يعرف جنوب الجزائر منذ أسبوع موجة احتجاجية عنيفة عمّت العديد من المدن والمحافظات الجنوبية، وهي الاحتجاجات الأكبر منذ سنوات، وتأتي هذه الاحتجاجات مطالبة بحل أزمة البطالة التي تعرفها المنطقة، وغياب التنمية، والفقر، والتهميش الذي يشتكي منه سكّان هذه المناطق، حسب نشطاء من نفس المكان.
بدأت هذه الاحتجاجات في منطقة عين البيضاء بمحافظة ورقلة، حيث تناقل النشطاء صورًا وفيديوهات لتعامل القوات الأمنية مع الاحتجاجات بصورة قاسية، وأنباء عن إصابات في صفوف المتظاهرين نتيجة دهسهم بمدرّعات الشرطة، وسرعان ما انتقلت شرارة الاحتجاجات إلى العديد من المدن داخل هذه المحافظة الصحراوية، من بينها الرويسات وحاسي مسعود.
شرارة الاحتجاجات تتوسّع.. ومدن جنوب الجزائر تنتفض
صحيح أن مناطق جنوب الجزائر – مثل ورقلة – كانت تعرف طوال السنوات الماضية احتجاجات من نفس النوع، من بينها احتجاجات سنة 2018 – التي عرفت زخمًا كبيرًا – بعد رفض مجموعة من النشطاء إقامة حفلات غنائية في المنطقة، ومطالبتهم بتوجيه هذه الأموال لتوفير فرص عمل، لكن المثير للاهتمام في الهبة الاحتجاجية الأخيرة هي توسّعها الشديد، وانتقالها إلى أحياء ومدن جنوبية بسرعة، من بينها مدن تقرت، والبرمة، وإيليزي.
احتجاجات ورقلة – مصدر الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي
وقامت مجموعة من المواطنين بإغلاق الطريق العمومي في محافظة «وادي سوف» مطالبين بإيجاد حلول لأزمة البطالة التي تعرفها المنطقة، وخلال أيام قليلة اتسعت رقعة الاحتجاجات لتصل إلى كل من ورقلة وغرداية، بالإضافة إلى تقرت، والمغيّر، ومدينة الجامعة، بالإضافة إلى إيليزي وعين صالح.
وتمتلك منطقة ورقلة خصوصية شديدة الحساسية؛ إذ توجد بها العديد من الشركات البترولية النشطة بسبب توفّرها على احتياطيات مهمة من النفط، وتوصف بأنها «أغنى محافظة في الجزائر»، لكن واقعها التنموي لا يعكس حجم الثروة التي توفّرها، وهو ما يمكن رؤيته من خلال حالة البنية التحتية بها، كالطرقات، أو المرافق العامة، بالإضافة إلى الحركات الاحتجاجية التي لا تهدأ؛ إذ سرعان ما تظهر في كل مرة مشكلة البطالة والتنمية؛ لتعود الاحتجاجات بصفة دورية.
بالإضافة إلى حساسية المنطقة من خلال تواجد الشركات البترولية المحلية والأجنبية فيها، فإن المنطقة تعرف أيضًا تواجدًا أمنيًا وعسكريًا شديدًا؛ إذ يوجد فيها مقر الناحية العسكرية الرابعة، وتنتشر فيها عشرات الثُّكْنات من كل جهة، وهو ما يُلقي بظلاله على طريقة تعامل السلطات مع الحركات الاحتجاجية، باعتبارها أزمة أمنية ينبغي التعامل معها بالقوة؛ باعتبارها تهديدًا للأمن القومي، وليس بالسياسة.
يعاني النشطاء السياسيون والحقوقيون من التضييق الأمني الشديد، وتنظر إليهم السلطات على أنهم محرّضون على العصيان وإشعال شرارات الاحتجاج، كما يتعرّضون للاعتقال بصورة ممنهجة، من بين هؤلاء كلٌّ من محاد قاسمي من محافظة أدرار، بالإضافة إلى عامر قراش من ورقلة.
