لم ينقطع اللغط يوما حول مليشيات الحشد الشعبي منذ تأسيسها بعد فتوى الجهاد الكفائي التي اطلقها السيستاني للوقوف بوجه تمدد داعش ووصوله الى ابواب مدينة بغداد. وجاء تاسيس تلك المليشيات بعد انهيار المؤسسة العسكرية برمتها في مدينة الموصل التي قدرت حينها ب ٦٠ الف عسكري وسقوط اليات عسكرية كبيرة من المدرعات والدبابات والمركبات تحت سيطرة ٢٠٠ عنصر من عصابات داعش واعلان دولته الخلافة الاسلامية. وقد عصفت تلك الخلافة بألة الدولة التي سعى الى تشكيلها نوري المالكي بعد تدميرها من قبل الغزو الامريكي واحتلال العراق.
لم تأت فتوى جهاد الكفائي عبثا، ولم تكن الغاية منها التصدي لداعش التي كانت اي الفتوى تحصيل حاصل للصراع بين القوى البرجوازية المحلية المتصارعة على السلطة في العراق فحسب، بل كانت فتوى لانقاذ سلطة الاسلام السياسي الشيعي بعد فشل الة دولتها القمعية بصيانة تلك السلطة. ولقد لعب المالكي دورا كبيرا بالبدء من جديد ببناء الة جديدة ومن مكان اخر وعلى اساس عقيدة واضحة وهي العقيدة الطائفية التي افتقدتها الالة القديمة او لم تستطع بنائها. وكانت عقيدة الالة الجديدة التي سميت بالحشد الشعبي عكست ماهية الهوية السياسية والفكرية لسلطة الاسلام السياسي الشيعي في العراق وبالتالي لاضفائها على هوية الدولة التي لم تتأسس الى الان.
ووقفت ومازالت كل القوى الاسلامية الشيعية خلف هذا المشروع “الحشد الشعبي”، وقدمت الجمهورية الاسلامية كل الدعم له. وكانت تلك القوى تهدف لبناء هذه الالة الجديدة ضمن استراتيجية حسم مصير السلطة السياسية للاسلام السياسي الشيعي في العراق. اي كان يبغي من خلال هذه الالة اما ان تكون حرس ثوري عراقي جديد على غرار الحرس الثوري الايراني، يقوم بمهمة صيانة والحفاظ على سلطة الاسلام السياسي الشيعي كما يحدث في ايران، او في اسوء الاحوال في بناء دولة داخل دولة مثل حزب الله اللبناني الذي لا يساوي شيئا في المعادلة السياسية اللبنانية وحتى المنطقة دون مليشياته.
الا ان المشروع برمته يرتطم محليا بصراع الاجنحة البرجوازية في العملية السياسية، وخصوصا جناحي “السنة” وهم العروبيين و “القوميين المحليين” اي الجناح الوطني، واقليميا ودوليا بالمحور السعودي-الاماراتي والنفوذ الامريكي في العراق والمنطقة الذي يقف خلف الجناحين المعارضين المذكورين.
ما يحدث اليوم بعد مقتل سليماني- المهندس الذين كانا عاملا انسجام بين مليشيات الحشد المتنافسة فيما بينها على النفوذ والاموال والامتيازات، وتصاعد الضغط الامريكي على ايران وحلفائها في المنطقة، هو اصبح مصير الحشد الشعبي مهددا وخاصة تورط العديد من مليشياته بالجرائم المروعة التي ارتكبت بحق المتظاهرين.
ويؤمن قادة الاسلام السياسي الشيعي مثل المالكي والعامري والصدر والخزعلي والحكيم، ان مسألة حل الحشد الشعبي او تحويله الى مؤسسة عادية ومجردة من امتيازات و حالها حال بقية مؤسسات وزارة الدفاع والاستيلاء على مصانعها العسكرية ومصادرها المالية والغاء مؤساستها الاستخبارية والامنية وسجونها السرية تعني تهديد مباشر لمصير سلطتها السياسية. ولا يخفي على احد ان صراع الاجنحة المليشياتية في الحشد الشعبي ايضا مرتبطا بصراع الهويات والمصالح السياسية، فمليشيات السيستاني او المرجعية لا تقبل قيادتها من قبل اشخاص موالين لمرجعية قم، في حين بقية الاجنحة المليشياتية الاخرى لا تقبل بمرجعية النجف حتى وان لم تعلن ذلك. وهذا هو سر عدم القبول مليشيات المرجعية بتولي عبد العزيز المحمدواي والملقب ابو فدك من منظمة بدر، بتوليه لرئاسة اركان الحشد الشعبي. وخلف الكواليس هناك ضغوط امريكية كبيرة لتحجيم مليشيات الحشد الشعبي كخطوة لضرب النفوذ والادوات العسكرية الايرانية في العراق، وايضا للشروع في بناء الة دولة مبنية على عقيدة من ناحية غير عروبية – ميلتانتية (مقاتلة وصدامية) على غرار جيش العراقي القديم ايام نظام البعث ولا معادية لنفوذها، اي قومية محلية مدجنة بحيث تخلق الاستقرار السياسي بما يؤمن مصالح امريكا في العراق.
ويجدر بالذكر ان الضجيج الذي احدثه مقتدى الصدر حول اعلان تشكيل جبهة مقاومة عالمية ضد امريكا وتظاهرته المليونية الفاشلة في ٢٤ كانون الاول من العام المنصرم بعد مقتل سليماني-المهندس ضد الوجود الامريكي، وتسليط بلطجيته، القبعات الزرقاء، بقتل المتظاهرين في الساحات والميادين، هو لاثبات كفائته واستعراضا لقوته لتسويق نفسه سياسيا بأنه افضل الاشخاص لاحراز منصب المهندس وقيادة مليشيات الحشد الشعبي. لكن تلك المساعي فشلت وذهبت ادراج الرياح، وها هو الصدر يعلن بأنه سيحل مليشيات سرايا السلام اذا حلت مليشيات الحشد الشعبي والبشمركة، والتي تعكس مسألتين، الاولى هي ان الصراع على السلطة لم يحسم بعد، وخاصة ان انتفاضة تشرين/اكتوبر قلبت توازن المعادلة السياسية، والثانية ان الدولة ما زالت تراوح في مكانها ولم يكتمل بنائها.
على العموم اذا وضعنا جانبا ان الصراع على ابقاء الحشد الشعبي من عدم ابقاءه هو يعكس الصراع على السلطة السياسية ومصيرها بين الاجنحة المتصارعة في العملية السياسية، فبالنسبة لنا ان الحشد الشعبي هو الة قمعية، ويسعى الاسلام السياسي الشيعي بأن تكون الة الدولة الاستراتيجية او جزء محوري منها، ويحاول اضفاء الالوهية عليها وتقديسها تحت عنوان “حربها على داعش والارهاب” وتدق الطبول والدفوف لها مثل بقية الانظمة البرجوازية الحاكمة في كل العالم دائما كذبا ونفاقا، بأنها الة لخدمة المجتمع وفوق المجتمع وعامل استقرار للمجتمع، لكن في الحقيقة وكما بينتها المعطيات المادية لنا وخلال الاربعة الاشهر المنصرمة، فهي معادية حد النخاع للجماهير وتطلعاتها من اجل الحرية والمساواة، وهي متورطة كمؤسسة بقمع المتظاهرين، ويجب المطالبة بحلها وتحويل قادتها المتورطين بجرائم قتل المتظاهرين او استخدام العنف ضدهم الى المحاكم.