الحق في السكن، علينا أن نسترده
يعيش العراق أزمة حضرية خانقة منذ مدة بعيدة، ومدينة الناصرية (ذي قار) بالذات، المكان الذي أعيش فيه منذ عقود، وأسجل ملاحظاتي عنها هنا، المدينة مزدحمة ومكتظة بساكنيها الذين يتراوح عددهم بين مليونين وربع مليون نسمة إلى مليونين ونصف المليون. وهي رابع مدينة على مستوى العراق من حيث عدد السكان، مزدحمة إلى حد يقارب الانفجار وبالأخص مركزها الإداري الرئيسي المعروف عند الأهالي (الولاية) وعند الإداريين مربع المدينة.
الناصرية (المركز) منذ نشأتها في العقد السابع من القرن التاسع عشر، خُططت كمركز حضري محدود، بالاتفاق بين الدولة العثمانية وزعماء قبليين. وظلت كل هذه العقود الطويلة على حالها، ولم يطرأ عليها تغيير يتناسب مع عدد السكان المتنامي؛ وزيادة عدد السكان طبيعيا بالولادة أو عن طريق الهجرات المتوالية عليها، من الريف المُرهق، والأهوار أو البادية أو من المدن الأخرى وحتى من أقطار أخرى.
تبدأ قصة فشل المشروع الحضري، من تخريب الزراعة وإلحاق الفلاحين كأقنان، بأسياد الأرض الممنوحة لهم بما يشبه المجان (يضاف ذلك إلى جشعهم أصلاً)، وجعل الأخيرين ليست سوى جُباة ضرائب، وواسطة بين الفلاح العامل والمنتج المباشر على الأرض، وبين الدول المهيمنة؛ في حقبة الدولة العثمانية وبعدها الاحتلال البريطاني. عندما خطط الاحتلالان، برسملة الانتاج الزراعي وتحويله من الاكتفاء الذاتي الذي كان يعيش وتستقر تحت ظله ملايين من عوائل الفلاحين في مستقرات حضرية مطمئنة. وأدى بالكثير منهم بالتالي إلى هجر الأرض والزراعة بعد أن أفقروا، وأصبحوا فائضين عن حاجة الشيخ والنظام الذي يرعاه، مشردين عند هامش المدن، وإلى الدول المجاورة(الكويت وإيران)، وحكاية معاناة الفلاحين، من الجوع والبرد والاضطهاد والغربة، مدونة في سجل تاريخهم المؤسي. في الوقت الذي يشيد هؤلاء الشيوخ افخم المنازل في المدينة وفي بغداد، للتنعم برفاه المدينة تاركين أبناء جلدتهم الفلاحين، يكدون طول العام ويعيشون كالأقنان في الحقول الواسعة، من أجل ضريبة الأرض وجمع إيجارها للحكومات المحتلة، المنتزعة من حصص محاصيلهم وعرق جبينهم.
يرجع (الاضطراب) السكاني، إن صح القول، إلى سوء التخطيط العمراني والإداري الذي حكم المدينة منذ حداثتها. ولاسيما العقود الخمسة الأخيرة. نظام البعث انشغل كأولوية؛ بتجهيز الناس لمغامراته الحربية المهلكة، وترك كل شيء يخص حياتهم جانباً كأمر ثانوي. وكذلك انشغل النظام الحاكم الحالي بالفساد والنهب جهراً كوظيفة أولية، وما عدا ذلك فهو أمرٌ ثانوي.
وسوء التخطيط والفساد من مظاهرة الكثيرة، لا يتجسد فقط بنقص تزويد الكهرباء والماء الصالح للشرب وسوء الخدمات الصحية والتعليم… فالمشهد الحضري المدمر نلمسه نحن ساكني المدينة يوماً، في الازدحام و فوضى المرور، والرعب الآتي من الدرجات بأنواعها، وطيش وتهور الكثير من سائقي السيارات، واحتشاد الأسواق والمحال التجارية والمطاعم والمقاهي، هؤلاء، مع البسطات المستولية على الأرصفة وجزء من الشوارع مع مخلفاتهم ومخلفات البناء وعشوائية بناء سرادق المواكب وأوساخها. هذا جزء من المشهد الكلي يمكن أن نصوره عن المدينة، المتواصل فقدانها لملامح يمكن عدها على أساسه، على إنها مدينة تحتضن ساكنيها وتنعم عليهم بظلها.
