الأخبارالمقالاتسمير عادل
أخر الأخبار

إقليم البصرة والسياسات الكامنة خلفه

سمير عادل

تتحجج الأحزاب السياسية البرجوازية وممثلوها بالمشاريع السياسية التي تستهدف تفخيخ مستقبل الطبقة العاملة في العراق، والجماهير عمومًا، بادعاء أنها تستند إلى الدستور، وأنها تمثل “حقًا دستوريًا”، إلى جانب سلسلة من المزاعم المشابهة.

بيد أن من الضروري التوقف عند نقطتين جوهريتين: أولًا: إن الدستور العراقي، عند صياغته وإقراره، لم يكن نتاجًا لإرادة شعبية حرة، بل جاء انعكاسًا لتوازنات قوى فرضتها حراب الاحتلال وغزو العراق. وقد جرى التصويت عليه في غفلة من الزمن، بينما كانت الدماء تملأ الشوارع، والبلاد تعيش إحدى أكثر لحظاتها اضطرابًا وفوضى. وفي هذا السياق يُنسب إلى أحد الاقتصاديين قوله: “اشترِ الأرض حين لا تزال الدماء على الأرض”، وإذا ما أسقطنا هذا المنطق من حقل الاقتصاد إلى حقل السياسة، نجد أن الأحزاب الإسلامية والقومية التي جاءت على ظهر الاحتلال، ونُصِّبت على رقاب الجماهير، قد استثمرت هذا الدستور المأزوم— بما يحمله من مواد متناقضة وتفسيرات متعددة — لتمرير مشاريعها السياسية بين حين وآخر، وفقًا لاتجاه الرياح التي تعصف بالمعادلة السياسية. ثانيًا: لا بد من التأكيد على أن الادعاء بالحق الدستوري، أو الاستناد إلى الدستور، لا يُعدّ بحد ذاته مبررًا لحقانية أي طرف، ولا يضفي الشرعية الأخلاقية أو السياسية على مشاريعه أو مواقفه.

في مرحلة احتلال العراق، وتحديدًا عام 2007، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية تقديم النموذج الفيدرالي كصيغة لتقسيم العراق إلى أربع فدراليات، عبر مشروع عُرف إعلاميًا باسم “مشروع بايدن”. وقد صوّت الكونغرس الأمريكي عليه آنذاك، لكنه كان قرارًا غير ملزم، ولا يحمل صفة التنفيذ الفعلي.

جاء هذا المشروع في أعقاب فشل الولايات المتحدة في فرض الاستقرار السياسي والأمني في العراق، وعجزها عن ضبط المشهد الداخلي الذي تدهور بشكل متسارع بعد الغزو. وكانت الخطة المقترحة تقوم على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية العراقية وفق تقسيمات طائفية وقومية، بحيث تتوزع البلاد إلى: إقليم شيعي في الجنوب، وإقليم سني في الغرب، وإقليم كردي في كردستان، إضافة إلى إقليم رابع يتمثل في بغداد ومحيطها.

اليوم وبعد اكثر من عقدين، المشروع الفيدرالي في العراق، أو مشاريع إقامة وتأسيس الأقاليم، أثبت فشله بامتياز. وقد اعترف حتى مهندسو هذا المشروع وصانعوه، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية. ففي مقابلة مع إحدى الفضائيات العربية قبل نحو شهر أو أقل، قال مبعوثها إلى سوريا ولبنان، توم براك، إن النموذج الفيدرالي يعتبر نموذجًا فاشلًا في الشرق الأوسط، ردًا على سؤال حول مطالب “قسد” أو الدروز بتأسيس حكم فيدرالي في سوريا.

والسبب الواضح في فشل هذا النموذج هو أنه — كنموذج برجوازي لإدارة السلطة — بات يشكل عبئًا على الطبقة البرجوازية بامتدادها الإقليمي والعالمي. لقد أصبح عائقًا أمام نمو الاستثمار الرأسمالي وجذب الاستثمارات الكبرى، إذ تحول إلى عامل يكرس عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. وهذا ما يهدد دخول رأس المال ويحدّ من تحركه بحرية والعمل وفق قوانينه في سبيل تراكمه وزيادة أرباحه.

قد يجادل البعض بأن هناك نماذج فيدرالية عديدة في العالم أثبتت نجاحها. وهذا صحيح، لكن تلك التجارب لا تشترك مع المشاريع الفيدرالية في الشرق الأوسط إلا في العنوان فحسب. ففي تلك البلدان، استطاعت الطبقة البرجوازية خلق حدٍّ مقبول من الاستقرار السياسي، وتم تطبيق النظام الفيدرالي على أساس التقسيم الإداري، لا على أساس التقسيم العرقي أو القومي أو الديني أو الطائفي أو المناطقي.

أما النموذج الفيدرالي القائم أمامنا اليوم في العراق، والمتمثل في إقليم كردستان، فقد جاء هو الآخر نتيجة توازنات القوى التي فُرضت مع بداية الاحتلال الأمريكي، ولم يُقدّم نسخة صالحة يمكن الاحتذاء بها. فالإقليم نفسه منقسم إلى مركزين متنازعين للسلطة: أربيل والسليمانية، وقد أُجريت انتخابات برلمانية قبل أكثر من عام، دون أن تتمخض عنها حكومة جديدة بسبب الصراعات السياسية الداخلية.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمتد إلى صراع الثروات المزمن بين بغداد وأربيل، الذي لم يهدأ يومًا. وفي قلب هذا الصراع، يقف العمال والموظفون في كردستان كأول المتضررين، إذ يدفعون ثمن التنافس السياسي والاقتصادي من قوتهم ومعيشتهم. فقد خسروا خلال سنوات الأزمة بين 2014 و2021 اكثر من 52 من الرواتب المتراكمة تحت يافطة “الادخار الاجباري”، فضلًا عن فقدانهم ما يقارب راتبين إلى ثلاثة رواتب سنويًا خلال الأعوام الأربع الاخيرة، نتيجة تعطّل صرف المستحقات أو تأخرها أو اقتطاعها.

