النزعة الوطنية المشروخة و النزعة المعادية للإسلام السياسي
العقلية القومية في إيران، كما هي العقلية القومية في تركيا، لا يمكنها التمدد في المنطقة وفرض هيمنتها السياسية والاقتصادية، في خضم تنافس محتدم بين الاقطاب الاقليمية الاخرى مثل السعودية والإمارات وإسرائيل، دون تغليفها بأيديولوجية قادرة على النفاذ والتغلغل في بلدان المنطقة.
أن تغليف القومية البرجوازية التركية أو القومية البرجوازية الايرانية بالإيديولوجية الإسلامية، هو الوسيلة الناجعة لتحقيق استراتيجية فرض النفوذ الاقتصادي والسياسي، وتشكيل جماعات وقوى سياسية محلية تتناسب وتتفق مع مشاريع تحقيق استراتيجيات تلك البرجوازيات، التركية والإيرانية في المنطقة.
ومن اجل توضيح ذلك أكثر، على سبيل المثال إن الهيمنة السياسية الإيرانية في لبنان لا يمكن إيجاد ارضية سياسية واجتماعية لها دون تغليفها بالإسلام، كما هو الحال ايضا في اليمن والعراق وسوريا، بغض النظر عن العناوين على الغلاف، مثل المقاومة والممانعة أو الحرب على الإرهاب. ويصح نفس الشي وبقدر متساوي على التمدد التركي في العراق أو في بلدان كانت جزء من الإمبراطورية العثمانية.
أي أنه لا يمكن مواجهة النزعة القومية المحلية في تلك البلدان من قبل التمدد القومي التركي أو الإيراني، الا بأيديولوجية اكبر منها، والا يطرح سؤال على حزب الله اللبناني وتحالف المليشيات العراقي المتمثل بالإطار التنسيقي وجماعة الحوثي في اليمن ومجموعة الحلبوسي- خميس الخنجر في العراق وآخرين، من أين يستمدون حقانيتهم كي يمثلوا جزء من نفوذ تلك القومية البرجوازية التركية والايرانية في بلدانهم أو مناطق انتماءاتهم؟، كيف يردون على توغل النفوذ القومي الإيراني والتركي في العراق وبقية البلدان؟، كيف يستطيع حزب الله و الإطار التنسيقي الدفاع عن النفوذ القوي الإيراني في العراق او في لبنان؟، أو كيف يستطيع تحالف الحلبوسي-خميس الخنجر تبرئة تركيا من قصف قواتها المجمع السياحي في دهوك وقتل وجرح أكثر من ٤٠ شخص مدني؟، كيف يقومون بتبرير النفوذ التركي في العراق والذي يمتلك ٥ قواعد عسكرية فيه وأكثر من ١٠٠ نقطة عسكرية في شمال العراق، وتركيا تصول وتجول كما تشاء دون اي رقيب أو رادع؟!
بعبارة أخرى، أن الحيلولة دون المواجهة السافرة مع النزعة الوطنية المحلية، يفسّر سرّ تمسك البرجوازية القومية في إيران بنشر التشيع وتفسيرها للتاريخ الإسلامي ومروياته وفق رواية الإسلام السياسي الشيعي، وأيضاً يكشف عن سر استماتة تركيا بالدفاع عن الإخوان المسلمين، وهو الاسلام السياسي السني، ومحاولة إحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانية، حيث كانت تركيا وما زالت تقدم الدعم المالي والسياسي والعسكري والأمني لكل الجماعات والعصابات الإسلامية المنتمية والمنشقة والتي خرجت من تحت عباءة الإخوان المسلمين، من كل حدب وصوب في سوريا ومصر وليبيا وتونس، وأكثر من ذلك كانت راعية لداعش ودولته الإجرامية بشكل غير مباشر قبل انتفاء مقتضيات المصلحة، وتحت الراية الإسلامية أسست عشرات الجوامع والمساجد في مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية، لتحويلها إلى مراكز الانطلاق السياسي والهيمنة الاقتصادية، والتأثير على مراكز صنع القرارات في عواصم العديد من البلدان مثل البوسنة والهرسك وأذربيجان وألبانيا وأوكرانيا وحتى في بلدان مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا..الخ.
لقد قامت البرجوازية القومية التركية باستغلال كِلا الثورتين المصرية والتونسية وهبوب نسيمهما على المنطقة لتكون جزء من المعادلة السياسية الجديدة، وترتيب دورها ومكانتها من خلال تقديم نفسها كعرابٍ للإسلام السياسي السني ومشروعه الإخواني في المنطقة، وبنفس القدر لعبت القومية البرجوازية الايرانية نفس الدور، حيث وصف علي الخامنئي مرشد الجمهورية الإسلامية “الثورات العربية” بأنها صحوة اسلامية، وقامت إيران بتقديم كل الدعم للمليشيات والعصابات التي شكلتها في بلدان المنطقة.
