لا يمكن بأي شكل من الاشكال الثقة بالأرقام التي تقدمها الحكومة العراقية حول نسبة الانتحار مثله مثل الكثير من البلدان، ولكن حسب وزارة الداخلية، ان نسبة زيادة في حالات الانتحار تجاوزت 10 في المائة سنويا منذ عام 2016، وحتى عام 2021، والأرقام لعام 2022 تبدو مماثلة. من المهم ان نعي بان المجتمع العراقي تاريخيا كان له معدل انتحار منخفض نسبيا. وكان هذا المعدل منخفضا في اصعب الظروف مثل الحرب العراقية الإيرانية وحرب 1991 واثناء الحصار. وبدأت الزيادة بشكل واضح منذ عام 2012-2013.
ان هذا الميل أي الزيادة في معدل الانتحار هو ميل عالمي. اذ تقول منظمة الصحة العالمية بان اكثر من 700 الف شخص ينتحرون سنويا ، ويحاول 20 ضعف من هذا العدد الانتحار في سنوياً، والأرقام تميل الى الارتفاع. وقد ارتفعت معدلات الوفيات الناجمة عن الانتحار في الولايات المتحدة بنحو 25 في المئة في العقدين الماضيين التي سبقت 2018. ويحدث الانتحار طوال العمر وكان رابع سبب رئيسي للوفاة للفئة العمرية بين 15 و 29 عاما على مستوى العالم في عام 2019
والانتحار ظاهرة معقدة ومتعددة الأسباب، فنادرا ما يكون الانتحار نتيجة لسبب او ظرف او حدث واحد. كما ان عوامل خطورة متعددة تلتقي في وقت واحد في المجتمع تؤدي الى زيادة معدل الانتحار. وتختلف معدلات الانتحار بشكل كبير من بلد الى اخر، حيث يتأثر المعدل بالبيئات الثقافية والاجتماعية، والدينية، والاقتصادية والسياسية. في الحقيقية لعوامل أخرى مثل البيئة والاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تأثير أيضا على معدل الانتحار.
ولكن بشكل عام معدل الانتحار هو حكم على أداء النظام الرأسمالي من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ومدى تأزمه وأداء نظام الحكم في البلد المعين. فمن المعروف ان النظام الرأسمالي كمعدل يمر بأزمة اقتصادية كل 4-7 سنوات وهذه الازمات تضع المجتمع في ظروف اقتصادية صعبة من معدلات بطالة عالية، ومشاكل مالية، وفقر وجوع وتشرد. وتؤدي الى اضطراب حياة الملايين وخططهم من التعليم والتوظيف والتطور المهني وتخلق وضع من عدم اليقين وعدم الاستقرار واليأس والتشاؤم.
وفيما يتعلق بنظام الحكم في العراق بالذات، ليس بخافٍ على أحد مقدار الفقر، والفساد والانقسام إلى هويات سخيفة، العنف والحرب، والقمع، والتمييز ضد المرأة وسوء معاملة الأطفال، والأجواء السياسية المتخلفة التي فرضتها سلطة أحزاب الإسلام السياسي والقوى القومية على المجتمع. سوف أعيد ما قلته في مكان اخر وهو ان الإسلام السياسي هو اسوأ من عصابات الجريمة، مثل كارتيلات المخدرات في أمريكا اللاتينية في إدارة المجتمع، فالمجتمع تحت حكم الإسلام السياسي اقل رصانة من المجتمعات التي تعيش تحت حكم المافيات.
ان الأوضاع التي يخلقها النظام الرأسمالي تؤدي الى تفكك الأواصر الإنسانية في المجتمع وتؤدي الى زيادة الامراض الاجتماعية من عنف، زيادة استخدام المخدرات والكحول، قلة مستوى التعلم، التمييز، التنمر والتشهير الخ.
من جهة أخرى الإسلام السياسي الذي يحكم العراق يفرض قيم وتقاليد ومظاهر متخلفة لا تتماشى مع المجتمع المعاصر وهي تؤدي الى حالة من الاغتراب وصعوبة التأقلم مع المجتمع والحياة والتي تصبح عديمة المعنى خاصة بين الشباب الذين يتواصلون مع العالم الخارجي بشكل يومي.
ان هذه الاوضاع التي تُفرض على المجتمع تؤثر على الافراد بشكل مباشر.
