الحركة الاحتجاجية ونوع القيادة التي تحتاجها
بعد أيام قليلة، ستمر علينا الذكرى الرابعة لانتفاضة أكتوبر-تشرين الأول عام ٢٠١٩، وبقدر الدروس التي تعلمت حركتنا منها، بنفس القدر ما زالت تقض مضاجع سلطة الإسلام السياسي وميليشاتها، التي وافقت على مضض لتشكيل حكومة الكاظمي من اجل احتواء الانتفاضة والالتفاف عليها، ووقفت بعد ذلك وراء تأسيس حكومة السوداني. وما زالت مرعوبة، وتحاول بكل الوسائل اجتثاث ذكراها وتداعياتها التي فرضت التراجع الاجتماعي والسياسي عليها وخاصة بعد الإطاحة بحكومتها التي اشتهرت بالطرف الثالث-حكومة القناصين التي مثلها عادل عبد المهدي. ويمكن استشفاف معطياتها المادية بكل سهولة على سبيل المثال وليس الحصر في مدينة الناصرية التي تحدت جماهيرها تلك السلطة الجائرة وميليشياتها المدعومة إقليميا، ومجهزة بكل وسائل البطش والجلاوزة والممولة من سرقة ثروات المجتمع والفساد المالي والاداري، ومرغت كل جبروتها بالتراب وكسرت هيبتها واعتبارها عندما قامت بحرق مقراتها وطردها من المدينة. وها هي مجموعات مليشيات بدر والعصائب والفضيلة والخراساني والنجباء وحزب الدعوة التي تسمى نفسها بالولائية تسعى بشكل حثيث الى تغيير الذاكرة في المدينة وإعادة كتابة تاريخها منذ انتفاضة أكتوبر، وتعمل هنا وهناك من اجل استعادة المدينة عبر استغلال مناسبة عاشوراء لبث صخبها في المدينة والتأكيد على وجودها، و قبلها قامت بحملة نصب جداريات لرموزها للتغطية على صور الشباب الذين سقطوا على جسر الزيتون وساحة الحبوبي برصاصها، حيث نصبت في واجهة ساحة البهو، وتخللت أيضا اعمالها، قمع الناشطين وفبركة التهم لهم مثل ما حدث للرسام (لاري )، والاستعراض العسكري لميليشياتها وهي تتنافس على قمع كل صوت او حركة فيها او حتى أي نشاط اجتماعي ، كلها معطيات مادية تشير الى تلك المحاولات.
لقد تحدثنا في مناسبات سابقة عن المعضلات والمشكلات الى كانت وراء عدم وصول انتفاضة أكتوبر الى محطتها النهائية، منها انعدام التنظيم وسيادة الافاق الوطنية عليها ونزعتها المعادية فقط للنفوذ الإيراني المجردة من المحتوى الطبقي، وانتشار الأوهام في صفوفها وكانت وراء صعود الكاظمي وجوقة من الناشطين الذين كانوا ينتمون الى نفس ذاك التيار الذي سمي بالوطني؛ اذ تغنى بحب العراق ونصب خيمة باسم خيمة العراق ونحن في ساحات الانتفاضة كلنا نحب العراق، والمحصلة كانت تفريغ الانتفاضة من مطالبها بدل من هدم اركان النظام السياسي الاجتماعي والذي بدونه لن تشرق شمس الحرية والرفاه والأمان ولن يُسترد فضاء العراق وحيزه من براثن الإسلام السياسي، وبالتالي فسح المجال ومنح الفرصة من جديد لعودة أحد اجنحة الإسلام السياسي الموالي لمرجعية ايران الى السلطة عبر حكومة السوداني.
في ذكرى الانتفاضة سنتحدث عن نقص جدي واهم التحديات التي واجهت الانتفاضة وما تواجه اليوم الحركة الاحتجاجية الحالية والرد عليها، حيث ما زال الجمر يتوجر تحت رمادها ولا يمكن اخماده بسبب الظروف الموضوعية التي ما زالت قائمة والتي اشعلت انتفاضة أكتوبر.
