قاسم هادي
الكذبة الاولى
بلد منخفض الضرائب
عندما تمكنّت بريطانيا من فرض سيطرتها على الجانب الشرقي من الولايات المتحدة فيما توجهت فرنسا واسبانيا نحو الجنوب والغرب، أرادت بريطانيا توسيع نفوذها من خلال تشجيع الفرد الأوربي للقدوم والمساعدة في فرض السيطرة من خلال وسيلتي إغراء، الوسيلة الأولى هي استقدام المضطهدين دينيًا في اوربا وخصوصا البروتستانت واستغلالهم كجنود مجانيين وعمّال بأجور متدنية، حتى قبل بدء تجارة العبيد من افريقيا، والوسيلة الثانية كانت تشجيع وحث أصحاب الحرف والأعمال التجارية الصغيرة والمتوسطة للانتقال الى امريكا عن طريق توفير اراضي مجانية وبكذبة تقليل الضرائب عن الاعمال التجارية للغرض أعلاه، إضافة الى المساهمة في رفع نسبة السيولة النقدية للدولة والجيش في بداية تشكيلهما. ولكن في الواقع ما قاموا به هو اولا تجزئة الضريبة الى عدة ضرائب بدلا من تقليلها، ثانيا هي منح ما لم يكن ملك الدولة الى الافراد بضرائب قليلة مما يعني فتح الباب للنهب والجرئم الاخرى ضد السكان الاصليين.
واحدة من ابشع الجرائم كان قانون “ملكية وضع اليد” وهو اعلان ان من يضع يده على اي مساحة من الارض ويستطيع ادارتها ستكون له، حيث لم يكن الانتصار على اسبانيا وفرنسا بالحرب وشراء الولايات الغربية والجنوبية منهما كافيا ولا الحرب الأهلية وانما فرض السيطرة على كافة الأراضي التي لم تشمل بالبيع او تستحصل كغنائم حرب واستكمال مجازر السكان الأصليين التي قدّر ماهو مدوّنا منها فقط بمئة وخمسين مليون قتيل، وسلبهم اخر ماتبقى من وجودهم بإرسال كل المدنيين والطامعين بتملك الأراضي والحالمين ليكونوا جيوش مجانية تستولي على النزر القليل الذي بقى للسكان الأصليين. الان وبعد هذا القرار الجائر الإجرامي بعدة عقود يأسفون لما حصل للسكان الاصليين و يخصصون اراضي معينة لهم فيما يسمى ب “مستحقات السكان الأصليين ” والتي لاتتعدى بالواقع كونها معسكرات عزل، وحتى هذه المعسكرات تم الاعتداء عليها عدة مرات وسلبها واستبدالها باراضي اخرى قاحلة عندما يكتشف فيها ايٍّ من مصادر الدخل كالمعادن او النفط او حتى المياه. وقد نعود لاحقا لهذا الموضوع لكن مايهمنا في هذا الجزء ان بناة الرأسمالية الامريكية لم يبدؤوا من الصفر بل استكملوا كل الخبرات التي عرفتها القارة الصناعية العجوز واستخدوا آخر ماتوصلت اليه صناعة التسويق، اي الأعلام للترويج في كل دول العالم ان امريكا هي بلد الفرص لانك تستطيع ان تبني اي مشروع على اي ارض ولاتدفع سوى ضريبة قليلة. ربما هذه فرصة مناسبة لأصحاب الأموال، لكن الحرفيين الصغار عندما اتوا الى امريكا، توجب عليهم الدفع للمعدات والانشاء وتوفير الحماية وهي تكلف بهذه الحالة أكثر من أوربا لكن معظمهم قد حرقوا سفنهم قبل الوعي بهذه الحقيقة.