الاعتماد على الأمن لا السياسة.. هل يؤدي بالاحتجاجات نحو التطرّف؟
هذه المدينة كانت قد شهدت تحوّل تنظيمات ذات مطالب تنموية سلمية إلى حركات مسلّحة بسبب التعامل الأمني الصارم معها، ثم اقتربت من الحركات المسلحة التي تنشط في الساحل، وهو ما يعزّز من حالة التشكك التي تنظر بها السلطات إلى الحركات الاحتجاجية، كما يقوّي الانتقادات من جانب المعارضين ضد التعامل الأمني البحث مع مطالب اجتماعية تنمويّة.
في حوار لـ«ساسة بوست» مع نذير بوخطة، الناشط السياسي والحقوقي من الجنوب الجزائري، وضّح لنا الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات الأخيرة حسب روايته: «المعطّلون عن العمل منذ 58 أسبوعًا يقومون بالاحتجاج السلمي أسبوعيًا أمام مقر الولاية، دون أن يُجرى الحوار معهم، أو يُستجاب لتطلعاتهم، وفي آخر وقفاتهم جرى تعنيفهم، واستعمال القوة لتفريقهم، رغم أنهم كانوا سلميين، وفي بلدية عين البيضاء أيضًا قاموا بوقفة سلمية، فجرى تعنيفها، وتفريقها بالقوة، فالسلطة لا تحاور المعطلين، ولا تصغي لهم، والإعلام لا ينقل أصواتهم، ولا مطالبهم، ولهذا جرت مواجهة العنف بعنف مضاد، ثم توسعت الاحتجاجات بسبب تجاهل السلطات لملف العمل ومعاناتهم».
احتجاجات ورقلة – مصدر الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي
وقد ربط تقرير لـ«معهد كارنجي» بين الاحتجاجات في الجنوب الجزائري، والأزمة الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الجزائري؛ فتراجع مداخيل النفط في السنوات الأخيرة جعل النظام السياسي غير قادر على توفير السلم الاجتماعي، وتهدئة الغليان الشعبي، من خلال المشاريع التنموية التي تموّل من الخزينة العمومية، وهو مؤشر على أن هذه الاضطرابات مرشحة للتوسّع، وبالتالي فإن القبضة الأمنية التي يعامل بها النظام هذه الاحتجاجات تعدّ جوابه الوحيد عن هذه المشكلة.
وفي تقرير للرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الانسان، أفادت بأن نسبة البطالة في مناطق الجنوب الجزائري فاقت 30% لدى الشباب، وهو ما يفسّر سبب الاضطرابات الاجتماعية التي تشهدها هذه المناطق في السنوات الأخيرة.
تأتي هذه الاحتجاجات بعد أقل من شهر على إجراء الانتخابات البرلمانية، هي الأولى منذ مجيء الرئيس تبون إلى السلطة، وهو ما يطرح تساؤلًا حول جدوى التمثيل السياسي للبرلمان، ومدى فعاليته في إيصال ما يشغل الطبقات الشعبية إلى أسماع السلطة الحاكمة، بالإضافة إلى أن تجاهل السلطة لمطالب الإصلاح السياسي، التي طرحها الحراك الشعبي منذ حراك 22 فبراير (شباط)، جعلها في مواجهة احتجاجات اجتماعية، وغضب شعبي مرشّح للتوسّع، دون أن تمتلك الدولة الموارد المالية لإيقافه، خصوصًا مع الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد.
وفي حواره مع «ساسة بوست» يقول (ك. ب)، وهو أحد المشاركين في الاحتجاجات التي تعرفها منطقة ورقلة الجنوبية: إن حالة البطالة والظروف المعيشية هي التي دفعت الشباب إلى الاحتجاج. «الاحتجاجات التي تشهدها ولاية ورقلة وما جاورها كانت متوقعة بالنظر لحالات الاحتقان التي يعرفها الشارع إزاء الظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها المواطنون، خاصة أن الولايات تعرف العديد من النقائص، وملفات كثيرة عشعش فيها الفساد، مثل ملف التنمية المعطل لسنوات عديدة».
يضيف محدّثنا: «وملفات أخرى مثل الصحة، والعقار، والعمل، وانعدام المرافق، والمستشفيات، ناهيك عن التهميش الممنهج الذي يعاني منه شباب المنطقة». يُذكر أن أحد أسباب اندلاع الاحتجاجات في منطقة ورقلة سنة 2018 كان وفاة أستاذة جامعية بسبب لسعة عقرب، وتعرف المدينة آلاف الحالات المشابهة سنويًا، والتي ينتهي بعضها بالوفاة مع غياب الرعاية الصحية الملائمة.
