدولي إلى دعم البلدان الضعيفة من خلال تقديم مُنح لتغطية الاحتياجات التمويلية العاجلة.
ان صدور مثل هذا البيان قبل عقود كان سيعتبر نسج من الخيال. لا يمكن لأكثر نقاد النظام الرأسمالي شراسة من توجيه ضربة الى مكانة النظام الرأسمالي أكبر من حقيقة ان مثل هذا البيان صدر عن رؤساء أكبر مؤسساته في 2022. يقول البيان.
“إن العالم يهتز بسبب الأزمات المتفاقمة. تضيف تداعيات الحرب في أوكرانيا إلى جائحة كوفيد-19 المستمرة التي تدخل الآن عامها الثالث، في حين أن تغير المناخ وزيادة الهشاشة والصراع يشكلان ضررا مستمرا للناس في جميع أنحاء العالم. يؤدي الارتفاع الحاد في أسعار السلع الأساسية ونقص الإمدادات إلى زيادة الضغط على الأسر في جميع أنحاء العالم ودفع ملايين آخرين إلى الفقر. ويعد الخطر الأكبر على افقر البلدان التي تستأثر بحصة كبيرة من الاستهلاك من الواردات الغذائية، ولكن الضعف يتزايد بسرعة في البلدان المتوسطة الدخل ، التي تستضيف غالبية فقراء العالم. وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أنه مقابل كل زيادة في أسعار المواد الغذائية بمقدار نقطة مئوية واحدة، يتعرض 10 ملايين شخص للفقر المدقع في جميع أنحاء العالم”.
لقد صرحت منظمة الفاو، منظمة الغذاء والزراعة العالمية التابعة للأمم المتحدة في الشهر الماضي بان أسعار المواد الغذائية قد ترتفع بمقدار 20% بسبب الصراع في أوكرانيا. اذ سجل مؤشر أسعار الحبوب التابع للفاو ارتفاع بمقدار 17% في شهر مارس في حين ارتفع مؤشرها لأسعار الزيوت النباتية بمقدار 23% وهي اكبر قراءات في تاريخ هذه الهيئة. لقد قفزت أسعار الغذاء العالمية بمقدار 13% في مارس وهو سجل قياسي جديد عندما تسبب الحرب في أوكرانيا باضطراب في أسواق الزيوت الغذائية والحبوب حسب فاو. وهذا جاء بعد زيادة قياسية في أسعار الغذاء العالمية في شهر شباط أي بمقدار 20.7%. فبنهاية شهر نيسان سيكون أكثر من ثلاثة مليار نسمة يعيشون في الفقر حسب الاحصائيات الرسمية، ولكن الرقم الحقيقي هو اكبر بكثير.
ان القاء نظرة بسيطة على الازمات التي تؤدي والتي ستفاقم نقص وغلاء المواد الغذائية يبين بشكل واضح كيف ان نمط الإنتاج الرأسمالي قد وصل الى طريق مسدود.
تعتبر أوكرانيا مصدر مهم للقمح والذرة والشعير وزيت عبادة الشمس فهي تزود العالم ب 11% من القمح وتعتبر اكبر مصدر لزيت عبادة الشمس فهي مسؤولة عن انتاج 46% من الإنتاج العالمي والتدخل العسكري الروسي قد أعاق بشكل كبير اعمال زراعة وحصاد وتوزيع هذا الزيت واوقف صادرات أوكرانيا عن طريق البحر الأسود في حين تعتبر روسيا ثاني اكبر منتج لزيت عبادة الشمس فهي تصدر 23% من المعروض العالمي، وتقوم اوروبا بمقاطعة شراء الزيت من روسيا. أي ينتج حوالي 70% من هذا الزيت في هذين البلدين التي منع بشكل واخر من الوصول الى الأسواق العالمية. لذا هناك زيادة هائلة في اسعار تلك البضائع. تشكل اربعة أنواع من الزيوت النباتية 87% من زيوت الطبخ التي تستهلك عالميا، حيث يمثل زيت النخيل 34% من مجموع كل الزيوت وزيت فول الصويا 29%، و زيت اللفت (الكنولا) 14% وزيت عبادة الشمس 10%.