ان نظام االضرائب بدا متدنيا لانه ببساطة تمثل بضريبة غزوات، حيث ان اصحاب الشركات احضروا جيوشهم الخاصة للاستيلاء على أراضٍ لاتملكها الدولة ليمنحوا الدولة زيادة في رقعتها الجغرافية وزيادة في حجم الجيش المجاني بالنسبة للدولة وسيولة نقدية تدعمها، وحتى بعد ازاحة المنافسين، فرنسا وإسبانيا، بطرق اقل مايقال عنها بشعة فان قادة الاستقلال من حكم التاج البريطاني لم يكونوا بافضل من حكم الملكية البريطانية تجاة السكان الاصليين. تعددت بعدها القرارات والأحكام التعسفية للاستيلاء على كل الأراضي التي تحتوي على ثروات وتقليل معسكرات مايسمى “مستحقات السكان الأصليين” لتشكل مانسبته ٠.٠٠٥٪ من حجم البلاد. كما ان نفس هذه الأراضي لايمكن عرضها للبيع في السوق إلا للسكان الأصليين او للحكومة حصرا، مما جعل سعر المتر المربع الواحد لايتجاوز سعر علبة مشروب ببسي. ناهيك عن تردي الخدمات البلدية والصحية إلى مستويات لاتصدق في داخل تلك المعسكرات. فيما شكل البرنامج التعليمي عقوبات جماعية للأطفال فالخيار هو اما ان “يتم اعادة تأهيلهم” التي تعني عملية تبنيهم من قبل عائلات من اصول اوربية وفرض ديانتهم و حتى يصل الامر الى تغيير اسمائهم او ان يقبلوا بتعليم متدني وسئ مع صعوبة الحصول على المنح الدراسية لتكميل الدراسة.
حسب النظام الضريبي الحالي، بعد ان استنفذت الحكومة الثروات المجانية لتمنحها، فان الشركات الكبرى لديها آلاف الحيل القانونية لدفع اقل نسبة من الضرائب فيما تقع الشركات والمتاجر الصغيرة والحرفيين تحت ضريبة نسبتها ٣٣٪. وذا كانت تلك الشركات لمستثمرين لايحملون الجنسية الأمريكية، فان الضريبة قد تصل ٤٢-٤٥٪، فيما يدفع العاملون نسبة ٢٩٪. كما ان نفس الراتب الذي دفع الافراد ضريبة عليه ليس معفيا من ضرائب اخرى، اذ يدفعون ضرائب على مشترياتهم وعلى فواتيرهم ناهيك عن ضريبة ملكية سيارة او عقار، بالرغم من ان المالك الأصلي للسيارة او العقار هو البنك وليس العامل.ويكفي ان نتذكر ان ٩٢٪ من العمال لاينتهون من تسديد أقساط سياراتهم او عقاراتهم حتى بعد تقاعدهم. و تشمل بعض المواد ضرائب مضاعفة او متراكمة فان شراء الخشب مثلا من راتب مدفوع الضريبة ستدفع عليه ضريبة اخرى، واذ تم تحويله إلى مظلة امام المنزل فان هناك ضريبة اضافة للبناء ثم سينتج عنه ارتفاع ضريبة ملكية المنزل السنوية.
ان الدخل القومي للدولة قائم على الضريبة وفي النهاية تجد ان العامل قد يدفع مامجموعه ١٥٠٪ من دخله للضريبة بدليل انه يعمل بوظيفتين بواقع ٨٠ ساعة في الاسبوع لكنه في نهاية العام فان ديونه للبنوك تزداد لتأمين حياة لاتصل رتبة حياة كريمة. يجدر الاشارة إلى ان هنالك ضرائب اضافية يتم استقطاعها من الرواتب الشهرية كضريبة التأمين الصحي وضريبة لرواتب ذوي الدخل المحدود، وهذا لايعني الحصول على التأمين الصحي بل ان العامل عليه ان يدفع مبلغا لايقل عن نصف قيمة ايجار منزل لتأمينه الصحي الخاص والذي لايغطي اكثر من ٦٠-٨٠٪ من فاتورة زيارته للطبيب او المستشفى او قيمة الادوية وهذا التامين الصحي يشمل الصحة العامة فقط، اما العمليات الكبرى فلها باب خاص بها كما ان شراء تأمين صحي لايغطي طبابة الاسنان والعيون، اذ لكل من هذه الخدمات تأمين صحي وفواتير منفصلة. وكمثال على كيفية صرف تلك الضرائب فان تقرير ٢٠٠٨ يبين ان كل الرواتب والتأمين الصحي وبطاقة الطعام لذوي الدخل المحدود تقدّر ب ٦ مليار دولار سنويا بينما تم صرف ٢٢٠٠ مليار دولار على حرب العراق وافغانستان، مما يعني ان الضرائب التي يتم استحصالها هي ليست منخفضة ولا يتم استخدامها للسبب الذي استحصلت من اجله في نظام الاولويات فيه هي ليست رفاهية الانسان العامل.