فمقابل البطالة وارتفاع معدلات الفقر بشكل مطرد ونقص الخدمات واستمرار عمليات النهب والسلب والفساد وتطاول المليشيات على حياة الجماهير وارتفاع نسبة التضخم والمساعي الحثيثة في فرض الافقار على المجتمع من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كما هو مدون وواضح في قانون الموازنة ورفع سعر فاتورة الكهرباء والماء وفرض الضرائب الخ، ما زالت أحلام واماني الشباب في مكانها وتحاول إيجاد أجواء ابدية لها من تحقيق الحرية والعيش في فضاء خالي من أدوات قنص الفكر الحر واختيار المعتقد وهوية الانتماء ونقد الدين والمطالبة بالمساواة المطلقة على جميع الصعد، كلها مؤشرات واضحة بأن لا حكومة السوداني ولا الانتخابات لمجالس المحافظة القادمة ولا اية انتخابات قادرة حتى على ترقيع الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في المجتمع. وليس امام اية حكومة سواء الراحلة منها او القادمة الا الإدغام بالأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ومحاولة ادارتها وليس أكثر، وتبقى انفجارها أي انفجار الازمة ليس الا مسالة وقت.
وعليه ان الحركة الاحتجاجية وبأشكالها المختلفة باقية وستكون في مكانها، وما زالت جذورها تحفر وتمتد في وجدان وفكر المئات من ناشطيها الذين ظلوا احياء ونفذوا بجلدهم من قناصي المليشيات والقنابل الدخانية ورصاص الخرساني وعصائب اهل الحق وبدر والقبعات الزرق وسرايا السلام، نقول ما زالت تحاول فهم ما آلت اليها الانتفاضة واستلهام الدروس منها والاستنهاض من جديد بحركة تلحق الهزيمة بنظام المحاصصة السياسية، نظام ذكوري واسلامي قومي، وتحقيق مجتمع تعمه الحرية والامن والرفاه على انقاضه.
القيادة مكانتها وخصائصها في الحركة الاحتجاجية:
ان اشتعال فتيل الانتفاضات والثورات لها ظروفها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتساهم الاحتجاجات الجماهيرية التي لها مطالب متنوعة في تهيئة الأرضية لتفجير تلك الانتفاضات والثورات، الا ان الأخيرة تبقى خارجة عن إرادة الافراد والأحزاب والتيارات، ولكن انكسارها او هزيمتها او انتصارها مرهون بتدخل التيارات والأحزاب السياسية. ومن الممكن جدا ان تتحول الاحتجاجات الى حركة اجتماعية وسياسية، قد تلعب دورها في إيصال اية انتفاضة او ثورة الى محطتها النهائية، ولكن في نفس الوقت ليس معناه ان تقف في طابور الانتظار حتى تتهيأ الظروف الموضوعية لاشتعال اية انتفاضة او ثورة، بل بإمكانها ان تتحول الى جزء من المعادلة السياسية.
وهنا تدرك بغريزتها بالبقاء والتشبث بالسلطة، الطبقة البرجوازية الحاكمة، المتمثلة اليوم بأحد اكثر الاجنحة حثالة في صفوفها وهو الإسلام السياسي ببعدها المحلي والعالمي، كيف تفكك الاحتجاجات والحيلولة دون وصولها الى حركة سياسية واجتماعية مستقلة تدخل بالصراع معها على السلطة.
ولذلك ان استراتيجية هذه الطبقة تكمن بالتصفية الجسدية لقسم من النشطاء والفعالين الذين لا يمكن المساومة معهم، ومن جهة أخرى شراء ذمم قسم اخر منهم وتعويمهم على انهم يمثلون رموز وقادة الحركة الاحتجاجية، او العمل على خلق رموز لا يخرجون عن دائرتها ومرتبطين باستراتيجية تصفية الانتفاضات والثورات عبر تمويلهم ماليا للتحرك الدعائي والسياسي وتسخير وسائل اعلام ممولة تسلط الضوء عليهم وابرازهم على انهم قادة ورموز الانتفاضة. وإذا ما دققنا في سيرة الانتفاضات بدءا من شباط ٢٠١١ وبعد ذلك ٢٠١٥ ثم في مدن الجنوب ٢٠١٨ وانتهاءً بانتفاضة أكتوبر، لم تبرز أية شخصية من الفعالين والنشطاء الى مصاف رموز قيادية بإمكانها طرح اهداف الاحتجاجات وتمثيل الحركة، وهذا غير مرتبط بعدم وجود الخبرة والتجربة عند أولئك الفعالين والنشطاء، رغم ان هذا الامر هو عامل، ولكن ليس هو العامل الرئيسي، ولا مرده كما يتفضل علينا بعض المثقفين المتربعين على برج المراقبة مسائل أخلاقية وشخصية.
