الصراع من أجل البقاء في العملية السياسية
الهزيمة السياسية التي مُني بها التيار الصدري تفتح صفحة جديدة من المشهد السياسي، وقد فشلت صولة الصدر العسكرية في إيصال “ثورته العاشورائية السلمية” الى تحقيق أهدافها، لذا نراه، يشن هجوما لاذعا على ثورته وينتقدها عبر مؤتمره الصحفي، ويشكر القوات الأمنية والحشد الشعبي على ضبط النفس، وفي نفس السياق يطلب من جماعته الانسحاب من المنطقة الخضراء، وكأن شيء لم يكن.
إن الصدر وتياره السياسي يتخبط في مواقفه كما قلنا في مناسبات سابقة، ويعبر منحنى تصاعد مطالبه تارة ونزلوها تارة أخرى عن ذلك التخبط وانعدام الأفق السياسي، الذي بدأ بالإيعاز لنوابه في البرلمان بالاستقالة، وكان تعبيراً شاملاً عن مأزق كامل العملية السياسية، ووصل مشروعه المتمثل بـ (حكومة الأغلبية) إلى نفق مسدود.
أنَّ حركة الصدر قد انتهت ونفذت كل ذخيرتها السياسية، حتى قبل الضوء الأخضر الذي أعطاه الصدر الى ميليشياته (سرايا السلام) يوم ٢٩ آب الساعة الواحدة ظهرا بالنزول الى الشارع، وكان غلق حسابه واعتزاله السياسي ــ الذي عودنا عليه الصدر عند كل مناسبة في توريط سياسي لجماعته ــ هو الشفرة المتفقة عليها لنزول تلك القوات، لذا نشدد القول بأنَّ تلك الحركة انتهت عندما فشلت في تنظيم اعتصام مفتوح أمام مجلس القضاء الأعلى، لممارسة الضغط من أجل انتزاع قرار بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة.
ولعب العامل الإقليمي دورا حاسما بالتمهيد لإجهاض حركة الصدر للخروج من الزاوية التي حصرت نفسها فيها، فإنَّه لم يسعف مشروع مقتدى الصدر، اذ تغير ولعب دورا أي العامل الاقليمي في إفشال حركة الصدر لصالح تحالف مليشيات (المالكي-الفياض-الخزعلي-العامري) المسمى بالإطار التنسيقي، حيث كان الفياض رئيس مليشيات الحشد الشعبي وعدد من قادة المليشيات في زيارة الى إيران عشية تظاهرات الصدر أمام مجلس القضاء الأعلى، وتلقوا الأمر من أجل الاستعداد للتصدي لجماعة الصدر وإنهاء احتجاجاته التي تزامنت عند عودتهم بالسعي لإعادة سيناريو مجلس النواب ولكن هذه المرة باقتحام مجلس القضاء.
وسرعان ما جاء رد الفياض بنشر ميليشياته أي الحشد الشعبي وتحت عنوان عريض وخادع بالدفاع عن القضاء ومؤسسات الدولة لفض الاعتصام بالقوة، وهذا ما دفع مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة الى قطع زيارته لحضور اجتماع القاهرة والعودة سريعا الى بغداد، والإعلان بأنَّ على القوات الأمنية عدم الانجرار الى الصراعات السياسية.
وفي نفس الإطار أعلن المرجع الديني لمقتدى الصدر وجماعته الحائري بالاستقالة، ودعوته مقلديه أتباع المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، لسحب البساط من تحت أقدام الصدر وفض أكبر عدد من أتباعه حوله، والمعروف ان مقتدى الصدر يجمع بين الزعامة الدينية والزعامة السياسية.
هذه العوامل دفعت الصدر الى التحرك سريعا بتوجيه ضربة استباقية الى اخوته التوائم في البيت الشيعي للحيلولة دون الانقضاض عليه.
وبعبارة واحدة بأنَّ إيران استردت زمام المبادرة في العراق خاصة بعد قرب الاتفاق النووي والتلويح بالخروج من عزلتها الدولية ورفع العقوبات عن مئات المليارات من الدولارات، الى جانب السماح لها بتصدير النفط رغم العقوبات الامريكية عليها مستغلةً ازمة الطاقة العالمية، والتي تتزامن مع نجاح سياسة روسيا وحربها في أوكرانيا، اذ تقف هي والصين خلف إيران.
لقد كان نزول الصدر بميليشياته إلى بغداد وبقية المحافظات هو مسعى لخلط الأوراق وتفويت الفرصة على منافسيه عبر خلق فوضى أمنية وليس مهماً حجم الضحايا الذين سيسقطون وتعريض أمن وسلامة المجتمع الى خطر محدق، وبعد ذلك الظهور بمنقذ للأمن والسلام للحفاظ على ماء وجهه، إلا أن كل ذلك لم يمنع من ظهور خليط من التوجس والقلق على سيماء وجهه وحركاته أثناء المؤتمر الصحفي لمقتدى الصدر، وكذلك تقديم الاعتذار للشعب العراقي بسبب سقوط الضحايا بفعل ميليشياته التي بررها بوجود ميليشيات “وقحة”.
إما أكثر الأحداث التي سجلت مشاهدات سياسية، بوصفها كوميديا سوداوية، هي موقف رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، الذي أعلن عن تشكيل لجنة تحقيقية عن أحداث المنطقة الخضراء، فهو يعيد إلى الذاكرة حادثة اغتيال قاسم سليماني رئيس فيلق القدس، فقد أعلن في حينها المسؤولون الإيرانيون بتشكيل لجنة تحقيقية للبحث عن المتورطين في اغتيال السليماني، في حين أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ظهر أمام العالم ليعترف بأنَّه هو من اعطى الأوامر للقوات الأمريكية في العراق لاغتيال سليماني، بيد أن المسؤولين الإيرانيين مثل الكاظمي الذي يبدو تعلم منهم الدرس والتجربة والخبرة، لا يريد توجيه أصابع الاتهام الى الصدر وميليشياته، ليطمس رأسه بالرمال مثل النعامة كي لا يرى العدو الحقيقي، فهو ينسى أنه القائد العام للقوات المسلحة وبيده الحل والربط، لكن بحنكته وحكمته اختار أن يحتل مكان في لجنة (ذي فويس) كي يقيم أداء المليشيات والقوات الأمنية، ويثمن ضبط النفس والوقوف في مسافة واحدة من المتنافسين، إنَّه حقا رئيس وزراء مثير للشفقة.
وأخيرا نقول أن الصدر توهم بأنَّه يستطيع جر من فجّرَ شرارة انتفاضة أكتوبر الى حركته ــ وهم عمال العقود والأجور، عمال الحفر في القطاع النفطي في البصرة، عمال النفط في الناصرية الخريجون من المهن الصحية والطب البيطري، المحاضرون المجانيين الذين يقدر عددهم ٢٠٠ ألف شخص، عمال و موظفي تنمية الأقاليم، ملايين العاطلين عن العمل، النساء التواقات من أجل التخلص من براثن الإسلام السياسي ــ ، لذا فقد فشلت “ثورته العاشورائية” بامتياز، وباعتراف منه، وبرهن أنَّه غير قادر على خداع الجماهير تحت شعاراته الشعبوية والتغني باسم الوطن والعراق، وهو أول من سرقه، وسلط ميليشياته على رقاب جماهيره. لقد اثبت يوم التاسع والعشرون من آب، إن الصدر لن يتورع بالدوس عن أمن وسلامة المجتمع اذا تعرض لأي تهديد، ومستعد للتنصل من مسؤوليته في نفس الوقت ورمي اللوم على قادته واتباعه، ولو كان يعي جيدا بأن صولة ميليشياته ستحسم أمر السلطة السياسية للذهب أبعد من ذلك، لكنه تدارك نفسه، ليتراجع ويعلن عن هزيمته السياسية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه للبقاء في العملية السياسية، أما الذين خدعوا للمرة الأخرى على التوالي بالتيار الصدري وزعيمه، فلا عزاء للحمقى والمغفلين.
إن كل التضليل الإعلامي والدعائي، بأن الصدر عن طريق جماهيره “المليونية” وفوراته غير السلمية سيغير الوضع السياسي، تَكَسّرَ في اللحظة الأخيرة عندما ضاقت به الأمور، وبرهن أن أمثال التيار الصدري وتحالف (المالكي- الفياض-الخزعلي-العامري وغيرهم)، بدون ميليشياتهم لن يستطيعوا البقاء ليوم واحد في المشهد السياسي، وهذا الدرس يجب أن تتعلمه جماهير العراق إذا أرادت الحرية والأمن والسلام والرفاه، فليس أمامها إلا طريق واحد، ليس طريق الانتخابات المبكرة وحل البرلمان، ليس طريق صناديق الاقتراع التي تفتحه المليشيات وهي من تغلقها، إنما هو التفكير برمي الإسلام السياسي وميليشياته وأحزابه خارج التاريخ الإنساني.