اظهر بحث جديد قام به باحثون في جامعة كاليفورنيا ونشر في “جورنال اوف ميديكل اسوشيشن-جاما) في 17 نيسان 2023 ان الفقر هو رابع أكبر سبب للوفاة في الولايات المتحدة بعد امراض القلب والسرطان والتدخين حيث تسبب ب 183000 حالة وفاة في عام 2019 بين الفئة العمرية 15 عاما فما فوق بمعدل 500 وفاة في اليوم. ويعتقد بان هذا العدد قد ارتفع بعد جائحة كورونا. ويفوق عدد الذين يموتون بسبب الفقر الوفيات التي تسببها السمنة والسكري والجرعات الزائدة من المخدرات وحالات الانتحار والقتل بما فيه بالأسلحة النارية. ويبدأ التفاوت في معدلات البقاء على قيد الحياة بعد الاربعينيات حيث يموت الفقراء بمعدلات اعلى بكثير من الأشخاص الأكثر ثراء. علما ان 38 مليون شخص يعيش تحت خط الفقر في أمريكا والفقر بين الأطفال عالٍ بشكل مفلت، فهو اعلى من أي دولة متقدمة أخرى وهو ضعف معدله في المانيا مثلا.
الفقر لا يؤدي الى وفيات زائدة فحسب، بل يؤثر على نوعية الحياة الفردية من صحة وسعادة ورفاهية أيضا وعلى رفاهية المجتمع والأواصر الإنسانية فيه.
ان الوفاة نتيجة الفقر هي ليس مسالة متعلقة بالعدالة الاجتماعية فحسب، بل هي مسالة اقتصادية أيضا فالمشاكل الصحية والمشاكل الاخرى الناتجة عن الفقر، تؤثر على العمر الذي يقضيه الشخص في العمل وعلى الإنتاجية ومقدار العطاء للعائلة والمجتمع.
وكالعادة توجه البرجوازية الاهتمام ليس الى الأسباب الأساسية للمشاكل والحلول الجوهرية بل تقوم بإجراءات ترقعيه. اذ هناك 13 برنامج من البرامج الكبيرة لمساعدة الأمريكيين الذين يقل دخلهم عن 1015 دولارا للفرد مثل برنامج طوابع الغذاء وغيرها هذا عدا البرامج الأصغر. هذا الفقر يحدث في وقت زادت وتيرة الإعفاءات الضريبية على الأغنياء، اذ تخسر الحكومة الامريكية مثلا 1.8 تريلون دولار في السنة على شكل إعفاءات ضريبية. وهكذا يفوق الدعم الذي تقدمه الدولة للأغنياء على شكل إعفاءات ضريبية او تهرب قانوني وغير قانوني من الضرائب الدعم الذي تقدمه الدولة للفقراء.
إن سبب هذا المعدل الخرافي للفقر في أغنى دولة في العالم واضح جدا، وهي ان حصة الطبقة العاملة من الثروة التي ينتجوها قليلة، حيث تذهب معظم هذه الثروة الى الأغنياء، اذ بقت الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة على حالها في اخر 40 سنة رغم زيادة الإنتاجية بشكل كبير وهذا يؤدي الى درجات خيالية من عدم المساواة. فالثروات التي يجمعها جيف بيزوز وايلون مسك و بيل غيتس ليس لانهم عباقرة ويعملون بجهد كبير بل لانهم خبراء في استغلال وسرقة الملايين من العمال.
يعمل ما يقارب من 23% من العمال الأمريكيين في وظائف منخفضة الأجور وهي نسبة تفوق النسبة في كل الدول المتقدمة اذ لا تتجاوز هذه النسبة في إيطاليا مثلا 5%. ان وجود عامل له وظيفة عمل وأحيانا اكثر من وظيفة فقير رغم كل هذه الوفرة هو عار على النظام الرأسمالي.
رغم ان كل الأدلة تشير الى ان القضاء على الفقر هو امر مربح للمجتمع من الناحية الاقتصادية ويحسن نوعية الحياة ويزيد من رفاهية المجتمع نتيجة قلة العنف و الجريمة والخشونة بأنواعها ورقي العلاقات، الا ان النظام الرأسمالي وخاصة في الدول التي تكون الطبقة العاملة في موقع ضعيف لا يمكنها الدفاع عن مصالحها يميل الى توليد الفقر وعدم المساواة. ان هذا الميل يحدده ميزان القوى بين الطبقة العاملة والطبقة البرجوازية. ان كل المكاسب التي تتمتع بها الطبقة العاملة والتي يتباها بها المدافعون عن النظام الرأسمالي تفرض بالقوة والنضال المستميت من قبل العمال.
