هناك إجماع حول أهمية افريقيا من الناحية الاقتصادية في المستقبل حيث تعتبر من الاقتصاديات الصاعدة وواحدة من أسرع مناطق العالم نمواً. وتتمتع بإمكانات هائلة فهي غنية بالمصادر الطبيعية وهي مصدر لطبقة عاملة شابة ورخيصة، ولذلك تقدم فرص اقتصادية كبيرة للرأسمال العالمي، ويتوقع أن تصبح مركزاً للتصنيع لكل العالم في المستقبل المنظور. لقد أصبحت أفريقيا ساحة لمنافسة الرساميل العالمية بما فيها الأمريكية والروسية والتركية والإسرائيلية والسعودية والصينية إلى جانب رساميل الدول الأوربية التي استعمرت افريقيا في القرون السابقة أي قبل حركات التحرر في القرن العشرين مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا واسبانيا، وإيطاليا، والبرتغال وبلجيكا وهولندا. تأتي المنافسة الأكثر شراسة بوجه الدول الاوربية والتي تعتبر المستثمر التقليدي في القارة، من الصين. فقد استثمرت الصين لحد الآن ما يزيد عن 300 مليار دولار في البنية التحتية في افريقيا مثل الطرق والجسور والسكك، والموانئ، والاتصالات، والمناجم والطاقة مثل النفط، والسدود، والخدمات مثل ماء الشرب ومشاريع الإسكان والتصنيع.
ومن المتوقع ان تستثمر الصين مئات المليارات الأخرى في السنوات القادمة. لا توجد دولة في أفريقيا عدا دولة اسواتيني ( سوازيلاند) لم تقم الصين بالاستثمار فيها. وتقوم بتقديم الكثير من المنح المجانية إذ قامت مثلا ببناء الابنية البرلمانية في سبع دول افريقية بشكل مجاني. وهذه المنح هي بمثابة رشوة تقدمها الصين لهذه الدول، لذا لا نجد دولة افريقية تقف بالضد من موقف الصين تجاه قضية تايوان مثلا.
وتقوم الصين بمساعدة الدول الافريقية بمحاربة وباء كوفيد-19 من خلال التبرع باللقاح أو بيعه بأسعار تفضيلية لأربعين دولة افريقية. وتقوي العلاقات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية مع افريقيا بشكل سريع ومكثف. وتقوم بكل هذا للأسباب اقتصادية ومن أجل كسب الأصدقاء في الصراع مع الأقطاب الأخرى.
وما يميز التدخل الاقتصادي الصيني هو ان الدول الافريقية لا تنظر اليه كتهديد، بسبب عدم امتلاكها لتاريخ استعماري في افريقيا ومحاولتها عدم التدخل في شؤون السياسية للدول الافريقية وعدم فرض شروط سياسية على هذه الدول مقابل الاستثمارات والقروض والمنح التي تقدمها.
في مواجهة المنافسة الصينية بشكل خاص والدول الأخرى الى حد اقل، تحاول الدول الاوربية ترميم علاقاتها مع افريقيا، لذا قامت بريطانيا في 2013 بالاعتذار لكينيا. كما قامت حكومة ماكرون مؤخرا بالاعتراف بان فرنسا تتحمل “مسؤوليات جسيمة” في الإبادة الجماعية التي قامت بها جماعات الهوتو التي بدأت في 6 ابريل عام 1994 واستمرت لمدة 100 يوم والتي أودت بحياة أكثر من 800 ألف انسان معظمهم من اقلية التوتسي. رغم ان فرنسا لم تشارك بشكل فعلي في عمليات القتل الا انها على الأقل تقاعست عن منع الإبادة الجماعية، هذا ان لم تكن قد قدمت الدعم للحكومة التي كان يقودها الهوتو في اقتراف المذابح.
