الجزء الأول
تمكنت البرجوازية وبمساعدة الاعلام والأكاديميين والمختصين في الاقتصاد، من تحويل مسألة التضخم الى ظاهرة غامضة، غريبة، تعسفية تشبه ظاهرة طبيعية، “سماوية” تحدث خارج عن ارادتنا، لذا يجب ان نتعلم العيش والتأقلم معها. والاهم من هذا كله، توصف كظاهرة غير طبقية تضر بجميعنا، أي جميع افراد المجتمع دون استثناء.
ولكن هذا التصوير لظاهرة التضخم التي تعني ارتفاع أسعار البضائع والخدمات بشكل عام وليس بالضرورة كل الأسعار نتيجة نمو الطلب أكثر من مقدار الإنتاج، هو هراء وتقف خلفه حملة ايدولوجية تضليلية ضخمة.
يجب ان يكون واضحا بان التضخم هي علة من علل النظام الرأسمالي و أحيانا يكون مفيد لأصحاب الاعمال، لأنه يعني ان المزيد من الأموال تذهب الى الرأسماليين، حيث يكون على الزبائن دفع مبالغ أكبر مقابل نفس الكمية من البضائع والخدمات. ولكن التضخم بالنسبة للطبقة العاملة، يعني عدم القدرة على توفير ابسط مستلزمات الحياة. والتضخم هو وسيلة لمصادرة مكاسب الطبقة العاملة التي تحقق عبر عقود من النضال المرير. كما يجب ان يكون واضحا ان قلة الانتاج ليست بالضرورة بسبب ضعف القدرة الإنتاجية، بل قد يكون بسبب قرار من الرأسماليين على خلق شحة في البضائع والخدمات. فمعظم الشحة في البضائع والخدمات هي اما مقصودة او نتيجة عدم كفاءة النظام الرأسمالي وخاصة نموذج السوق الحر او نتيجة تناقضات لا يمكنه حلها.
ان الامر الأهم في ظاهرة التضخم هي ان الأسعار ترتفع أكثر من الأجور، مما يعني تدهور المستوى المعيشي لكل العاملين بالأجور، أي الغالبية العظمى في المجتمع. وتكون الطبقة العاملة الجزء الأقل قدرة في المجتمع للتعايش مع التضخم وهي تعاني من اضطراب وعدم استقرار حياتها وتفقد القدرة على التخطيط للمستقبل. كما ان الطبقة العاملة، هي أكثر اقسام المجتمع تضررا من اهم الية لمعالجة التضخم أي رفع نسبة الفائدة.
والامر المهم الثاني هو ان من يقرر رفع الأسعار هم الرأسماليون الذين ينتجون البضائع والخدمات، وأصحاب الممتلكات وهي نسبة لا تتجاوز 1% من المجتمع. حتى في الأوقات التي يكون هناك أسباب حقيقة تساهم في رفع الأسعار، ان النسبة الأكبر من ارتفاع الأسعار هي نتيجة سعي البرجوازية الى تعظيم الأرباح أي ان التضخم يحدث لأنه مربح للرأسماليين الكبار. والاحتكار هو السبب الرئيسي في التضخم، فالاحتكارات تخلق النقص والشحة. عند وجود زيادة في الطلب او قلة في العرض، هناك خيار اخر امام الرأسماليين غير رفع الأسعار وهو زيادة الإنتاج، ولكن أحيانا يقررون رفع الأسعار بدلا من زيادة الإنتاج. وحتى ارتفاع تكاليف الإنتاج وهو العامل الذي يستخدم لتبرير التضخم يكون بسبب قيام الرأسماليين في اقسام أخرى برفع الأسعار. فعندما يقال بان المدخلات هي أغلي، هذا يعني ان رأسمالي اخر يرفع السعر.
يقوم الرأسماليون بما يفرض عليهم النظام القيام به وهو تعظيم الأرباح والذي قد يكون من خلال رفع السعر بالقدر الذي يسمح به السوق. ففي الدورة الحالية من التضخم، لقد قام الرأسماليون برفع الأسعار بعد رفع الاغلاق للتعويض عن خسائرهم اثناء الوباء. ان رفع الأسعار هو أسرع وابسط طريقة لتعظيم الأرباح. نعم لقد نمى الطلب بعد رفع الاغلاق بسبب الوباء ونتيجة توفر كمية من الأموال في التداول بسبب الانفاق الحكومي وقلة الاستهلاك اثناء الوباء، ولكن رفع الأسعار لم يكن الخيار الوحيد للجواب على زيادة الطلب، كما ان اغلب الزيادة في الأسعار مصطنعة.
تقوم البرجوازية بإخفاء الأسباب الحقيقية لكل خلل بنيوي في النظام الإنتاجي الرأسمالي وابعاد الأنظار واللوم عنها وعن النظام نفسه. ففيما يتعلق الامر بالأزمات الاقتصادية الدورية يلقى اللوم على ظاهرة سطحية لذا تسمى الازمات الثلاثة الرئيسية الي حدثت في اخر عقدين بأزمة دوت كوم، وأزمة الرهون العقارية وأزمة كورونا. نفس الشيء يحدث مع التضخم، اذ تقوم البرجوازية في اغلب الاحيان بألقاء اللوم على أمور جانبية مثل “حرب بوتين”، “اضطراب سلاسل التوريد”، ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية والمدخلات الأخرى مثل الوقود، الوباء، ارتفاع الأجور، الانفاق الحكومي الخ. رغم ان لبعض هذه العوامل دور في رفع الأسعار، لكن ما هي الا دور ثانوي يستغل من قبل البرجوازية كسبب لرفع الأسعار. اذ يحدث التضخم احيانا في القطاعات الأقل تضررا بالعوامل المذكورة مثل قطاع التعليم والأدوية والإسكان وحتى الطاقة في بلدان معينة لها قدرات كبيرة في انتاج الطاقة. ففي الوقت الذي نسمع كثيرا عن دور بوتين وروسيا وحربها في اوكرانيا، في الحقيقة ان التضخم على المستوى العالمي بدأ قبل الحرب الأوكرانية بسنة.
