الناتج الاجمالي المحلي، كذبة لا نصدقها
ضجت القنوات الاخبارية والمواقع الالكترونية العراقية والعربية وعالمية أيضا قبل أيام مضتْ، بخبر مفرح عن العراق، مضمونه بأن العراق جاء بالمرتبة الأولى عربياً والسادسة عالمياً بمعدل نمو الناتج المحلي الاجمالي، بنسبة 9.5%، النسبة التي سبق وتوقعها صندوق النقد الدولي هذا العام، وكما نشرت مجلة (Global Finance) الأمريكية ذات المرجعية العالمية عن الأخبار المالية والتجارية والبنوك، في تقريرها الشهري مشيرةً إلى هذا الأداء المتميز للاقتصاد العراقي.
ولنا أن نتحدث عمّا نعرفه عن الفكرة العامة لما يُسمى بالناتج الاجمالي القومي أو المحلي، ويُعبّر عنه اختصاراً دائما بالنمو،
وإيجازاً؛ بأنه القيمة النقدية، أو السوقية، لكل ما منتج من سلع ومن خدمات داخل السوق المحلية، من قبل القطاعين الخاص والعام. ومجموع قيم هذا الانتاج تُعتبر مقياس لإنجازات الاقتصاد بشكل عام، لأن معدلاته سوف توزع على الدخل العام، وبالنتيجة وحسب ما يُصرح به أصحاب هذا التعريف، سينال الفرد نصيبه من هذا الدخل والإنفاق والخدمات، ويعني إن معيشة المجتمع في تناسب مع (النمو) هذا، وبدهاء لا يتعدى حدود الدراسات المكتبية، تريد الرأسمالية اقناع الآخرين نظرياً بأن أرباحها المتراكمة ستفرّق على الجميع.
واصطلاح النمو المعاصر، الذي تتحدث عنه الرأسمالية في كل مناسبة وفي كل وقت، لا يختلف في جوهره عن المفهوم الماركسي لما يُعرف بإعادة الإنتاج بشكليه البسيط والموسع، والذي يشرحه كارل ماركس بعبقريته المعهودة قائلاً” إن قسماً من القيمة الزائدة، لا ذاك القسم الذي أنتج فحسب، ولكن الذي تم تحقيقهُ دورياً أثناء السنة، نقول، إن قسماً من القيمة الزائدة ذاك يمكن له أن يغطي المصاريف الضرورية للإصلاح، الخ. وهكذا يكون قسماً من رأس المال اللازم لتسيير المشروع على مستواه الأول قد أُنتج أثناء المشروع نفسه وذلك بفضل تحول قسم من القيمة الزائدة إلى رأس مال… إن التراكم، أي تحول القيمة الزائدة إلى رأس مال هو، من حيث مضمونه الحقيقي، استمرار الانتاج على مستوى موسع، إعادة الأمر إلى تكبير توسيعي نتيجة لتشييد معامل جديدة تزاد إلى المعامل القديمة، أم عاد إلى تكبير ناتج عن تقوية، الاستثمار بالمستوى الموجود نفسه…” .
ولما كان هذا القسم من النظرية الاقتصادية الماركسية ” استمرار الانتاج على مستوى موسع” أي النمو لاحقاً، قد تأسس وانطلق من نظام الإنتاج البضائعي، في عالم بلدان أعتمد اقتصادها على الصناعة المتطورة. ولكن على العراق لا ينطبق حالياً هذا المفهوم، كلياً، كون العراق بلد غير صناعي بالمرة، ويعتمد اقتصاده على مبيعات ثروته الطبيعية – النفط – وهي المصدر الوحيد لكل عائدات ثروته عدا مصادر أخرى غير ذات أهمية، تقوم شركات أجنبية بإنتاج هذا النفط وتصديره وتقطع أرباح هائلة من هذا المردود الوحيد، كتراكم لرؤوس أموالها.
وفي الحقيقة، يعود ارتفاع معدلات النمو العراقي اليوم، ليس إلى تحسن في أداء انتاجية الاقتصاد العراقي العام في طبيعة الحال، بل إلى زيادة أسعار النفط حصراً، بسبب أزمة وتداعيات حرب أوكرانيا، التي رفعت اسعار النفط عالمياً. وهي الملاحظة الجديرة التي نبه عنها تقرير المجلة الامريكية نفسها عندما لفتتْ بأن” أرقام الناتج المحلي الإجمالي لسنة واحدة يمكن أن تكون مضللة لأن العديد من الاقتصادات التي كانت سريعة النمو قد شهدت هبوطًا سريعًا ودراماتيكيًا”…لأسباب أرجعتها المجلة إلى ما سمته “لعنة الموارد” أي سوء إدارة الإيرادات المتأتية من استخراج النفط والتي ارتبطت تاريخيًا بتباطؤ النمو الاقتصادي والفساد والاستبداد ومجموعة كاملة من الأمراض الاجتماعية”.