*****
إذا ما حددنا حديثنا عن العراق، فإن النزعة الوطنية التي تمثل القومية المحلية والتي لا يمكن فصلها عن النزعة القومية العروبية، توجه اليوم سياط نقدها وتصب جام غضبها على النفوذ الإيراني في العراق، وقد نجح الممثل السياسي للنزعة الوطنية بتصوير العراق كأسير للنفوذ الإيراني من زاوية قومية صرفة، وان سبب الفقر والعوز والفساد وغياب الدولة والقانون وكل الفوضى السياسية والامنية هو بسبب إيران، ولذلك نجد أن عدد من الشعارات التي رفعت في انتفاضة أكتوبر وفي احتجاجات الصدر الأخيرة، وفي التظاهرات التي سُميت بتظاهرات “المدنيين” في بغداد، وهي النسخة المعدلة والمظللة للتيار الصدري، ( إيران برّه برّه ، بغداد تبقى حرّة)، في حين لا رقيب ولا حساسية مفرطة لنفس النزعة الوطنية ولا حديث بحرقة قلب على تغلغل الرأسمال التركي والشركات التركية بحراب القوات التركية المنتشرة على مساحة كبيرة في كردستان العراق، وقصفها المتواصل على القرى والاقضية وقتل المدنيين، والجدير بالذكر أن حجم التبادل التجاري مع العراق وصل إلى أكثر من ٢٠ مليار دولار في عام ٢٠٢٠ وتسعى تركيا لزيادتها الى ٥٠ مليار دولار، وتشكل العلامات التجارية التركية ٩٠٪ في الاسواق العراقية (حسب رئيس غرفة الصناعيين ورجال الأعمال نواف قليج في تركيا والعراق) ، وهو الأكبر بما لا يقارن مقارنة مع حجم العلامة التجارية والتبادل التجاري الايراني.
إن هذا التصوير المخادع والمشوّه والمغرض والمخطط له بعناية سياسية فائقة من قبل الممثلين السياسيين للنزعة الوطنية، هو محاولة لطمس ماهية الصراع السياسي على السلطة بين جناحين في نفس العائلة الاسلامية السياسية الشيعية من جهة، ومن جهة أخرى هو مسعى لإبعاد المشروع الإسلامي من النقد، كواحد من المشاريع السياسية لأكثر أجنحة الطبقة البرجوازية تخلفا وانحطاطا وغرقاً بالرجعية حتى النخاع، والذي اثبت فشله الذريع وتناقضه مع التطور الإنساني الذي وصل إليه في المجال العلمي والمدني وحقوق الإنسان، علاوة على ذلك كشف عن تناقضه الصارخ مع تطلعات الإنسان في الحرية والمساواة.
وتختلف التجارب الإسلامية الفاشلة بدرجات في معيار رجعيتها واجرامها في كل بلد، حسب توازن القوى في المجتمع، إلا أنها متساوية من ناحية المحتوى، سواءً أكان إسلام سياسي شيعي أو سني، والامثلة كثيرة مثل إيران الملالي والدول الفاشلة التي تدور في فلكها مثل لبنان والعراق وسورية واليمن، والإسلام السياسي السني في تركيا والمغرب وتونس ومصر وأفغانستان طالبان…الخ.
إن هذه النزعة الوطنية تجد ارضية اجتماعية سياسية خصبة لها في العراق، فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود من حكم نظام البعث القومي للعراق، تم فرض الهيمنة القومية العروبية في المنطقة، ودون التعبئة الايديولوجية القومية وترسيخها في المجتمع، لم يكن بإمكانه خوض حرب ثمان سنوات مع إيران تحت لافتة حماية البوابة الشرقية للأمة العربية، و تبرير احتلال الكويت، وتحميل أعباء الحصار الاقتصادي الوحشي على كاهل الاغلبية المطلقة لجماهير العراق، واخيراً غزو واحتلال العراق.
صحيح أن التيار القومي العروبي والوطني تراجع سياسيا بعد غزو واحتلال العراق بسبب سقوط سلطته السياسية، إلا أنه على الصعيد الاجتماعي أصبح أكثر قوة وتوسعت جذوره في عمق الوعي الاجتماعي.