فالنظام الرأسمالي حتى في الأوضاع العادية، يغرق الانسان بالمشاكل من مشقات كسب لقمة العيش وضمان المسكن، إضافة الى ضغوط النجاح اقتصاديا ومهنيا واجتماعيا الخ. وتؤدي زيادة ضغوط الحياة خاصة في وضع الازمة الى تدهور الصحة العقلية والجسدية للأفراد وشيوع الامراض النفسية.
إن بعض حالات الانتحار تحدث باندفاع وتهور في لحظات الأزمات مع انهيار القدرة الفرد على التعامل مع ضغوط الحياة، مثل المشاكل المالية، تفكك العلاقة أو الألم المزمن والمرض الخ بسبب تدهور في مرونة الفرد ومقاومته للمصاعب بشكل مزمن.
من جهة أخرى، ان نظرة الشخص الى ذاته مهمة للغاية في مدى كونه عرضة للانتحار، ان الايمان والثقة بالذات والنظرة الإيجابية إليها ككيان ناجح له اهداف وقناعات قوية وواضحة وهو محبوب وله ارتباط قوي بالحياة تحميه من الانتحار. في حين ان صورة الذات السلبية، وعدم الثقة بالنفس والشعور بالفشل وعدم القيمة والضياع والضعف والافتقار الى اهداف وقناعات قوية وواضحة والعزلة الاجتماعية والعاطفية وهي أمور شائعة اثناء أزمات النظام تجعل الشخص عرضة للانتحار.
فعلى المستوى الشخصي، رغم ان الانتحار قد يكون ناتج عن قرار متهور في وضع الازمة كما قلنا، الا ان اهم العوامل التي تؤثر على قرار الشخص بالانتحار هو الاكتئاب الشديد الذي يرافق حوالي نصف حالات الانتحار الذي يجعل الشخص يشعر بألم نفسي كبير جدا مع فقدان الامل في تحسن الامور وفي بعض الأحيان عدم رؤية أي طريقة لأنهاء هذا الألم دون الانتحار. فالتشاؤم واليأس والشعور بعدم القيمة و بكون الشخص عبء على الاخرين التي تصاحب هذا المرض قد تكون قاهرة. كما يؤدي هذا المرض الى زيادة في معدلات تعاطي الكحول والمخدرات والتي بدورها تزيد من خطر الانتحار وتدهور الوضع.
والعامل الاخر المهم الذي يقف وراء الانتحار على المستوى الشخصي هو اليأس والتشاؤم وعدم اليقين والاستقرار خاصة على أمد طويل حتى بدون وجود مرض الاكتئاب، حيث لا يرى الشخص أي طريقة يمكن ان يحسن بها الوضع او تجاوز التحديات التي يواجها. عندما يفقد الشخص كل امل والقدرة على تغير وضعه، يجعل خيار الانتحار محتملا. لذلك نرى بانه قد يتحمل الشخص أشهر طويلة في الجبهة الامامية للحرب او في سجن انفرادي دون ان ينتحر مادام هناك امل بان يتغير الوضع في حين ينتحر في وضع السلم الراكد. ولهذا السبب أيضا ينخفض معدل الانتحار في الأوضاع الثورية حيث تتأمل الجماهير الى تغير في الأوضاع.
ان تفكك أواصر المجتمع وزيادة الامراض الاجتماعية من العنف، التنمر والاعتداءات الجسدية والجنسية ضد النساء والأطفال وتفكك العوائل الخ، ومرور المجتمع بحرب او عنف ((ممائل)) تخلق عدد هائل من ضحايا هذه الظواهر الذين يعانون من الاضطرابات النفسية مثل الكآبة وصدمة الحرب واضطراب ما بعد الصدمة التي تزيد خطر الانتحار.
فالأشخاص الذين عانوا من تجربة مؤلمة اكثر عرضة للانتحار حتى بعد سنوات وعقود، اذ ترتبط تجربة المرور بالحرب او الكوارث او عنف سافر او التعرض الى الإساءة المزمنة بزيادة معدل الانتحار. كما أن معدلات الانتحار مرتفعة بين الشرائح الضعيفة التي تعاني من التمييز، مثل المهاجرين؛ والأقليات والشعوب الأصلية؛ والمثليين والسجناء الخ.
وتؤدي زيادة استخدام المخدرات والكحول ايضا الذي يحدث في مجتمع متأزم الى تدهور الصحة العقلية على المدى الطويل وتساهم في جعل وضع الفرد اكثر سوأ من خلال فقدان الوظيفة، وفقدان العلاقات مما تزيد خطر الانتحار. كما تجعل الكحول والمخدرات الشخص الذي يفكر بالانتحار، أكثر اندفاعا ومن المرجح أن يتصرف بناء على دوافعه أكثر مما سيكون عليه عندما يكون صاحيا.