لقد ضعف موقع الطبقة العاملة في الولايات المتحدة منذ السبعينيات نتيجة مغادرة الرساميل الى الدول التي تتمتع بأيدي عاملة رخيصة مثل الصين ودخول الكومبيوتر وزيادة مكننة الإنتاج ودخول المرأة الى سوق العمل.
.
في ظل هذا الاختلال في توازن القوى بين الطبقتين الاساسيتين في المجتمع وخاصة في أمريكا حيث تعرضت الحركة الشيوعية والاشتراكية والنقابات الى حملة شرسة ظهرت النظريات والسياسات والحركات النيو ليبرالية لإعطاء تبرير أيديولوجي وفكري للهجمة على الطبقة العاملة. ودشنت هذه الحملة بشكل واضخ بصعود ريغان وتاتشر في الثمانينيات الى الحكم والذي رافقها حملة شرسة على النقابات وكل اشكال التنظيم العمالي، وحملة خصخصة وتقليص الخدمات التي تقدمها الدولة.
ولم تقم الحركات النيوليبرالية بأضعاف الطبقة العاملة من خلال الهجوم على الحركات التي تدافع عن حقوقها مثل الشيوعيين والاشتراكيين والنقابات فحسب بل من خلال قرارات سياسية أدت الى تسريع التجارة العالمية والعولمة من خلال الاتفاقيات التجارية مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية والتي سهلت للشركات نقل مصانعهم الى الدول الأخرى.
وبسبب ضعف مكانة الطبقة العاملة لا تجد أي من الأحزاب البرجوازية أي سبب للاقتراب او تقديم تنازل للطبقة العاملة وخاصة في وضع يقوم الأغنياء بشراء الطبقة السياسية والاعلام والمؤسسات البحثية.
في المقابل تمكن الرأسماليون والشركات الاحتكارية من شراء ولاء الأحزاب الرئيسية مثل الحزب الجمهوري والديمقراطي في أمريكا وتوظيف جماعات الضغط، للضغط على صانعي السياسيات لتمرير السياسات التي تخدم مصالحهم وتشدد استغلال الطبقة العاملة. وتقوم البرجوازية بالسيطرة شبه المطلقة على الاعلام وحملة تحميقية تقدس ” تحرير الاقتصاد وزيادة ديناميكيته” من خلال القضاء على كل اشكال التنظيم العمالي وتصوير وجود النقابات عائق امام زيادة الإنتاجية وبالتالي رفاهية المجتمع و خطورة زيادة الحد الأدنى للأجر والضمانات الوظيفية والعلاوات على الاقتصاد.
عندما لا يكون للأحزاب البرجوازية الرئيسية مثل الحزب الجمهوري والديمقراطي أي شيء للطبقة العاملة التي تمثل اغلبية المجتمع، تلتجأ الى طرق أخرى لخلق قاعدة اجتماعية لها. لهذا بدأ اليمين البرجوازي مثل الحزب الجمهوري الامريكي يعتمد على قاعدة من جماعات اجتماعية مثل المعاديين للهجرة والمدافعين عن حق حمل السلاح والمعادين للإجهاض والجماعات الدينية المتطرفة والمعادين لتدخل الدولة في الاقتصاد وتقديم الخدمات وغيرها بينما يميل أحزاب ” اليسار” البرجوازي مثل الحزب الديمقراطي الأمريكي الى خلق قادة تستند على سياسات الهوية والجماعات التي تتشكل حول هذه الهويات مثل المدافعين عن حق المثليين والمتحولين جنسيا و الحركات الفمنستية البرجوازية وحقوق الأقليات الدينية والعرقية، والمدافعين عن كل اشكال المساواة الشكلية بين الأقسام المختلفة في المجتمع.
وتصبح المنافسة بين الأحزاب البرجوازية الرئيسية التي تمثل نفس الطبقة وتتفق على السياسات الاقتصادية والاجتماعية الاساسية والسياسة الخارجية شكلي الى حد كبير. ولهذا يوجد هذا الكم الهائل من الفقر وهناك الملايين من المشردين بسبب طرد الفقراء من بيوتهم ومعدلات عالية من الجريمة والادمان وكل الامراض الاجتماعية الأخرى. ويؤدي هذا الواقع الى انهيار المجتمع بشكل بطيء. وبدلا من رفع الحد الأدنى للأجور ومنع الأغنياء من تفادي دفع الضرائب تقوم الطبقة الحاكمة بالهاء السكان بأسقاط مناطيد الطقس واشعال الحرب في أوكرانيا وخلق توتر مع الصين وخلق عدد غير متناهي من المعضلات المصطنعة. ان وجود اكثر من 38 مليون انسان يعيش تحت خط الفقر وموت اكثر من 183 الف انسان بسبب الفقر في اغنى دولة في العالم هو دليل دامغ بان هذا النظام قد فقد شرعيته وحان الأوان لتغييره.