إنه نموذج لانعدام المسؤولية السياسية والأخلاقية! (عن خطاب مقتدى الصدر حول فض اعتصام المنطقة الخضراء)
بعد فشل تكتيكاته السياسية الذريع ورؤية ان مسارات الامور تسير باتجاه لا يحمد عقباه، هرع مقتدى الصدر لشاشات التلفاز ليتحدث مرتبكاً ومذعوراً وفاقداً للكياسة والحكمة وصارخاً: “القاتل والمقتول في النار…”، “القاتل والمقتول في النار…”، بل ويمعن كمن يغرز السكين اكثر: “هل اكررها بعد لو كافي؟!”… القاتل والمقتول ليسوا في “نار جهنم” مزعومة، بل كانوا وللأسف وقود نار تياركم وسياساتكم ونهجكم وخصومكم على السواء، نار تيارات ميليشياتية طائفية متكالبة على السلطة والحكم.
أثمة استهتار بحياة الناس أكثر من هذا؟! أثمة تحقير لأناس لم يكن خطئهم سوى انهم التحقوا بنداء “القائد” وبتشدقاته حول “الاصلاح” و”التغيير” و”محاربة الفاسدين والفساد”! ان حديثه هذا هو نموذج على انعدام المسؤولية السياسية وعدم تحمل مسؤولية سياسات أتخذها بنفسه لتيار بني على أساس “حكمة القائد” و”قدسية الزعيم وآل الصدر”.
لقد كان صراعاً سياسياً حاداً يخوضه الصدر وتياره بالأخص منذ اشهر ارتباطا بالانتخابات. يهدد خصومه، يصارعهم بحكومته المقبلة، “الصدرية القحة” و”حكومة الأغلبية”، يدخل البرلمان بأغلبية واضحة ويخرج منه، ليترك للآخرين تشكيل الحكومة، وحين يبادر الاطار بذلك، ينقض وعده وينقلب على البرلمان ويحتله، ويحاصر المحكمة الاتحادية ويحاصر البرلمان، ويقتحم مقر رئيس الجمهورية، و سعى لحشد الجماهير حول كذبة “ثورة عاشوراء” ودعا كل من يريد التغيير الارتباط به لان “التغيير لا يأتي الا من خلالي!!!”، ولكن لم يأتي “الشارع” ورائه مثلما تصور. ولأنه بلغ مأزق ان خصومه لا يرضخون مع كل ما قام به، تحدث عن “اترككم للشعب يتعامل معكم فقط، وانا لا علاقة لي بعد”، وفي الحقيقة كان يُصعّد بالأمور. إذ انتشرت قوات السلام التابعة للتيار الصدري في عموم بغداد وهاجمت مقرات الجماعات الميليشياتية الاخرى في بغداد وبقية المحافظات، ودفع التيار الصدري البلد الى أعتاب حرب اهلية بكل معنى الكلمة، إذ قُتل ما يقل عن 40 شخص وجرح ما يقارب 300 اخرين!
وحين رأى النفق المظلم الذي يمر به تياره والوضع إجمالاً، خرج ليشن هجومه على “المنتفضين”، أتباعه، ويصرخ بوجههم من الذي قال لكم ان تعملوا هكذا؟! من الذي قال ان تعرضوا أمان العوائل والابرياء للخطر. متناسياً ان وجود تياره وميليشياته كان بحد ذاته مبعث تهديد لأمان الناس، وان ميلشياته ازهقت ارواح الالاف من الابرياء والعزل. اصبح فجأة “حمامة سلام” صارخاً: تحدثنا عن ثورة سلمية، أهذه هي السلمية؟!” انقضت يوم وليلة وجزء من يوم اخر تحولت فيه بغداد الى ساحة حرب بكل معنى الكلمة، دون ان يقول شيئاً، يتحدث كما لو أن لا علم له بكل ما يجري، ناهيك عن تدخله! ان سؤالاً يطرح نفسه، لماذا جرى كل ما جرى دون ان يلتزم مناصريه وفق روايته، ولكن حين زعق عليهم وانذرهم بإخلاء المنطقة الخضراء و”الا اتبرأ منكم!”، اخليت المنطقة الخضراء فعلا بعد اقل من ساعة!!