وتزداد العزلة الاجتماعية في المجتمع المتأزم، اذ يمكن أن يصبح الشخص معزولا اجتماعيا لأسباب عديدة ، بما في ذلك فقدان الوظيفة والتعرض للانفصال أو الطلاق، أو المرض الجسدي أو العقلي، أو فقدان الاصدقاء، أو التقاعد ،او التشرد وهي أمور شائعة في وضع الازمة. ان الشعور بالوحدة تعزز عوامل الخطر الأخرى للانتحار مثل الاكتئاب وتعاطي الكحول أو المخدرات ويزيد خطر الانتحار.
طبعا للخدمات الصحية وخاصة خدمات الصحة العقلية تأثير هائل على هذه الظاهرة. اذ بالنسبة للكثير من الناس الذي يمرون بأزمة فان خطر الانتحار يكون في اشده في فترة زمنية من 20-30 دقيقة، فاذا كان بإمكان الشخص من التواصل من العائلة او الأصدقاء او المهنيين في هذا المجال فان فرصة تفادي الانتحار يكون كبير. والكثير من الناس الذين يجدون المساعدة في المرة الأولى التي يفكرون فيها بالانتحار عادة ما يتعافون ولا يقومون بمحاولة أخرى على مدى حياتهم.
ان الوصمة التي ترافق الامراض النفسية مثل الكآبة والشعور باليأس والتفكير بالانتحار الذي يعني الكشف عن ضعف يمنع الكثير من الناس من طلب المساعدة عندما يمرون بفترة عصيبة.
يمكن أن يشعر الشخص المصاب بألم مزمن أو مرض عضال أيضا في حال غياب الخدمات الطبية والاجتماعية باليأس و بأنه عبء على الآخرين مما يزيد خطر الانتحار.
لهذا ان الدافع النهائي في الكثير من الأحيان قد يكون ضائقة عاطفية، خسارة ( علاقة، فرصة عمل او مال)، الإساءة العاطفية، فشل في امتحان، المرض الجسدي المزمن والالم المزمن، الا ان دائما مايكون هناك عوامل متعددة في الخلفية التي تؤدي الى الانتحار.
الانتحار هو مشكلة صحية ومجتمعية خطيرة ولها تأثير مدمر طويل الامد على الافراد و الاسر والمجتمعات المحلية وبلدان بأكملها من حزن ووصمة العار والزيادة اللاحقة في الامراض النفسية ومعدلات الانتحار لأجيال ولكن يمكن الوقاية منها الى حد كبير من خلال التدخلات الاجتماعية والطبية القائمة على الأدلة. يمكن الاطلاع على استراتيجيات وطنية ناجحة حول العالم او تلك التي وضعتها منظمة الصحة العالمية، ولكن لا نتوقع من النظام الحاكم في العراق باي شكل من الاشكال تطبيق مثل تلك الاستراتيجيات الشاملة و الفعالة التي تشمل عدة قطاعات وميادين وتقوم ب “الحد من الوصول الى وسائل الانتحار” وتعزيز المهرات الحياتية الاجتماعية والعاطفية لدى المراهقين” و ” الكشف المبكر عن الأشخاص الذين لديهم أفكار وسلوكيات انتحارية ومعالجتهم ومتابعتهم” كما توصي منظمة الصحة العالمية وجعل خدمات الازمات متاحة للأفراد الذين يعانون من ضائقة حادة.
حيث تتطلب جهود منع الانتحار جهود شاملة ومتكاملة و التنسيق والتعاون بين قطاعات متعددة في المجتمع، بما في ذلك قطاع الصحة وقطاع التعليم والتوظيف والعدالة والقانون والسياسة ووسائل الإعلام وهذه هي وظيفة هرقلية في وضع العراق الحالي.
على مستوى الافراد ان اهم استراتيجية لتفادي الأوضاع النفسية التي تؤدي الى الانتحار هو الالتحاق بنضال ثوري من اجل تغير الحكم القائم، عن طريق الالتحاق بصفوف تنظيم ثوري ومعاصر مثل الحزب الشيوعي العمالي العراقي، لان هذا النضال يخلق أجواء إيجابية وأمل ورؤية مستقبلية تبعد الفرد عن الأفكار والسلوكيات السلبية مثل الانتحار.
