الغرب و”الإنسان”، ومنْ هو ضحية هذه الكذبة؟
في أشهر مبدأ من مبادئ النظرية الماركسية، نقرأ تشديد مؤسسيها على إن “ليس هناك ثمة شيء يُدعى حقيقة مجردة؛ فالحقيقة دائماً ملموسة”. ولو تركنا مؤقتاً كل ما يتعلق من أحكام معرفية، منحت التحديد لهذا المبدأ وجعلت منه قاعدة صالحة للتطبيق على مجمل وقائع وشروط الحياة العامة، ونقف قليلا عند مزاعم الرأسمالية الغربية عن حقوق الإنسان وحريته.
منذ إعلان ما يُعرف بحقوق الإنسان في اعقاب الثورة الفرنسية عام 1789، والتي جاء في مقدمتها “لأن جهل حقوق إنسان أو نسيانها أو ازدرائها هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة…” توالت التعريفات منذ ذلك التاريخ في الخطب والادبيات السياسية التي تستعير أو تكرر ما ورد في أول مواد هذا الدستور القائلة ” ولد الناس أحرارا ويظلون أحراراً ومتساويين في الحقوق”، حتى جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 ليكون بمثابة إلزام للدول الموقعة عليه باحترام حقوق الإنسان.
وبذات الوقت ليظل هذا المفهوم، حكرا بيد الطبقة الرأسمالية تستعمله كأداة غامضة وغير مقيدة، ليخدم بالتالي أهداف مزدوجة.
رغم تشدقهم، وإلى حد التبجح في كثير من الأحيان بتبنيهم لمفهوم حقوق الإنسان وحرياته في كونه امتياز خاص بهم يتناسب مع رقيّهم الحضاري، يظهر التضارب بين القول والفعل، في تصرفاتهم بين مجتمعاتهم وكيف يكون تعاملهم مع بلدان العالم ومع الشعوب الأخرى.
التفاخر بالنظام الديمقراطي التمثيلي والانتخابات التنافسية على اساس حرية الرأي والاعتقاد، وفصل السلطات ومنح حقوق الاقليات والمرأة والنقابات العمالية والمهنية، وحكم القانون في مجتمع مفتوح يضمن حقق الانسان المدنية والسياسية…الخ. من هذه الانجازات والمكاسب، منها ما جاء نتيجة لنضال الطبقة العاملة الأوروبية وكادحيها وفُرض فرضا على الطبقة الرأسمالية السائدة في الغرب، نالته تتويجا لصراعها مع مستثمريها من أجل تحسين معيشتها وشروط عملها. ومن الانجازات ما جاء لتنظيم الرأسمالية لنفسها كطبقة وتوحيد صفوفها، وإدارتها الطبقية للمجتمع، وإن قدمت تنازلات أحيانا للطبقة العاملة فذلك من أجل إدامة وجودها وبقاء سيادتها الاقتصادية والسياسية، خشيةً من الانفجارات الاجتماعية والإطاحة بالنظام القائم كما حصل منذ عشرات العقود من ثورات أوروبية يشهد لها التاريخ، ويحصل باستمرار.
الرأسماليون تظهر حقيقتهم جلية وخلاف ما يدعون من تحرر وارتقاء، خارج ما يحب أن يسموه حدودهم القومية، توسعهم الاستعماري واخضاع بلدان ومئات الملايين من البشر بالقوة الغاشمة والقتل بالجملة والتشريد ونهب الثروات، وتجويع أمم عبر أنواع الحصار والعقوبات، وإبادة أخرى بمختلف الاسلحة الفتاكة، ومحو جغرافية، وطمس هويات وإبطال أخرى، وازدراء ثقافة الآخرين، وإعلان حرب لا هوادة فيها لكل مسعى للتحرر والتقدم والرفاه…
هذا ما شهدته قارات العالم لقرون عديدة من سيطرتهم على العالم، واقتسامه بينهم، وكأنه ملك صرف لا يحق لغيرهم التصرف فيه، ولازالت تصرفاتهم وسياساتهم الفظائعية، قائمة حتى اليوم بنفس الوتيرة ولكن بأساليب مستحدثة، كما كانت تأخذ بإفراط ولا تعطي شيئا.