«الضغط يولد الانفجار، ربما جاءت على خلفية ملف البطالة الذي يعرف خروقات وتجاوزات لا حصر لها، بل سيطرة لوبيات وبارونات على الملف، والمتاجرة بحقوق شباب الولاية، وخاصة في العمل، في ظل غياب السلطات المحلية، وتجاهل السلطات المركزية التي لم تحرك ساكنًا لوضع حد لهاته المهازل».
احتجاجات الجنوب الجزائري – المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي
وتخفي أزمة التشغيل نقمًا شديدًا لدى الشباب الذي يعاني من البطالة في الجنوب، خصوصًا ما يعتبرونه ظلمًا تجاههم، مردّه استقدام الشركات البترولية للعمال من المدن الشمالية وتجاهل اليد العاملة المحليّة؛ مما يعزّز الشعور بالتمييز، وحتى العنصرية حسب نشطاء المنطقة.
كما يشكو نشطاء المنطقة من فساد منظومة التشغيل في الجنوب، ليس فقط من خلال اعتمادها المحسوبية في توزيع مواقع العمل – بحسبهم، بل أيضًا سيطرة لوبيات شركات المناولة، هذا بالإضافة إلى قضية توزيع الثروة والعدالة الاجتماعية بين الشمال والجنوب المهمّش؛ مما يخلق احتقانًا شعبيًا ضد العامل الذي يأتي من الشمال ليأخذ مناصب أهل الجنوب كما يشيع في التصور العام.
يضيف ك. ب: «هنالك أكثر من 1800 شركة بترولية تنشط في الولاية، تمارس الكثير منها الطرق الملتوية في التوظيف، والبيروقراطية في التعامل مع شباب الولاية، وسن شروط تعجيزية موازاة مع عدم تفعيل آليات أخرى لامتصاص البطالة».
وعن أسباب انتشار الاحتجاجات هذه المرّة في أكثر من محافظة دفعة واحدة وبصورة سريعة، يقول محدّثنا: «الولايات الجنوبية تعاني تقريبًا من نفس المشاكل، وعدوى الاحتجاجات انتشرت سريعًا، وقد تختلف عن سابقتها، وربما قد تكون الأكبر في انتظار ما ستسفر عنه الأيام القادمة، المؤسف هو أن السلطات تزيد الطين بلة، فعوضًا عن إيجاد حلول جذرية لهذه المشاكل المطروحة، هناك غياب إرادة سياسية لانفراج الأوضاع».
«تساؤلات عدة تطرح لتأخر السلطات المركزية عن الاستجابة لمطالب سكان ورقلة، والجنوب عمومًا، مماطلة، وتجاهل، وتعنت غير مبرر، أما عن المنتخبين فالأمور تعدتهم، وليس في مقدورهم فعل أي شيء، خاصة أن المطالب معروفة».
نظرة السلطة المركزية للجنوب تاريخيًا أنها مجرد مناطق هامشية، وليست إلا مصدرًا للثروة البترولية، ولذلك فإن التعامل مع الاحتجاجات هناك يختلف عنه في التعامل مع الاحتجاجات في العاصمة، أو المدن الكبرى، إذ إن درجة القوة والقمع المستعملة ضد مدن الجنوب يبقى مثيرًا للملاحظة، هذا بالإضافة إلى تجاهل الإعلام الرسمي وحتى الخاص أي نقل لأخبار ومشاهد من حراك الجنوب، وهو ما يدلّ على الحساسية الشديدة التي تحوم حول هذا الموضوع، والتعامل الأمني الصارم معه، ورفض طرحه في النقاش العام.
يرى نذير بوخطة بأن السلطات العليا ليس لها إرادة سياسية حقيقية في حل هذه الأزمة: «لا توجد حلول سياسية جذرية، بل حلول ترقيعية، كتغيير موظف بآخر، ولكن تبقى نفس السياسة المنتهجة، والتعامل الأمني لا يجدي، بل يفاقم من الأوضاع، وهناك ملفات ملغّمة، وهناك من لا يرضيه إيجاد الحلول الجذرية، ويفضل بقاء نفس الآليات التي يستفيد منها بعض بارونات التشغيل».