والعمل الدؤوب للطبقة الحاكمة في اجهاض الانتفاضات والثورات او حتى الحركات الاحتجاجية لا يقتصر على تلك الميادين بل يمتد أيضا الى تعميم افاق وشخصيات ورموز الحركات والتيارات التي هي جزء من السلطة، ومن هنا ينبع تحرك التيار الصدري لإنقاذ العملية السياسية والسلطة القائمة من قبضة الجماهير وانتفاضتها في ٢٠١٥ وفي أكتوبر ٢٠١٩، وكذلك ادلاء الخطب والتغريدات من قبل زعيمه للحيلولة دون افساح المجال لأية شخصية او رمز ان يتحول الى رمز وقائد للاحتجاجات، وعندما يفشل في مهمته، يكشر عن انيابه ويغرسها في جسد الفعالين والنشطاء عبر ميليشياته الممولة من ثروات المجتمع المسروقة كما فعل في قتل العشرات في ساحات التحرير في بغداد وثورة تشرين في النجف والبحرية في البصرة والحبوبي في الناصرية.
ولا يقتصر عمل هذه الطبقة وميليشياتها في ميدان الانتفاضات والثورات، بل وضعت خططها لضرب رموز الحركات الاحتجاجية بشكل عام ومنها الحركة العمالية، وكان اخرها وليس اخيرها تهديد قادة اضراب عمال المشروبات الغازية وتهديد عوائلهم واسرهم من خلال ارسال ميليشياتها الى بيوتهم.
ان احتكار رموز وشخصيات قادة العملية السياسية لوسائل الاعلام المحلية والبقاء دائما تحت الأضواء بالرغم ان تصريحاتهم ومقابلاتهم وخطبهم السمجة والفارغة من المحتوى والتي في كثير من الأحيان تعكس ضحالة ثقافتهم وجهلهم، ومع هذا ان ظهورهم الإعلامي، هو جزء من احتكار المشهد السياسي والحيلولة دون ظهور اية شخصيات ورموز معارضة لها وخاصة في الحركة الاحتجاجية.
صحيح ان غياب التنظيم كان كعب أخيل الانتفاضة كما تحدثنا سابقا، وهنا نشدد ونؤكد من جديد نقصد بالتنظيم ليس على العموم، بل تنظيم الاحتجاجات من اجل توفير الخدمات وفرص العمل وتحسين شروط عمل العمال وظروف حياتهم والحركة المساواتية للمرأة والدفاع عن الحرية والامن ورفاه المجتمع. في حين كان التيار الذي رفع شعار (نريد وطن) الذي مثله حكومة الكاظمي منظما بنقابة المحامين والمعلمين، والتيار الصدري منظما بميليشياته، القبعات الزرق وسرايا السلام، كانت الجموع الغفيرة من العاطلين عن العمل والنساء التواقات للانعتاق من عبوديتها والشباب التواق للحرية التي تقدر بالملايين غير منظمة ووقعت فريسة لتلك التيارات.
ولكن يبقى التنظيم، أي إطار تنظيمي، غير قادر على جذب هذه الجموع دون قيادة سياسية ومنسجمة حول افاق واهداف استراتيجية واضحة. فلا يمكن لأي تنظيم يتشكل، ولا يمكن لاي حركة ان تنتصر في مواجهة غول الإسلام السياسي في العراق وميليشياته، وان تكون قادرة على جر المجتمع وراء سياساتها، دون وجود قيادة معلومة وواضحة المعالم من شخصيات ونشطاء وفعالين سواء في الحركات الاحتجاجية او تحتل مواقع معينة في المجتمع.
ورب شخص ما يسأل، هناك تجارب تنظيمية عديدة فشلت خلال انتفاضة أكتوبر او بعدها بسبب شخصياتها والصراعات الشخصية والنزعات الفردية، فما هو الضمان لتأمين قيادة ما للحركة الاحتجاجية.