ان ارتفاع الأسعار لا يقتصر على البضائع التي تتأثر بالأزمات، اذ عندما حدث نقص في زيت عبادة الشمس، اجبر المستهلكين على التوجه الى البضائع البديلة مثل زيت النخيل وزيت الصويا وزيت بذور اللفت ( الكانولا).
وبما ان هناك كمية محدودة من هذه المواد فان زيادة الطلب يؤدي الى ارتفاع في اسعراها. ونتيجة ارتفاع أسعار زيوت الطبخ قررت اندونيسيا وهي اكبر مصدر لزيت النخيل في العالم حيث تنتج 60% من زيت النخيل الذي هو ارخص الزيوت الغذائية واكثرها استخداما وقف الصادرات الى الخارج بشكل كلي من اجل ضمان توفرها ورخصها في السوق المحلي، وهو الامر الذي هز سوق زيت الطعام من جديد. وهناك نقص في الايدي العاملة التي تعمل في انتاج زيت النخيل في ماليزيا التي تنتج 25% من هذا الزيت عالميا بسبب الوباء. من جهة أخرى قامت الأرجنتين التي هي أكبر مصدر لزيت الصويا بوقف الصادرات لفترة وجيزة في شهر مارس و سوف تصدر كميات اقل منه نتيجة لفصل زراعي سيئ ووضعت ضريبة مقداره 33% على الصادرات من اجل تخفيض التصدير. كما شهدت كندا التي تعتبر أكبر مصدر لزيت الكانولا انخفاض المحصول نتيجة الجفاف الذي ضرب كندا في 2021 وعانت اوروبا من تلف في محاصيل زيت الكانولا في نفس الموسم.
ولهذه العوامل، ارتفعت أسعار الزيوت النباتية في شهر مارس فقط حولي 23 % وسوف نشهد ارتفاع أكثر حدة في اسعارها في الاشهر القليلة القادة نتيجة تأثير الحرب وحظر التصدير من اندونيسيا والارجنتين. وهناك ارتفاع كبير في اسعار القمح نتيجة توقف صادرات القمح من أوكرانيا. وتفاقمت أسعار الغذاء بشكل عام بسبب الزيادة الهائلة في سعر الغاز الطبيعي، وهو مكون رئيسي للأسمدة النيتروجينية. وسيكون لنقص المعروض العالمي من الاسمدة تأثير هائل على الأسعار في المستقبل القريب اذ ان اكثر الأراضي الزراعية الخصبة في العالم وخاصة في أوروبا تم انهاكها وهي لا تنتج الكثير بدون وجود الاسمدة.
يُعتبر القمح وزيت الطبخ حاجات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها. سيحدث في الأشهر القليلة القادمة ارتفاع حاد في أسعارها مع احتمال حدوث نقص حاد مما يعني ان البشرية تواجه خطر كارثة لم نشهدها من قبل. لقد أكد رئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس هذا الامر اذ قال “العالم يواجه “كارثة إنسانية” وسوف يكون التأثير اكبر على الفقراء الذين سيأكلون اقل وسوف يكون لهم أموال اقل لصرفها على أمور أخرى مثل التعليم”.
ان خطر المجاعة في الأشهر القليلة القادمة هو خطر يهدد حياة مئات الملايين، في حين يجد النظام ضرورة في صرف أكثر من 2 ترليون دولار على التسلح في 2021 وسوف تصرف أمريكا واوروبا وحدها اكثر من 20 ترليون دولار في العقد القادم على المسائل العسكرية. لم تعد البشرية بحاجة الى دلائل جديدة على وصول كل النظام الرأسمالي الى طريق مسدود. لقد بات واضحا بان مسألة الإطاحة بهذا النظام هي مسألة فورية وهي مهمة الطبقة العاملة وحدها التي تتحمل وزر فشل هذا النظام. يجب ان يكون النضال ضد الحرب والعسكرتارية، والتضخم والجوع منصة لشن نضال أوسع من أجل قلب هذا النظام التي بات يحدد مصير البشرية برمتها.