هنا تكمن حقيقة الرأسمالية، ويجب أن لا يغفل عنها أحد، أو تنطلي عليه حيلة الازدهار ورعاية النمط الحضاري المتقدم في الغرب، فإن النسبة في التفاوت الطبقي داخل هذه المجتمعات لا زالت هي نفسها باقية منذ بدايات العصر الصناعي قبل قرون، وإن حلتْ درجات من الارتقاء والتطور في الحياة العامة، ولا زالت الاحتجاجات متواصلة ضد الرأسمالية ونظام التجويع وقلة الاجور وتسريح العمال والبطالة، والغلاء، أي إن المعيشة لازالت غير مضمونة مع بقاء الرأسمالية في الحكم، قبل قرون أو حاليا.
إن الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، قبل أيام وما لحق بهاتين الدولتين من دمار كبير، واضطرارهما تحت وطأة هذا الفرع الكبير، إلى طلب الإغاثة الدولية لنجدت آلاف العوائل تحت حطام الانقاض، كشف الازدواجية التي تتعامل بها الأنظمة الحاكمة في هاتين الدولتين المتضررتين، والمجتمع الدولي. في ما أطلقوا عليه بحقوق الإنسان وتسخير هذا المفهوم حسب المصالح السياسية لكل من حكومتي سوريا وتركيا، أو حكومات الدول الأخرى.
النظام السوري يريد أن يستثمر ويستفيد باسم هذه الفاجعة، سياسيا للعودة الى المجتمع الدولي ورفع العقوبات عن سوريا حتى ولو كانت جزئية، مطالباً بمرور المساعدات من خلال مؤسساته الرسمية، بحجة الخشية من وقوعها بيد الإرهابيين المسيطرين على اجزاء من شمال سوريا مكان الزلزال.
والشمال السوري، واقع جزء منه ايضا تحت سيطرة تركيا أو تحت سيطرة التنظيمات الكوردية المعادية للنظام التركي، والمدعومة من أمريكا. الأمر الذي منع تركيا من الموافقة على مرور المساعدات من خلالهم، والنظام لم يستطع المساعدة هو نفسه كونه الطرف الأكثر تضرر من الزلزال وبحاجة لكل انواع المساعدة.
والغرب متمثلا بالاتحاد الاوروبي، وامريكا وغيرها من الدول الغربية والصناعية المتقدمة، تناور بتقديم المساعدات لمتضرري الزلزال السوريين، مرة بحجة إن النظام السوري لم يقم بتقديم طلب الإغاثة، وأخرى لعدم وجود هيئات معتمدة لتسليمها المساعدات.
باستثناء النزر اليسير من المساعدات الذي قدمته دول عربية وعالمية لسوريا، قياسا لحجم المساعدات التي قُدمت لتركيا، فقد قدمت 20 دولة من الدول الأعضاء بالاتحاد الاوروبي، بالإضافة إلى الجبل الأسود وألبانيا ودول أخرى، لتأمين فرق المساعدة، التي تشمل 1500 عامل دفاع مدني و عشرات الكلاب المدربة على عمليات البحث والإنقاذ مع طواقم طبية وخيم ومستشفيات ميدانية. لم يُقدم شيئا مماثل لسوريا لأن النظام السوري لم يلجأ إلى طلب المساعدة الأوروبية و”الاستعانة بآلية الحماية المدنية” وإدارة مخاطر الكوارث لكي تسمح بتفعيلها قواعد الاتحاد الأوروبي، كما يدّعون!!
لم ينل العالقون تحت الانقاض، سوى انطفاء أرواحهم انتظارا لحسم الصراعات السياسية والجدل الدائر حول احقية من سيقوم بتوزيع ونقل المساعدات، ويبقى الناجون بالعراء المجمد والجوع ترنو انظارهم باتجاه من يمد يد العون إليهم.
الانسان وفي كل مكان كما تقول لوائح حقوق الإنسان الأممية، له الحق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه، ولا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو التي تنال من الكرامة… وهل صدقتْ صيغ التعاريف والمفاهيم هذه يوماً ما، وفي أي مكان من العالم؟؟
هكذا تُرك الإنسان السوري المنكوب من الزلزال، يعاني الأمرين من جميع الجهات، من حكومته ومن حكومات العالم، إضافة إلى مآسي اثنا عشر عام من الحرب المتواصلة والعقوبات.
الإنسان السوري المسحوق من جراء الزلزال، الأكثر الناس حاجته ملموسة للإغاثة، وماذا تنفعه التعابير الرنانة والغامضة عن حقوق الإنسان إن لم تنقذه من الموت، بخلاف السياسيين وحساباتهم الذين يعّرفون الإنسان وحاجاته وإغاثته حسب مصالحهم وما يعود عليهم من فوائد، حتى ولو أدى ذلك إلى هلاك الملايين خارج حدود حسابتهم.