طبعا لا ننكر عن وجود النزعات النرجسية والمزاجية وتضخيم الانا في صفوف الحركة الاحتجاجية، وقد أشرنا اليها في مقالات سابقة عن انتفاضة أكتوبر. وبالتأكيد يجب نقد تلك النزعات بشكل سياسي وليس أخلاقي أي ليس بربطها بأخلاق الافراد، وتقسيمهم الى افراد صالحين وغير صالحين، اخيار واشرار، خائن ووطني والذي اعتدنا عليه في سرديات التظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات. ولكن عندما تكون لهذه القيادة افاق واضحة وبرنامج سياسي واستراتيجية واضحة لتحقيق اهداف الحركة الاحتجاجية او الإطار التنظيمي الذي يمثلها، عندها تضمحل الصراعات الشخصية، وتصبح النزعات الفردية ضعيفة ولا تجد مكانة لها، وتصبح المشاغل الرئيسية هو مشاغل الحركة ومعضلاتها والرد عليها.
وفي نفس الوقت ان القيادة بحاجة الى استعراض قيافتها في المجتمع عبر شخصياتها ورموزها والتعريف بهم كشخصيات ورموز المجتمع مثلما يفعل ممثلو الطبقة السياسية الحاكمة كما أشرنا اليها. وهذا يأتي عن طريق الظهور الإعلامي والسياسي في وسائل اعلام بديلة للوسائل الاعلام التقليدية او التي تحتكرها أحزاب العملية السياسية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي واليوتيوب الخ والرد على كل تخرصات واكاذيب الطبقة الحاكمة على سبيل المثال حول قانون الموازنة او ارتفاع سعر قيمة صرف الدينار العراقي امام الدولار او التطهير الديموغرافي تحت ذريعة محاربة الإرهاب الخ، وتفضح كل الترهات والسخافات في تقسيم المجتمع على أسس طائفية وقومية ودينية واثنية وتبديد الأوهام التي تنثرها لطمس ماهية صراعاتها على السلطة.
والنقطة الأخرى لتامين القيادة هي استراتيجية حمايتها التي هي جزء من آليات ارتباط القيادة بالمجتمع، أي ان تكون قيادة اجتماعية مرتبطة بإماكن العمل ومحلات المعيشة، وتكون لسان حال العمال او الموظفين او الناس فيها، وتعبر عن حاجاتهم ومطالبهم. ان انغراس القيادة مع حياة الناس تَحّوَل بدرجة كبيرة من تطاول المليشيات على حياتها. ان أي ناشط او فعال يتم تصفيته اما جسديا او معنويا عبر تهديده من قبل المليشيات قبل تحوله الى شخصية ورمز جماهيري سوف يتحول الى رمز، مثلما حدث مع علي عباس المعروف ب(لاري) من مدينة الناصرية قبل اشهر قليلة، حيث تحول اسمه الى رمز اجتماعي ومحبوب لجهوده في تنظيف المدينة.
وعلى القيادة التأكيد دوما ان انتصار الحركة الاحتجاجية مرتبط بعملها السياسي والتنظيمي والاجتماعي والدعائي المستقل وبشكل دؤوب وعبر امكانياتها الذاتية، وليس عن طريق ربطها بأجندات دول إقليمية او دولية، ووضع ريموت كونترول الحركة في يد الحكومات الرجعية في المنطقة. ان دفاع القيادة عن استقلالية افاقها وسياساتها وتحركاتها هي الضامن لانتصارها.
كما على قيادة الحركة الاحتجاجية التحلي بالصبر ووسعة الصدر في الرد على التصورات ووجهات النظر المختلفة بشكل سياسي وديمقراطي في الحياة الداخلية، وإظهار صورة أخرى والتي ستنعكس على المجتمع بنشر وتأمين الحرية بكل اشكالها اذا ما وصلت الى السلطة السياسية، أي إعطاء صورة مغايرة للأحزاب القومية والإسلامية وحتى الليبرالية منها التي تقمع حتى اراء أعضائها او يتم تصفيتهم اذا ما عارضت سياسات قيادتها.