القى بجريرة ما جرى على رؤوس أتباعه. ما قام به الصدر ليس بجديد، وفي عالم السياسة والحياة له اسم “اخلاء الكاهل ورمي الأخطاء الدموية على كاهل اتباعه”! رمى بالمسؤولية السياسية على أتباعه، على “القطيع” دون ان ينبس احد منهم بكلمة!! دون أن يقول له احد من اتباعه “انك المسؤول! هذه سياساتك وهذه مشاريعك” وأنك كدت ان ترمي المجتمع كله باتون حرب اهلية مدمرة بحدود لا تصدق ببساطة لان الدول الاقليمية لن تقف مكتوفة الايدي، وكل منها يمد عملائه بالمال والسلاح من أجل تامين مصالحها في العراق والمنطقة.
انه تكتيك بائس! شعر الصدر بأن الجدار أسمك منه ومن قواه، لان في هذه المرة هناك ظروف عالمية جديدة تتحكم باللوحة. ولهذا تراجع! ان ملخص هذه الظروف هو اقتراب توصل ايران وامريكا واوربا الى اتفاق نووي (من الممكن في غضون اسابيع!) وقررت ايران، مستغلة هذا الوضع الجديد، بالتدخل في الوضعية عبر قناة الضغط على الحائري الذي هو مرجع مقتدى والتيار الصدري لشق صف التيار الصدري عبر دعوته الى “جميع المسلمين بإطاعة ولي الفقيه علي الخامنئي” و”كون احد ما من اهل الصدر بحد ذاته لا يكفيه للحكم والقيادة ولا يعني الاهلية” وهي ضربة جدية موجهة للصدر. اي سحب مرجعية مقتدى والتيار يده من مقتدى!
لقد تلقى الصدر ضربة سياسية قوية للتيار الصدري عموماً ولشخص مقتدى الصدر على وجه الخصوص. وان خطاب الصدر المرتجل هو فضيحة سياسية بكل ما للكلمة من معنى. ولكن المسالة لا تتعلق بالصدر وتقلبات الصدر وتخبطاته التي لا تعد ولا تحصى، وانما باتباعه. اذ على اتباع الصدر وعلى المتوهمين به وبكذبة “اصلاح” الصدر ان يعوا الدرس جيدا. درس مفاده: ليس أمراً صعباً ومكلفاً ان يبيعهم الصدر، بل اسهل من شرب كاس ماء. وهذه ليست المرة الاولى. افتقد الصدر للشجاعة السياسية والاخلاقية لتحمل مسؤولية تبعات ممارسته السياسية وعمليات الشدّ السياسي وكسر العظام التي جرت منذ قبل الانتخابات وتواصلت، وتوجّها بالمجزرة التي ارتكبت اخيرا بحق اتباعه.
لو كان للصدر ذرة من الخجل لما رمى بوزر ما جرى على كاهل من دفع حياته ثمن من اجل مقتدى و “آل الصدر”! إذ بدل من تحمل المسؤولية السياسية، رمى الصدر مسؤولية هذه النار على كاهل من تم قتلهم؟! لو لديه ذرة من البصيرة والاحساس بالآخرين لفكر قليلاً وقال: ماذا سيقول اهل الضحايا حين يسمعوا كلامي هذا حول ابنائهم؟! أنهم في وسط مأساة فقدان ابن شاب لهم، و يخرج “زعيمه” و”قائده المقدس” من على شاشات التلفاز ويراه الملايين يتحدث عن ان مصير ابنكم “القتيل” هو النار!!! ان رد عوائل الضحايا ينبغي ان يكون واضحاً: إن أولادنا ليسوا “في النار”، ولكن ما نعرفه اكثر ان دمائهم وعقود من العمر قادمه بكل ما فيها من ماسينا ومصائبنا وفقدنا ولوعتنا وفقرنا وجوعنا الناجم عن غيابهم هي كلها في رقبتك ورقبة تيارك المشؤوم، ونلعن تلك الساعة التي مشى ابنائنا خلفك! أتساءل كيف لأحد يمتلك ذرة من الفهم والاحساس والانسانية والشعور باحترام النفس أن يسلّم امره ونفسه للصدر والتيار الصدري مرة اخرى!
ان هذا درس كبير لجماهير العراق كي تفصل نفسها عن هذا التيار الذي لا يمت بأدنى صلة بتغيير حياة الناس نحو الحرية والمساواة والرفاه والسعادة!