الذين رحبوا وهللوا لزيادة النمو في الاقتصاد العراقي، هم المستفيدون من مكاسبه. صندوق النقد الدولي ودوائر مالية عالمية أخرى، ووزير المالية العراقي علي علاوي، الحريص على تنفيذ وصفات وبرامج صندوق النقد الدولي للحكومة العراقية، والذي لم يدخر جهدا بالإعلان بأن “التعافي في أسعار النفط والإدارة المالية الحكيمة، ساعد الاحتياطيات على أن تصبح 70 مليار دولار بحلول نيسان، وسترتفع إلى 90 مليار نهاية هذا العام”.
الوزير علاوي، كان سعيداً هذه المرة على غير عادته الضجرة من أداء الاقتصاد المالي الذي يديره مرغماً، بالمردودات المالية التي تحصل عليها العراق من بيع النفط، وحفظها كاحتياطات ضخمة، وصف هذه الخطوة بدون مواربة بأنها “حكيمة”. لكن هذه الحكمة لصالح منْ؟. هل هي من أجل تشغيل ملايين العاطلين أو منحهم ضمان بطالة، أو من أجل تحسين الخدمات من الكهرباء والماء الصالح للشرب أو الرعاية الصحية، والبطاقة التمونية، أو تحسين قيمة العملة العراقية لتساعد في تخفيض الاسعار؟… وجملة تكاد تكون بلا عد، لما أسمته المجلة أعلاه ” بالأمراض الاجتماعية” والتي هي لا تتعدى سوى كونها تداعيات المشهد السياسي، على معالجة أزمات البلد، وهي مشاكل في صلب النظام الحاكم وهيكليته التي لا علاج لها إلا بالاستئصال.
الحكمة التي قصدها الوزير علاوي، بلا شك، هي في ادخار الأموال النفطية كاحتياطات، لحل أزمات النظام الحتمية، وليس إلى الاستثمار الاجتماعي قطعاً.
إنهم، الوزير وحكومته ومن يقف سداً لهم أو ورائهم، عراقياً ودولياً، لا يعنيهم شأن المجتمع ومطالبه ورفاهه، ما يعنيهم كطبقة ليست سوى معادلات المال وتراكمه بين أيديهم، وطريقة إنفاقه كي تستمر سلطتهم وحيازاتهم. هم في وادٍ والجماهير المتطلعة للحياة الكريمة والعيش المضمون في وادٍ آخر.
الشقة بين الطبقات أخذت تبتعد يوماً بعد يوم، وإصرار الطبقة البرجوازية بكل أطيافها وتلاوينها، ولاسيما بعد تراجع انتفاضة اكتوبر، على الفوضى وسوء الإدارة جعل منها كابوس يجثم على صدور جماهير الشعب العراقي. لأنهم لا يحسنون سوى طريقة إدارة الحكم هذه، التي لا تكرّس سوى الانقسام الطبقي الصارخ، والصراع مع الجماهير المحرومة، التي لما تزل تحتج وتطالب منذ سنين طويلة وإلحاحها على تحقيق مطالبها، بكل صورة لكن للأسف كانت في الغالب ذات طابع عفوي، الطابع الذي منح الطبقة الحاكمة وهماً خاطاً بأنه ظفر لهم.
لازالت أحزاب السلطة سادرة في فسادها وجنون الاستبداد والنهب، ولازالت تمارس نفس أساليب الاستحواذ والعراك على مقدرات الدولة، إلى درجة جعلت منها لا دولة؛ أو اقطاعة على مقاسهم.
وبناءً على هذا الحال، نجد في المقابل، ملايين من المحرومين حتى من أبسط مقومات الحياة العادية، لا تلين لهم شكيمة، وعلى نفس الوتيرة من الهمة يحتجون ويتقدمون يومياً نحو مطالبهم التي لا تقبل أي مساومة أو تأجيل.
إن المهمة الآن، مهمة الشيوعيين، مهمتنا، لتسديد خطى الجماهير، وملاحظة الأخطاء، وفضح أكاذيب الطبقة الرأسمالية برمتها، من أجل خلق وصناعة وعي جماهيري يتغلب على العفوية وخيباتها، وهي المهمة التي وجد على أساسها الحزب العمالي الذي يقف في قلب الحراك الجماهيري، ويقوده إلى غايته التاريخية، وهذا الأمر ليس بعيداً ففصول انتفاضة أكتوبر لا زالت متواصلة، رغم الفقاعات التي تطلقها الرأسمالية العالمية، عن ازدهار الاقتصاد وتنامي ناتجه المحلي، الذي لا يعني لهم سوى أكوام اضافية من المال، وبالرغم من كل الخيبات والتراجع الذي فُرض على انتفاضة اكتوبر، إلا إنها نجحت بغلق الطريق على الجماعات السياسية الحاكمة، وجعلتهم يدورون في حلقات مفرغة، وتعلمتْ الجماهير درساً باكتساب خبرة؛ إن تحررها لا يتم إلا بقواها الذاتية، وهو ما نلمسه، يومياً بتصاعد الدعوات للإطاحة بالنظام برمته، وتصاعد دعوات أخرى، بتشكيل نظام آخر على غرار المجالس الشعبية، للإدارة المباشرة من قِبل الجماهير لتسيير شؤونها، وهي خطوة ثورية ستقود حتماً للانتصار النهائي، وعزل أعدائهم عن كل سلطة.