في المقابل قامت المانيا في 28 أيار 2021 بالاعتراف باقترافها ابادة جماعية اثناء قمع تمرد من قبل قبيلتي هيريرو وناما في ناميبيا بين 1904 و1908 والتي اعتبرت اول إبادة جماعية في القرن العشرين أودت بحياة عشرات الالاف من البشر رميا بالرصاص او القتل جوعا او تحت التعذيب أي ما يعادل ثلاثة ارباع قبلية هيريرو ونصف أبناء ناما. وتعهدت المانيا بتقديم مساعدات بقيمة 1.1 مليار يورو على مدى ثلاثين سنة سوف تستخدم لدعم ” إعادة الاعمار والتنمية ” في ناميبيا من خلال مشاريع تتعلق بإصلاح الأراضي والبنية التحتية الزراعية ومشاريع المياه والتعليم المهني وليس كتعويضات لأحفاد الضحايا.
ان اعتذار بريطانيا وفرنسا وألمانيا ليس بسبب يقظة ضمير تجاه جرائمهم في الحقبة الاستعمارية او شعورهم ب”المسؤولية التاريخية والأخلاقية” حسب وصف وزير خارجية المانيا بل هو استجابة للواقع الجديد الذي يفرضه التدخل الصيني في افريقيا ومحاولة الطلب من افريقيا منحهم فرصة للاستثمار وان تنسى الفظائع التي ارتكبوها بعد القيام بخطوات رمزية. ان محاولات المانيا بالذات ضعيفة جدا ومتأخرة، اذ لايزال 80% من اراضي ناميبيا تسيطر عليها عوائل المانية. كما ان المبلغ التافه الذي تقدمه على مدى ثلاث عقود، يذهب الى مشاريع واعداد قوة عاملة تخدم مصالح الالمان الذين يسيطرون على مقدرات هذا البلد. يدخل اعتذار الدول الأوروبية ضمن صراع المصالح بين القوى الرأسمالية في افريقيا.
يجب ان نلاحظ في كل هذا، بان الصين تقوم بكل ما تقوم به القوى الرأسمالية العظمى الصاعدة. فبعد وصول تراكم الرأسمال في الصين الى مديات هائلة تقوم بتصدير الرأسمال الى الخارج وخاصة الى اقتصاديات صاعدة أي التي تشهد نمو. لا تقوم الصين بالاستثمار في مشاريع البنى التحتية في الخارج فحسب، بل تقوم الكثير من الشركات الصينية الخاصة والحكومية بنقل الإنتاج الى الدول الصاعدة مثل الدول الافريقية بسبب كون الايدي العاملة رخيصة حتى بالمقارنة مع الصين. فرغم رخص أجور الطبقة العاملة الصينية، الا انه تقوم شركة صينية لصناعة الأحذية مثلا بنقل الإنتاج الى اثيوبيا، حيث يعمل العمال بأجور الكفاف ولا توجد قوانين بخصوص تلوث البيئة.
تقوم الرأسمالية الصينية وهي مدفوعة بمنطق الربح بنفس ما قامت به الشركات الامريكية والاوربية في نقل الانتاج الى الخارج وهجر المراكز الاصلية للرأسمالية وان كان بشكل مخطط ومنضبط. هذا العمل يؤدي الى إعادة انتاج نفس الميل والتناقض البنيوي للرأسمالية وهو النمو المتفاوت للاقتصاد الرأسمالي. ورغم وجود فرق بين القروض التي يقدمها البنك النقد الدولي والدول الغربية الى افريقيا التي تذهب لتغذية الفساد وبين الاستثمارات الصينية في مشاريع فعلية اغلبها تخدم بالفعل الاقتصاد الافريقي وتحفزه على النمو، الا ان ديون الدول الافريقية لصالح الصين بدأت تتراكم. فاليوم 80% من ديون كينيا مثلا هي للصين. عندما يتراكم الرأسمال في أي دولة وتصبح غنية تبدأ في تصديره وهذا ما تقوم به الصين ولهذا فهي دولة امبريالية صاعدة تصدر الرأسمال من اجل استغلال الطبقة العاملة في ارجاء العالم، وستحتاج في المستقبل الى وسائل لحماية تلك الرساميل بما فيها القوة العسكرية التي تعكف على بنائها بشكل سريع. ان منطق الربح هو المحرك الرئيسي للرأسماليين والدول الرأسمالية بغض النظر عن طبيعة أنظمتها والصين لا تشذ عن هذا الامر في طبيعة الحال