
فارس محمود
تحت ضغط اجتماعي واسع، تجلّى في وسائل التواصل الاجتماعي، وتظاهرات في البصرة وبغداد وعدد من مدن العراق، اضطرّ مجلس القضاء الأعلى إلى “التراجع خطوة إلى الوراء” وفتح “تحقيق” في مقتل الطبيبة بان.
ومع ذلك، ورغم وفرة الشواهد الملموسة والمروّعة على جسد الضحية، وظروف وملابسات القضية، وخاصة الاتهامات الموجهة إلى محافظ البصرة، ومحاولاته لإجبار الطبيبة بان على إصدار تقرير طبي يصف فيه شقيق زوجته، المدعو (ضرغام)، بأنه غير سليم عقليًا لتجنيبه حكم الإعدام بعد قتله أستاذة جامعية — رغم كل هذا، يخرج مجلس القضاء ليعلن أن بان “انتحرت”!
أي منطق هذا؟ بأي أدلة توصلت اللجان إلى هذا القرار؟ المبررات التي ساقها المجلس هي تافهة وسخيفة إلى حدٍّ يثير الغضب، وإهانة سافرة لعقول الناس!
قضاء عادل؟ أم أنكم تمزحون؟
من يؤمن بوجود قضاء عادل وطب عدلي نزيه في عراق اليوم، فهو واهم حتى النخاع. أليس هذا القضاء هو من سكت عن قتل نحو 800 متظاهر خلال انتفاضة تشرين 2019 على أيدي الميليشيات، دون أن يحرّك ساكنًا حتى اليوم؟
أليس هو من أطلق سراح ضابط ميليشيا ولائي اعترف علنًا بقتل الباحث هشام الهاشمي، ليُكرّم لاحقًا في إيران؟
أليس هو من لاذ بالصمت إزاء فضيحة “سرقة القرن” التي تورط فيها نور زهير، والذي يعيش اليوم في دبي بحرّية تامة؟
أليس هو من برّأ ابن محافظ النجف المتهم، بالأدلة، بتجارة المخدرات وأطلق سراحه؟
أليس هو من تجاهل جرائم قتل النساء، خاصة في البصرة؟
أليس هو من حكم على طفل يبلغ 12 عامًا بالسجن سنةً كاملة فقط لأنه سرق علبة مناديل ورقية؟!
وغيرها عشرات، بل مئات الأمثلة. فأي “عدالة” تتحدثون عنها؟
إنه ليس قضاءً مستقلًا، بل هو جزءٌ عضويٌ من بنية دولة المافيات. هو صمام الأمان لسلطة القتل والنهب، ودرعها أمام أي محاولة قانونية للمساءلة.
في بلد تعبث فيه الميليشيات والمافيات دون رادع ولا ضمير، لا مكان للحديث عن “حقوق”. فما هو حقك، أو ليس حقك، تقرره هذه المنظومة المنفلتة المتغطرسة. والنساء هن الضحايا الأبرز. من السهل أن تُقتل فتاة لأنها رفضت الزواج، أو طلبت الطلاق، أو فقط لأن لها صوتًا. أي مأساة نعيش؟ أي استهتار هذا؟
القضية سياسية بامتياز
ما إن شاع خبر مقتل الطبيبة بان، حتى انفجر الغضب الشعبي. ناس من مختلف فئات المجتمع عبروا عن سخطهم عبر وسائل التواصل، وانهالوا سُبابًا وشتائم على شخصيات كالعيداني و”الشيخة”، وسخريةً من الانتهازي سيء الصيت مصطفى سند ومن يدور في فلكهم، ناهيك عن “زبابيكهم” الإلكترونية، وما أكثرهم!
لم يشهد المجتمع العراقي غضبًا اجتماعيًا وسياسيًا بهذا الحجم منذ هبّة تشرين 2019. ارتبك العيداني ومن على شاكلته، و”تصخّمت” وجوههم. كان لا بدّ من إخراج “حلّ” سريع… وإلّا ستتحول القضية إلى قنبلة سياسية تهدّد كل العملية السياسية المهترئة. فأوعز السوداني بإرسال لجنة من بغداد. وبعد يومين أو ثلاثة، خرجت النتيجة: “انتحار”! أُغلقت القضية وسط ذهول الجميع.
لكن القرار لم يُتخذ من أجل “عيون العيداني وشيخته”، بل لحماية المنظومة السياسية برمتها من عاصفة الغضب الشعبي. لذلك لم يكن القرار فنيًا، أو طبيًا، أو جنائيًا، بل سياسي بامتياز. هم يدركون حجم الغضب الجماهيري جراء الفساد، والنهب، وتغوّل الميليشيات، وسلب مستقبل الشباب. ويعلمون أن لحظة شرارة قد تطيح بكل شيء.
تأتي هذه الحركة العامة والواسعة في وقت حساس، يشهد تراجعًا كبيرًا في نفوذ هذه المنظومة ومحورها الإقليمي، إثر ضربات تلقاها من لبنان وسوريا واليمن، مرورًا بالعراق، وصولًا إلى طهران. ولهذا يسعون بكل جهد إلى لجم بركان الغضب الشعبي المتصاعد.
ما العمل؟
يسعون إلى “طمس” القضية، وإعادة الناس إلى بيوتهم، لمواصلة مسلسل النهب والفساد وكأن شيئًا لم يكن. لكن المجتمع لا يمكنه الرجوع إلى ما قبل جريمة مقتل الطبيبة بان. ولا يمكنه السكوت عن هذا القدر من الإجرام، خصوصًا ضد النساء، وخاصة بعد هذه الفضيحة.
لا بد من فضح هؤلاء القتلة، وممارسة أوسع ضغط سياسي واجتماعي على هذه الطغمة الحاكمة.
وعندما يبلغ هذا الضغط مداه، لن يكون أمامهم إلا الرضوخ، وسنراهم يعيدون فتح التحقيق بلغة جديدة ولجان جديدة.
القضية مرهونة بضغط “الشارع”، ضغط قوى التحرر والمساواة والدفاع عن المرأة، هذا “الشارع” الذي أثبت في الأيام الماضية أنه واسع، نابض، مدني، ومليء بالإرادة لتغيير الواقع. إنه يحمل ملامح مجتمع جديد، يستند إلى الحرية، والمساواة، والكرامة، والعدالة.
فلْتكن هذه الهبّة منطلقًا لحركة أوسع، بوصلتها إنهاء العنف ضد النساء، ومنع التطاول على أجسادهن، وحرياتهن، وحقهن في الحياة والسعادة.
19 آب 2025