ومن نتائج سوء التخطيط العمراني، ما يُعرف بالتنمية الحضرية القاصرة، التي لم تلبِ حاجة السكان للوحدات والمراكز السكنية وتوسيعها بما ينسجم مع عدد السكان ومدها بالخدمات الضرورية.
الأمر الذي يخلق تراكم السكان في وحدات سكنية محدودة، ونقص في الخدمات، وسياسة الإفقار المتواصلة تمنع الأهالي من بناء المنازل، ويضطر أكثرهم للجوء إلى الإيجار والذي ترتفع بدلاته مع ارتفاع تكاليف المعيشة وهبوط قيمة العملة المحلية، واستغلال الملاكين العقاريين الجشعين.
الشكوى المتعاظمة والمعاناة التي يكابدها مستأجرو المساكن، من عمال وموظفين وحتى اصحاب الدخل المتوسط، من الارتفاع المتواصل لبدلات إيجار المساكن والشقق. حتى غدت بدلات الإيجار تشكل عبء ثقيل على مداخيلهم، وتقطع نسبة كبيرة مما يجب أن ينفقونه على ضروريات الحياة الأخرى، مما جعل المستأجرين يعيشون بالتقتير من أجل تأمين سداد الإيجار الشهري لصاحب المُلك. ومنهم من لا يقدر على السداد يكون الإخلاء مستعداً على بابه.
وعندما هزت انتفاضة تشرين النظام، قدم تنازل بتخصيص مبلغ كبير لما دعوه، بتطوير المشهد الحضري لمدينة الناصرية المفجوعة. وتم تعبيد طرق كثيرة واكساء أرصفة، ومد أنابيب مياه لأحياء كانت محرومة منه، وحفر قنوات مجاري… وتجديد الكورنيش وإزالة أبنية كثيرة وتسقيف شارع الحبوبي… الخ ويرافق ذلك في طبيعة الحال شبهات فساد مسكوت عنها، ورغم كل ما حصل من جهد للتجديد، ظل التوسع العمراني وبناء وحدات سكنية جديدة مدعومة للأهالي، ظل قيد التوقع، والتقصير. وهوما يجب عمله ابتداءً لحل أزمة السكن؛ للتخفيف عن كاهل العوائل من الإيجارات لتوفيرها لمتطلبات الحياة الأخرى. وهذا رأي أغلب أهالي الناصرية ويمكن وصفه بأنه تجميل صوري بما إن المدينة لم تتوسع. وبما إن التجديد والاهتمام لم يشمل تطوير ودعم حياة الريف أيضا.
ينقل المفكر الانكليزي اليساري، ديفيد هارفي، عن المفكر الفرنسي هنري لوفيفر قوله” من منّا لا يحلم أن يعيش في مدينة مصممة على هوى قلبه” خلال دراسته عن الأزمة الحضرية في العالم في كتابه (مدن متمردة). لأن العيش في مدينة بمستوى لائق، حق من حقوق الإنسان وهذا ما أقرته مواثيق الأمم المتحدة تحت عنوان “الميثاق العالمي للحق في المدينة”. ومن النقاط التي أشار إليها هذا الميثاق توصيته المهمة ” عند صياغة وتنفيذ السياسات العمرانية، يجب على المدن تقديم المصلحة الاجتماعية والثقافية الجماعية على حقوق الملكية الفردية ومصالح المضاربين.” ويجب ” على المدن، من خلال أجهزتها المختصة، اتخاذ الإجراءات التي تضمن أن تكون نفقات الإسكان في متناول كل المواطنين ومتناسبة مع دخولهم…”.
هذا هو طموح غالبية البشر على الأرض؛ في العيش في بيئة بمستوى يليق بآدميتهم، ونظيف بالقول ليس العيش اللائق ينحصر في المدينة فقط، بل في القرى والأهوار والبادية والجبال، فيما إذا كان اصحاب القرار ليسوا من المضاربين، وخططوا على “هوى قلب” كل إنسان يسكن، في أي بيئة كانت.
لكن المشاريع والخطط العمرانية، واقعيا لا تتحقق على الأرض إلا لمصلحة أصحاب المال والنفوذ أو على “هوى قلوبهم” المتعطشة للمال. مثال ذلك عندنا في الناصرية، استيلاء اصحاب المال المحدثين من فاسدي الاحزاب الحاكمة، على الكثير من مساحات الأرض والأبنية القديمة، ومنهم من أراد تحويل الملاعب الشعبية داخل الأحياء السكنية التابعة للبلدية إلى مولات، وقصة تعطيل مدينة الألعاب المتنفس الوحيد لأهالي المدينة، معروفة للجميع بقصد أخذ أرضها وبناء مول عليها. دون مراعاة لحق الآخرين بالاستمتاع، وحقهم بالسكن. ورغم بناء المولات الكثيرة، والأبنية الأخرى السياحية أو المرافق الخاصة أو العامة، والحسينيات، تظل أزمة السكن على حالها.
أزمة السكن قديمة، برزت مع فجر النظام الرأسمالي وظهوره للوجود، ولا حل لهذه الأزمة بما إن هذا النظام باقٍ ويجدد نفسه.
يشرح انجلز ذلك في “مسألة السكن” :” ليس لدى البرجوازية في واقع الأمر سوى أسلوب واحد لحل أزمة السكن بطريقتها- بمعنى حلها بطريقة يؤدي فيها الحل دائماً إلى إعادة المسألة من جديد…والأقبية التي يحصر نمط الإنتاج الرأسمالي عمالنا فيها ليلة بعد ليلة، لا تمحى، بل فقط تنزاح إلى مكانٍ آخر فالضرورة الاقتصادية التي انتجتها في المكان الأول هي ذاتها التي انتجتها في المكان الثاني”.
ما الذي ينبغي عمله لامتلاك الحق في السكن، على الأقل في المراكز الحضرية المدينية، لأن المدينة ليست فقط تشتمل على أحياء سكنية، بل ساحات تتجمع فيها الجماهير للتعبير عن آرائها السياسة والدفع بالمطالب أمام الحكومة.
ولاسيما هناك مواد غير مفعلة، في القانون العراقي(ثانيا من المادة السابعة قانون ايجار العقار) تمنح الحق للمؤجر، ” طلب تقدير قيمة العقار كل خمس سنوات ليتم تعديل بدل الإيجار.” ، فيما إذا كان منفذ القانون منصفاً يراعي ظروف العوائل الاقتصادية، لكي لا يتشردون، وفيما إذا كان تنظم المؤجرين لأنفسهم؛ بطريقة تضغط على الدولة لسماع ندائهم، وتغيير وتفعيل مواد القانون العراقي، بما يتناسب مع حاجة العوائل المؤجرة. عبر مختلف أساليب الطلب، كتقديم عريضة موحدة باسمهم تطالب بإعادة النظر ببدلات الإيجار وقانونه، أو التجمع أمام اصحاب القرار في تظاهرة جماهيرية، أو إقامة ندوات ومؤتمرات عامة في اعداد وصياغة توصيات بهذا الخصوص… المهم من هذه الأساليب المطلبية وغيرها، التدخل في تغيير الوضع القائم، بما يخدم المصلحة العامة للجماهير. ولكي نستعيد البيئة أو المدينة التي كنّا نطمح العيش فيها على “هوى قلوبنا”، قبل أن تختفي كلياً تحت فوضى العمران المشوه، وتجديد المشهد الحضري الذي تخطط له الاحزاب الحاكمة، وكل رأسمالي يصمم لمصلحته… لكي نحول كل بيئة يعيش عليها الإنسان إلى بيئة لائقة.