هذا إلى جانب حالة عدم الاستقرار السياسي المستمرة، التي تُهدد أمن الجماهير وسلامتها، بينما يظلّ الخطاب القومي سيفًا مسلولًا يُستخدم في كل صراع محتدم، ينتظر من يرفعه ليقطع به رأس خصمه، في مشهد يعكس هشاشة البنية السياسية وغياب الأسس المدنية الجامعة.

إن ما يُطرح اليوم تحت عنوان “إقليم البصرة” لا يمتّ بصلة — لا من قريب ولا من بعيد — إلى النماذج الفيدرالية في العالم، كما أنه غير مرتبط بتحسين الأوضاع الاقتصادية لجماهير البصرة. بل إنه مشروع يُطرح كتحصيل حاصل لحرف الأنظار عن فساد النهب المنظّم الذي مارسته، وما زالت تمارسه، الأحزابُ والشخصياتُ المروّجة لهذا الإقليم.

فعلى امتداد سنوات حكم هذه القوى، لم تقدّم تلك الأحزاب، ولا من يدور في فلكها أو يشاركها أفقها السياسي، أي مشروع اقتصادي حقيقي لمعالجة البطالة أو إيجاد حلول جذرية لمشكلة العاطلين عن العمل. بل على العكس، تعرّض المحتجون من العاطلين في البصرة، منذ حكومة حيدر العبادي ومرورًا بحكومة عادل عبد المهدي اللاحقة وصولًا إلى حكومة السوداني الحالية، إلى القمع والضرب والاعتقالات. كما شهدت البصرة موجاتٍ من الاغتيالات السياسية التي استهدفت المعارضين، وخصوصًا في صفوف النساء، في ظلّ مناخ أمني هشّ تُستخدم فيه القوة لإسكات الأصوات المنتقدة.

وإذا ما دققنا في الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذا المشروع، نجد الآتي: على الصعيد السياسي، وفي ظل كل احتدام للصراع على النفوذ السياسي والاقتصادي، يطلّ سيف المناطقية ليُستخدم أداةً في الصراع، ليس فقط داخل البصرة، بل أيضًا للتأثير على وعي جماهير المحافظات الأخرى، عبر تصوير التنافس بين القوى المتنفذة وكأنه تناقض بين سكان المدن والمحافظات، لا بين طبقة فاسدة مستحوذة وجماهير محرومة.

أما على الصعيد الاجتماعي، فيُسهم هذا النموذج في تعميق الهوّة بين المحافظات والمدن، ويعيد تشكيل الغضب الشعبي باتجاه صراع مناطقي، بدل أن يبقى موجَّهًا نحو الفساد الحقيقي ومراكزه في السلطة ببغداد والبصرة. فيتحوّل النقاش العام إلى سرديات تُحمّل أبناء العمارة أو بغداد أو السليمانية أو دهوك او الأنبار او صلاح الدين مسؤولية الحرمان، وكأنهم هم من يستحوذ على خيرات البصرة دون وجه حق، بينما الواقع الذي يعرفه الجميع أن جماهير العراق، في كل مناطقه، تعيش الحرمان نفسه، وأن الاستحواذ على الثروة لا يتم إلا من قبل الأحزاب والقوى القومية والطائفية والإسلامية المتنفذة في السلطة، التي تحتكر الموارد وتُقصي الجماهير عن عدالة التوزيع.

وأخيرًا، إذا قُدّر للعراق أن يبقى جغرافيا موحّدة، فيجب أن يخضع لقانون واحد يُطبّق على الجميع دون تمييز. إن مشروع “إقليم البصرة” لا يقدّم إجابة على مشكلة البطالة، ولا يعالج نقص الخدمات، ولا يتصل بتحقيق الحرية أو المساواة. إنه مشروع مناطقي يُعاد إنتاجه على غرار المشاريع الطائفية والقومية التي مزّقت المجتمع العراقي، عبر تقسيم البشر وتعريفهم في العراق على أساس الهويات الضيقة، لكنه هذه المرة يُطرح تحت لافتة “الهوية المناطقية” بدلًا من الهوية الدينية والطائفية أو القومية. وهو سياسة تهدف إلى تكريس الهيمنة والاستحواذ على ثروات المحافظة، وضبط مفاصل السلطة فيها وفق مصالح ضيّقة، ليس اكثر.

إن مصالحنا تقتضي أن نتوحّد نحن العمال في البصرة قبل أي مدينة أخرى في العراق، وأن نفوّت الفرصة على محاولات دقّ الأسافين بيننا في أي مكان من العراق. وكذلك أن تتوحّد معنا الجماهيرُ المتمدنةُ، والتوّاقةُ إلى الحرية والمساواة، لإحباط هذه المشاريع المقيتة. وأن نوجّه بوصلة نضالنا، ونصال كفاحنا، نحو صدور من وضعونا في حالة الفقر المنظّم والإفقار الدائم، وأبقَونا في دوّامة العوز والحرمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى