بعد مقالنا (أزمة الهوية والصراع عليها-حزب الدعوة ومقتدى الصدر نموذجا) جاءت إلينا عدة اسئلة ومحورها الأساسي هو أليس هناك أية فرصة بأن تمضي الطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق نحو العلمانية او على الاقل تقوية المدنية والتحضر والابتعاد بشكل تدريجي عن الإسلام أو على الأقل تقويض تدخلاته في حياة الأفراد والمجتمع كما يحدث اليوم في السعودية ومصر والامارات؟ في هذا المقال سنرد على المسألة الآنفة الذكر من أجل توضيح اي من الطبقات الاجتماعية لها مصالح مادية بأن تكون هوية الدولة علمانية.
العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، وهذا يترجم إلى فصل الدين أيضا عن التربية والتعليم وأن يكون الدين شأن أو أمر شخصي. اي بعبارة اخرى ان لا تمول الدولة المؤسسة الدينية مثلما يحدث اليوم عندنا حيث يخصص ما يعادل ٢ مليار دولار الى الوقفين الشيعي والسني من الموازنة السنوية، في حين تتحجج الحكومة بأن ليس لديها أموال بسبب انخفاض أسعار النفط، وان الشعب العراقي تعود على عدم دفع فاتورة الخدمات مثل الكهرباء والماء كما جاءت في الورقة البيضاء بشكل وقح وسافر لتبرير تخفيضها للعملة المحلية والعمل على تنصل الدولة من مسؤولياتها تجاه المجتمع وبيع المصانع والمعامل الحكومية برخص التراب الى الشريحة الجديدة من البرجوازية التي ارتفعت الى مصاف الطبقة البرجوازية بفعل عمليات النهب والسلب والسرقة والفساد مستفيدة من الدواوينية التي منحتها لهم العملية السياسية. لنعود الى موضوعنا، و لنميز بين الدين كعقيدة يؤمن بها عدد من الناس وبغض النظر أي كان ذلك الدين، وبين الدين كأيديولوجية. والدين كعقيدة هي حالها حال الإلحاد، وعلى المجتمع أن يقر بشرعية وجود الاثنين ويسن قوانين يحمي الطرفين من تطاولات الدولة وبلطجيتها.
العلمانية كانت ضرورة وحاجة حياتية بالنسبة للطبقة البرجوازية الصاعدة في الغرب، في صراعها مع الإقطاع المتحالف والمتداخل مع الكنيسة. وكانت يد الكنيسة في القمع الفكري والسياسي والاجتماعي تجاه الحريات وحقوق الإنسان بالمعنى المطلق لم تكن أقصر من يد طالبان وولاية الفقيه والسلطة الاسلامية في العراق مثلما نراه اليوم إلا بدرجات وحشيتها. وكانت الطبقة البرجوازية الصاعدة في أوروبا بحاجة الى إقصاء الكنيسة و ايديولوجيتها المسيحية من حياة المجتمع كي تجرد الإقطاع من سلاحه الفكري والاجتماعي من أجل فتح الطريق نحو نموها الاقتصادي وتأمين حماية مصالحها المادية المتناقضة مع الطبقة الإقطاعية والنبلاء وشبكة الكنهوتيين. وقد ارتبط التطور العلمي والتكنولوجي بحاجة البرجوازية المادية وتطورها وقدرتها على التنافس، والمتناقضة كليا مع كل أفكار الكنيسة المحافظة والرجعية والتي ذهب ضحيتها كل من يفكر خارج صندوقها، أو يفكر بطريقة علمية ويشكك بكل المعتقدات التي رسختها الكنيسة طوال قرون من حكمها. وقد جاء على سبيل المثال لا الحصر تثبيت حرية الإلحاد في الدستور الفرنسي بعد الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ كرد بشكل نهائي في إقصاء المسيحية كأيديولوجية وعقيدة ملزمة على المجتمع من الدولة وتجريد الاخيرة من أية صلاحية قانونية وسياسية في فرضها.
وهنا يطرح السؤال التالي، هل العلمانية اليوم حاجة وضرورة مادية وحياتية بالنسبة للطبقة البرجوازية في العراق؟
قبل كل شيء نريد توضيح مسالة مهمة، وهي إن البرجوازية التي ناضلت ضد الدين في الغرب وتوج ذلك النضال بإقصاء الدين عن حياة المجتمع، أصبحت رجعية بدفاعها عن الدين وإعادة تأهيله من جديد. فبعد أن أصبحت هي السلطة المهيمنة وتمسك زمام الأمور في كل المعمورة، وفي صراعها مع بقية الأجنحة المتنافسة معها، راحت تجدد هويتها المسيحية في مواجهة الاسلام السياسي او ايجاد مبررات لحرمان اللاجئين والمهاجرين من حقوقهم بالسكن والإقامة في بلدانها بحجة التهديدات الامنية ووصم جباههم بالإرهاب الاسلامي لأنهم نزحوا أو هربوا من بلدان وصفت بغالبيتهم المسلمة، في حين إن الأنظمة السياسية الغربية هي من حولت بلدان أولئك المهاجرين إلى جحيم لا يطاق عبر سياستها الجهنمية مثلما حدث في سورية والعراق وليبيا وإيران ودول امريكا الجنوبية وافريقيا والقائمة تطول. وكانت تصريحات مثل الرئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون بالحفاظ على هوية اوروبا المسيحية في مواجهة أزمة المهاجرين واللاجئين للحيلولة دون وصولهم الى البلدان الاوربية ، او الكلمة الشهيرة لجورج بوش الابن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام ٢٠٠١ بأن حربه ضد الإرهاب الإسلامي هي حرب مقدسة، هي حرب صليبية، هي أمثلة على إعادة الوهج للدين في صراعها السياسي، هذا ناهيك على تقوية الجماعات الارهابية الاسلامية وتقوية الدين بجميع مؤسساته في الشرق وتقديم كل أشكال الدعم له منذ الحرب الباردة وحتى يومنا هذا. وفي الوقت الذي كانت ترجم النساء بالحجارة في ايران وافغانستان وتحرم النساء من قيادة السيارة ويجلد كل من ينتقد الإسلام في السعودية، كان الغرب يعقد الصفقات السياسية والاقتصادية مع حكوماتها، ويكتفي بشجب عدد من مؤسساتها المشبوهة من منظمات المجتمع المدني لانتهاكات حقوق الإنسان في تلك البلدان. هذا ناهيك عن الدعم العظيم الذي قدمتها إدارة أوباما لصعود الإخوان المسلمين دفة السلطة في دول شمال افريقيا كتكتيك سياسي للالتفاف على الثورة المصرية والتونسية.
لم تكن البرجوازية الغربية تبالِ لا من قريب ولا من بعيد بدعم القوى العلمانية ولم تدعُ يوما أو تضع على أجندتها في دعم الحركات النسوية والقوى والشخصيات العلمانية التي ناشدت وناضلت من اجل فصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم، والحد من تطاولات المؤسسة الدينية وانتهاكاته السافرة لحقوق الإنسان في الشرق طالما أن مصالحها الاقتصادية والسياسية مؤمنة مع تلك البلدان.
فإذا كان هذا حال البرجوازية في الغرب، فماذا سيكون في العراق، الذي دعم الغرب بأنظمته الليبرالية والديمقراطية التقسيم الطائفي والديني والقومي للمجتمع العراقي، وفتحت البالوعات للصراصير الطائفية من كل حدب وصوب، لتنتج مرة الحرب الاهلية في ٢٠٠٦ واخرى لغزو عصابات داعش ثلث مساحة العراق. وبين هذا وذاك سعى الغرب كما قلنا في مناسبات عديدة بفتح منابر الجوامع والمساجد في بلدانه لتعبئة الشباب (المسلم) وتجنيدهم للالتحاق بالجماعات الاسلامية الارهابية مثل جبهة النصرة وداعش في سورية عبر اجهزة مخابراته، لتعيد نفس سيناريو أفغانستان أثناء غزوها من قبل السوفييت عام ١٩٧٩. إن أكثر التصريحات التي تثير سخرية واستهجان من قبل الأنظمة الغربية وخاصة من قبل الذين غزو العراق، بأن أمريكا لا تتدخل بالشأن الداخلي العراقي، وان الدستور ذي الديباجة الطائفية كتبت بأيادي عراقية، وهي تدعم سيادة العراق وعدم التدخل في شؤونه. إلا أن الساسة الأمريكان والدمى التي جاءت تحت حراب المارينز الأمريكي لم يقولوا لنا من احتل العراق ودمر كل شيء فيه وقام بنفخ الروح بالديناصورات التي جلبتها من الكهوف ما قبل العصر الجليدي الأول. بيد ان الحقيقة عندما تصل المسالة الى حقوق الانسان بالمعنى الحقيقي والمطلق فالغرب لا يتدخل بشؤون العراق و يحترم تقاليده و” قيمه المجتمعية”، أليس هذا ضربا من النفاق بحرفية عالية!
ان الدين كأيديولوجية لا يمكن الاستغناء عنه في حرب البرجوازية عبر تعبئة المجتمع وتعمية الطبقة العاملة وعموم الكادحين للحفاظ على سلطتها ونفوذها السياسي ، وهذا ما لا يعيه ولا يدركه لفيف المثقفين الليبراليين وتجمعاتهم العديدة الذين يعزون سبب عدم فصل الدين عن الدولة او اقرار دستور علماني الى نوازع اخلاقية عند ذلك الحزب أو تلك الفئة، فالمصالح الطبقية التي وراء إقرار الهويات تختفي كليا في تحليلاتهم التي تقودهم دائما إلى الوقوع في فخ الإحباط واليأس.
واذا تحدثنا بكلمات أكثر وضوحا، فلا يمكن للطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق بسلطتها الاسلامية الاستغناء عن الدين، ف(الظلم الطائفي) الذي يمارس من قبل الاسلام السياسي الشيعي وميليشياته المتمثلة بالحشد الشعبي، يعني الاستيلاء على الأراضي والممتلكات والثروات الطبيعية في المناطق الغربية، أما (الظلم الجنسي) الواقع على النساء بالنسبة لتلك الطبقة، يعني من الناحية الحقوقية معاملة نصف المجتمع إذا لم نقل أكثر منه كمواطنين من الدرجة الثانية، وعلى الصعيد تحقيق المصالح الطبقية، يعني اضافة جيش جديد الى الطبقة العاملة سواء الى جيش العاطلين عن العمل مما يساهم بشكل كبير في تخفيض قيمة قوة العمل ويزيد من حجم المنافسة بين العمال، وبالتالي تدفع للنساء أجورا أقل من الرجال لتكون أكثر أقسام الطبقة العاملة فقراَ وعوزاً، أو الاستحواذ عن القيمة المجانية للعمل المنزلي غير مدفوع الأجر. كما أن البنية السياسية التي بنيت عليها سلطة الطبقة البرجوازية هي المحاصصة السياسية، وتعني تحت عنوان (الأغلبية الشيعية) الاستحواذ على المؤسسات الحكومية التي تدر اموال بمليارات الدولارات من خلال صفقات الفساد وعمليات النهب والسلب. هذا اضافة الى ما اشرنا إليه بالتفصيل في مقالنا السابق (أزمة الهوية والصراع عليها-حزب الدعوة ومقتدى الصدر نموذجا) الى تركيبة السلطة السياسية في العراق هي سلطة ميليشياته، وهي اقرب الى المافيا من أن تأخذ شكل حكومة تحاول تسويق نفسها بأنها تمثل جميع الطبقات والفئات الاجتماعية في المجتمع، وتساهم هذه النقطة الاقتتال والدفاع عن الدين والطائفة والتمسك بهما، لأنها أي السلطة المليشياتية للإسلام السياسي لا تملك غيره لتقديمه إلى المجتمع، فدون الدين ورفع رايات طائفية، فلا يمكن استمرارها في السلطة.
وبالتحليل النهائي ليست الطبقة البرجوازية الحاكمة بجميع أجنحتها في العراق مستعدة لا اليوم ولا يوم غد ولا حتى على المدى المنظور بأن تحدث تغييرات لصالح تقويض الدين على الاقل وتقوية جذور المدنية والعلمانية في المجتمع وتأسيس دولة أساسها المواطنة والمساواة الدينية والطائفية والجنسية. فالعلمانية ليست حاجة ولا ضرورة بالنسبة للطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق.