الكذبة الثانية
حرية التنظيم/قطاع البريد مثالا
لقد ارتبط النشاط النقابي بنشاط سياسي شديد في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لكن نشاط الرأسماليين والمبالغ التي صرفت في هذا المجال كانت من السعة والحجم كافية إلى تحويل تلك النقابات إلى مكاتب إدارية وصراع عمالي-عمالي في كثير من المنعطفات السياسية والاقتصادية التي ضربت أمريكا في القرنين اللذين تبعاها وكانت فيهما فرصة استلام العمال للسلطة واردة بشكل كبير وممكنة بدرجة عالية. في الكثير من التعريفات الماركسية للنقابة العمالية أنها لا تتجاوز حدود المطالبة بتحسين ظروف العمل والقدرة المعيشية لكن سيطرة التيار اليساري على النقابات جعلها، خصوصا في فترة إنشائها وما عقبها إلى اوائل القرن العشرين جعلها سلاح سياسي فعال ومقتدر بيد العمال، الّا أن التجربة السوفيتية والحربين العالميتين ونشاط الرأسمالية في أمريكا حال دون تحولها إلى حزب شيوعي طليعي مقتدر. بالرغم من اهمية التنظيم النقابي واهمية وجوده وتوسعه واقتداره للتأثير في المنعطفات السياسية وتأمين المستوى المعيشي للعمال لكنه يبقى قاصرا بدون تنظيم سياسي، ارجو هنا فقط تسليط الضوء على التجربة النقابيّة وما آلت اليه وتحت اي تأثيرات وليست دراسة بحثية لأنني قد لا أحيط بكل التجربة الغنيّة بالمنجزات.
لقد اتخذت عمال البريد مثالا لثلاث اسباب، الاول ان شركة البريد هي أكبر شركة عاملة في أمريكا(هي ثاني أكبر شركة حاليا) من حيث سعة الخدمات وعدد العمال، السبب الثاني ان نشاط نقابة عمال البريد هو الأكثر تنظيما وتأثيرا وهي من تمتلك عصب الحياة لدولة بدأت الاتصالات فيها تشكل شريان نموها، اما السبب الثالث والاهم هو ان نقابة عمال البريد وقطاع البريد بالكامل تلقى اكبر ضربة سياسية في تاريخ النشاط النقابي. فبالرغم من تجزئة القطاع البريدي وبيع أجزاءه للقطاع الخاص التي بدأت في نهايات القرن التاسع عشر إلا ان النشاط النقابي والقدرة التنظيمية استمرت لتضعه في المراتب الأولى مقارنة بنشاط نقابات القطاعات الأخرى وتكمن أهميته الكبيرة انه النقابة الوحيدة الفاعلة داخل مؤسسات الدولة لان القطاع الوحيد الذي أبقت الدولة ملكيته لها هو قطاع البريد(كان يشمل قطاع الاتصالات والشحن ايضا). في العام ١٩٧٤ كان العام الحاسم لمقتل هذا الاتحاد حيث ان الإضراب الكبير لعمال البريد في آذار والذي التحق فيه اضراب عمال النقل والشحن بعد اقل من ثلاثة اسابيع شلّ البلاد بالكامل وكانت مطالب الإضراب تشتمل على ١٥ فقرة متعلقة بالأجور وقوانين الطرد وبيع المؤسسات التابعة، وحين قدم الوفد الحكومي للتفاوض مع المجلس الأعلى للاتحاد قدم له عرضا مغريا جدا منقوعا بالسم، حيث عرض الوفد الحكومي الموافقة على ١٣ مطلب من المطالب ال ١٥ بشرط توقيع مجلس الاتحاد باغلبيته تعهد بعدم الدعوة او اللجوء للإضراب او مساندة اضراب اي قطاع آخر واعتباره جرما فرديا. بالرغم انه كان انجازا بتحقيق غالبية المطالب الّا انه كان يعني تسليم الاتحاد أسلحته للدولة فما تعني الحركة او التأثير العمالي بدون اضراب؟.
ان الفرص الكثيرة التي كانت متاحة لفرض الحركة العمالية نفسها على الساحة السياسية إذا لم نقل الاستيلاء على السلطة كانت كثيرة، ازمة ١٩٢٩، نهاية الستينات حين لم تستطع الحكومة تبرير حرب ڤيتنام او خسارتها، النكبات الاقتصادية المتتالية وانتهاءا بازمة ٢٠٠٨ ثم ازمة كورونا،، كل هذه الأزمات اثبتت عدم جودة بل ونجاح النظام في تهميش الحركة العمالية بنقاباتها وتياراتها السياسية المختلفة واثبتت تحولها إلى صالونات ومكاتب ادارية. واحدة من ارخص وابشع الوسائل هو دق الإسفين بيت النقابات أنفسها فنقابة عمال المناجم ونقابة عمال الحديد والصلب كانت من النقابات الفاعلة إلا ان الشركات الكبرى منحت عمال الحديد امتيازات اكبر ومنحت اعضاء اتحادها مخصصات مالية كبيرة جعلت من الصعب التصديق ان عمال الحديد والصلب قد يدافعون عن عمال المناجم هذا الفصل والدعاية الإعلامية حول رواتب عمال الحديد التي قد تصل إلى عشرة اضعاف رواتب عمال المناجم جعلت العمل المشترك والمساندة في الإضراب والاحتجاجات بين الاتحادين حالة شبه مستحيلة، فيما ساهمت اسباب اخرى كالاغتيالات والرشاوى والحملات القومية لسلسلة الحروب والدعاية السياسية ضد الشيوعيين إلى تفتيت تلك الصلات السياسية بين النقابات من جهة والضعف السياسي والصراع الاجتماعي داخل الاتحاد الواحد.
كان هنالك عامل اجتماعي مهم يعمل بهدوء بالخفاء، بني هذا العامل على تركيز الرأسمالية على دراسة التيار اليساري بشكل عام داخل امريكا وحيث ان اليسار لن يكتمل بناءه بدون الاجتماع العام والذي يبنى عليه التنظيم، لذا فان التركيز مختبريا واعلاميا وأكاديميا على اهمية الفردية (الإنفرادية او الفردانية) كان يجري على قدم وساق وتم التركيز عليه في التعليم العام مبتدءا برياض الأطفال. ان تقديس الفردية واعتبارها نهاية الشرور والسعادة الأبدية لما تتضمنه التنظيمات المختلفة بالتجاوز على حدود الفردية واعتبارها جريمة اجتماعية كانت البنية البديلة التي تقترحها الرأسمالية ليس لاهتمامها بالفرد او خصوصيته وهي التي تقتله كل يوم وتعتصره في سوق العمل حد الجزع بل لانها ترى في اي تجمع او تنظيم مصدر تهديد لوجودها وقد نجحت في تعميق تلك الفردية وتأليهها وفرضها على الوجدان الاجتماعي ليقبل قدسيتها وقد فعل. وفي المراحل المتقدمة من هذا الوهم المصنع مختبريا صار غالبية الأفراد يرون حريتهم وسلامتهم تكمن في التركيز على انفسهم وحماية استقلالهم الفردي وبالتالي تترجم إلى الانعزال عن المجتمع هو حرية بحد ذاته، اما اللقاءات الاجتماعية فهي ليست اكثر من الحصول على السعادة الشخصية فان لم يتحقق ذلك فلتغرب تلك التجمعات عن وجهي. أنا بشكل شخصي ارى كل ذلك مهم لكل شخص ولكن كل المفهوم الاجتماعي وكل تلك العلاقات الإنسانية القائمة على مبدأ العمل معا لمستقبل افضل تم نسفها داخل مفهوم الفردية المظلل.
لا انكر ان النشاط العمالي بشكل عام والتنظيمي بشكل خاص يأخذ منحى آخر منذ ازمة ٢٠٠٨ ولحد الآن معتمدا على الوعي السياسي والتخلص من وهم العدو الأكبر في المرحلة التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي وتكشير الرأسمالية عن انيابها بشكل واضح وهجومها غير المبرر على كل منجزات الحركة العمالية والحركة الاحتجاجية وقرارات الغاء وتقليص كل القرارات الحكومية التي تم تبنيها في فترة الحرب الباردة والدعاية لدولة الرفاه وفترة قوّة تاثير الحركة الاحتجاجية والعمالية في مطلع القرن العشرين إلى ابعد من منتصفه بقليل. الّا ان الحركة الاحتجاجية الجماهيرية او الحركة العمالية بشكلها التنظيمي الهرمي والنقابي لايمكن ان يشكل سلاحا خطرا على وجود النظام ولايمكن ان يكون ابعد من تأثير خفض معدلات الربح والضغط الاقتصادي والإعلامي والذي من الممكن تجاوزه بالتنازل عن جزء قليل من ارباح الرأسمالية او وعد حكومي بالإصلاح تحقق او لم يتحقق.