ان الدعاية والحملة حول هذه العوامل وخاصة ” اضطراب سلاسل التوريد” هو ذر الرماد في عيون العمال. فالهدف خلق تصوير بأن الرأسماليين يقومون برفع الاسعار ليس لأنه امر مربح لهم، بل لأسباب خارج عن ارادتهم.
ولكن أكبر كذبة تقوم بها البرجوازية، ارجاع اسباب التضخم الى ارتفاع الأجور. اذ أحيانا ليس هناك علاقة بين الأجور والاسعار فهناك حالات ترتفع الأسعار بدون ارتفاع في الأجور. وهناك حالات كثيرة ترتفع الأجور دون ان تؤدي الى ارتفاع الأسعار، عندما لا يكون رفع الأسعار أفضل اجراء لتعظيم الأرباح. وهناك حالات نشهد انخفاض في الأجور نتيجة توافد المهاجرين او نقل الإنتاج الى مكان فيه الأجور قليلة او زيادة البطالة، ولكن الأسعار تبقى على حالها.
في الحقيقة، ليس هناك في تاريخ النظام الرأسمالي مثال او حالة مقنعة على كون ارتفاع الأجور السبب في التضخم. حتى في الدول التي تمتعت او تتمتع الطبقة العاملة بمكانة قوية في مواجهة البرجوازية، لا تكون الطبقة العاملة من التنظيم والقوة بحيث تفرض ارتفاع في الأجور يؤدي الى تضخم واضح. في الغالبية العظمى من الحالات حتى عندما تكون الطبقة العاملة في اوج قوتها يكون ارتفاع الأجور كرد فعل للتضخم وارتفاع الإنتاجية وليس الدافع وراء التضخم لأنه ببساطة رفع الأجور يحتاج ان تكون الطبقة العاملة منظمة، واعية وان يكون لها منظمات عمالية مقاتلة والبطالة منخفضة، وقدرة البرجوازية على استقدام ايدي عاملة رخيصة او نقل الإنتاج الى أماكن، او مناطق او دول تتمتع بأيدي عاملة رخيصة هو منخفض وهو ليس الواقع في عالمنا اليوم. ان الطريقة الوحيدة التي يمكن للعامل التصدي للتضخم هو عن طريق رفع الأجور بالتناسب مع ارتفاع الأسعار، ولكن نعرف جيدا بانه ليس من السهل على العمال رفع الأجور بالسهولة التي يمكن لأصحاب الاعمال من رفع الأسعار. فاليوم في أمريكا مثلا معدل ارتفاع الاجور هو اقل من نصف معدل ارتفاع الأسعار.
ويتم مرارا القاء اللوم على الانفاق الحكومي في التسبب في التضخم، اذ يقال اليوم بان الحكومات قامت بصرف الكثير من الاموال اثناء الوباء. ولكن يلام الانفاق الحكومي فقط عندما يتعلق الامر بالإنفاق لصالح الطبقة العالمة والفقراء وعلى الخدمات. فلم نسمع شيئا من هذا القبيل عندما صرفت الحكومات المليارات من الدولارات لإنقاذ البنوك والشركات الاحتكارية منذ ازمة 2008، وفي وضع الحرب يتم زيادة الانفاق الحكومي بشكل جنوني ولا يقوم أحد بانتقاد هذا الانفاق، ولكن عندما قامت الحكومات وخاصة في الغرب بدفع ضمان البطالة لمن فقدوا وظائفهم اثناء الوباء قامت القائمة وبدأ مناصرو البرجوازية واعلامهم بتذكيرنا بدور الانفاق الحكومي في التسبب بالتضخم. يجب ان نتذكر بان بعكس دعاية البرجوازية، ان الانفاق الحكومي عادة ما يزداد من اجل مواجهة اخفاق معين للنظام، وليس لان الحكومة تديرها شلة خبيثة تريد تدمير النظام الرأسمالي “الكفوء”.
ويتم الحديث كثيرا عن قيام الدولة بزيادة كمية النقود في التداول كسبب للتضخم، ما يعني وجود الكثير من المال الذي يطارد أشياء قليلة مما يؤدي الى ارتفاع الأسعار. ويتم زيادة كمية النقود في التداول من خلال رفع الأجور، او تقليل الضرائب، او خفض سعر الفائدة، او الدين الحكومي او تغير سعر صرف العملة او طبع النقود من اجل دعم الشركات وانقاذها من الإفلاس، او السماح للبنوك بتقديم قروض اكبر مقابل ضمانات اقل الخ وهذا الامر يؤدي الى خفض قيمة العملة لان كمية اكبر من العملة تلاحق نفس الكمية من البضائع والخدمات مما يؤدي الى التضخم.
ولكن في الواقع حتى هذا ليس السبب الأساسي، اذ قامت الحكومات الغربية لمدة عشرين سنة وخاصة منذ 2008 بضخ التريليونات في الاقتصاد، ولكن لم يحدث التضخم الا منذ بداية 2021. ان زيادة الأموال الذي يؤدي الى زيادة الطلب لا يؤدي بالضرورة الى رفع الأسعار، اذ يمكن ان يؤدي الى المزيد من الإنتاج او تضخم في ميادين محدودة جدا مثل سعر الأسهم.