أما بالنسبة للطبقة العاملة، فالعلمانية فهي حاجة حياتية وطبقية، فهي تسحب البساط من تحت أقدام الطبقة البرجوازية وميلشياتها في دق اسفين بين العمال على أساس الطائفة والدين. وإذا شحذنا الذاكرة قليلا وعدنا الى التفجيرات الارهابية التي كانت تضرب المدن منذ بداية احتلال العراق، فكان أغلب المناطق المستهدفة هي مساطر العمال وأماكن عملهم، وكان الهدف هو نقل الصراع الطائفي الى الوعي الاجتماعي وفتح شرخ كبير فيه. وعلاوة على ذلك فإن تسويق الوهم الطائفي وترهات الدين الى صفوف العمال، من شأنه طمس الصراع الطبقي وتحريف نصال نضالهم ضد الطبقة البرجوازية التي يجتمع ممثلوها السياسيين تحت سقف سمي بالبرلمان، من الحلبوسي والخنجر السني والمالكي والعامري والخزعلي الشيعي كي يصدروا قوانين تمنحهم الحصانة الدبلوماسية ورواتب وامتيازات تصل الى ١٠ مليون دينار شهريا لكل عضو برلمان ووزير من وزرائهم ومنحهم قصور فارهة، بينما يحصى العمال قتلاهم بعد التفجيرات، والمحظوظ منهم يحصل على فتات من موائدهم كي يبقوا على قيد الحياة ليوم آخر، في حين ان كل الخيرات التي ينهبها هؤلاء اللصوص هو من عرق العمال ونتاجهم.
من الوهم انتظار البرجوازية أن تمد يدها الى العلمانية، ومن الوهم أن تمنع البرجوازية نفسها في كل محطة تمر بها بطلب العون من الدين ورجالاته الذين يعيشون على بيع الخرافات و الخزعبلات والأوهام والنفاق الى الناس في كل محنة تمر به ويدفع لهم من الموازنة السنوية للدولة في حين تتحجج الحكومة بأن ليس لديها أموال كي تدفع كضمان بطالة الى الملايين من العاطلين عن العمل، ألم يقل لنا الإنسان البسيط في تظاهرات تموز ٢٠١١ (من دخل بيها ابو العمامة.. صار البوك للهامة) أي وصل السرقة الى قمة الرأس عندما دخل بها رجل الدين المعمم، ليكون احدى الشعارات المركزية في كل التظاهرات.
(أن تسميم ادمغة الاحياء في العراق بالترهات الطائفية والدينية هي سياسة ممنهجة ومخطط لها من قبل قوى الإسلام السياسي في حربها القذرة والدنيئة من أجل الاستحواذ على أكثر ما يمكن من السلطة والامتيازات والأموال. انها سياسة لتكبيل ذهنية العامل بالدرجة الأولى بمنظومة من الاكاذيب والاوهام اللاإنسانية لحرف نضاله ضد العدو الطبقي الواحد، فعلى سبيل المثال أن شركة بي بي البريطانية او شيل الهولندية او اكسيون موبايل الامريكية او بتروجاينة الصينية او لوك اويل الروسية ليسوا أنصار الطائفة الشيعية أو الطائفة السنية، او الناطقين العربية او الكردية، ولا هم اصدقاء اصحاب الكتاب المقدس، إلا أنهم وعن طريق شركة نفط الجنوب ونفط الشمال، يمارسون ابشع انواع الاستغلال والسرقة والنهب- الحركات الاحتجاجية بين الدولة المدنية والدولة العلمانية-سمير عادل-مجلة المد العدد ٩). وعليه أن الطبقة العاملة بحاجة الى إقرار دستور علماني، بحاجة أن تكون هوية الدولة العلمانية، فلديها مصلحة طبقية في ذلك كما اشرنا، وأن الشيوعيين هم أكثر تيارات هذه الطبقة، يجب أن يضعوا نصب أعينهم في تحقيق هذه المهمة كواحدة من مهمامهم النضالية.