وعلى أقل تقدير، خلال أكثر من عقد من الزمن، لم يكن للنزعة الوطنية أو القومية المحلية الممزوجة مع القومية العروبية أي تمثيل سياسي لها في السلطة السياسية، وكل القوى العروبية والوطنية مثل جماعة اياد علاوي والحزب الشيوعي العراقي ارتبطت صورهم بشكل مباشر وغير مباشر بالاحتلال، حيث كان اياد علاوي احد عرّابي احتلال العراق منذ مؤتمر لندن عشية الحرب وغزو العراق، والحزب الشيوعي أصبح عضوا في مجلس الحكم الذي شكله بول بريمر الرئيس المدني للاحتلال، وكجزء من حصة الشيعة في المجلس عبر سكرتيره حميد مجيد موسى، وصورة كليهما تتناقض مع وصف الوطنية وتعريف الوطنية، والتي إحدى خصائصها في القاموس السياسي للبرجوازية عدم المهادنة مع الاحتلال وسياساته.
بمعنى آخر، لقد غاب بشكل كلي ممثل النزعة الوطنية والعروبية في التمثيل السياسي في السلطة منذ عام ٢٠٠٣ أي عام الغزو.
تحايل النزعة الوطنية على النزعة المعادية للإسلام السياسي:
في انتفاضة أكتوبر عام ٢٠١٩، رفعت النزعة الوطنية والقومية العروبية رأسها ولأول مرة، وكانت احد اكبر التيارات الاجتماعية قوة على صعيد النزعة السياسية، وصدرت لها صحيفة باسم (التكتك)، وفي غضون ذلك، تم حرق عشرات المقار للأحزاب والقوى والمليشيات الإسلامية، وتم تمزيق صور رموز عرّابي الإسلام السياسي الشيعي في المدن الجنوبية مثل الخامنئي والخميني، إلا أن كل تلك الأعمال وقعت تحت الأفق القومي المعادي لإيران، وليس على خلفية معادية للإسلام السياسي.
بيد أن الجانب الآخر من اللوحة يحاول ممثلي النزعة الوطنية طمسه، فهناك نزعة معادية ملموسة للإسلام السياسي، لكن تم توجيها، اي توجيه غضب الجماهير ضد القوى الموالية لإيران، والمحاولة لتفريغها سياسيا، وابقاء اذكاء نيرانها بالحدود القومية، للحيلولة دون وصولها الى حرق كل منظومة الإسلام السياسي الحاكمة في العراق.
ويمكن رؤية هذه النزعة المعادية للإسلام السياسي في صفوف جماهير العراق بشكل مادي وقاطع دون اي عناء، فمن تابع او عاش او شارك ايام تظاهرات تموز ٢٠١٥ في بغداد والتي رفعت شعارا (باسم الدين باكونا الحرامية) او شعار (من دخل بيها ابو العمامة صار البوك للهامة) وانتشر كلا الشعارين، كالنار في الهشيم، ليصبح شعارا واحدا مركزيا في كل تظاهرات مدن العراق، و ثم تظاهرات ٢٠١٨ في تموز ايضا حيث طرد المتظاهرون مقتدى الصدر وحيدر العبادي الذي كان حينها رئيسا للوزراء من احتجاجات البصرة، وكانت زيارتهما المتفاوتة في التوقيت، هي محاولة لامتصاص غضب الجماهير الثائرة ضد سلطة الاحزاب الاسلامية الفاسدة، وفي غضون ذلك تم حرق مبنى مجلس محافظة البصرة وهرب جميع أعضاء مجلس المحافظة بما فيهم المحافظ الحالي اسعد العيداني، كما سبقتهم بالهروب، المليشيات الاسلامية، وحرق معها عشرات المقرات التابعة للأحزاب الاسلامية، وفي انتفاضة أكتوبر وخلالها رفعت شعارات معادية لمقتدى الصدر وتياره السياسي (شلع قلع واللي كايله وياهم) من قبل الاف من النساء والتحرريين من الرجال ردا على تصريحات الصدر بفصل الذكور عن الإناث، وكان اسقاط حكومة عادل عبد المهدي اول ضربة موجعة لمنظومة الاسلام السياسي وفقدان السلطة التنفيذية، وبين هذا وذاك، قاطع اكثر من ٨٢٪ من جماهير العراق انتخابات ايار ٢٠١٨ و اكثر من ذلك الرقم في انتخابات تشرين الاول ٢٠٢١، كل هذه المعطيات تبين ان النزعة المعادية للإسلام السياسي على الصعيد الاجتماعي بالرغم من قوتها وتجذرها يوما بعد يوم، افتقدت إلى راية سياسية وتمثيل سياسي، بعيدا عن التيار الوطني والقومي العروبي الذي تتحرك بوصلته باتجاه معاداة إيران ونفوذها في العراق، وليس لديه اية مشكلة مع الاسلام السياسي، في حين أن جذر المشكلة، الذي عبرت عنه الاغلبية المطلقة من جماهير العراق، في جميع الاحتجاجات الغاضبة، وفي الانتخابات المذكورة وقبلها اسقاط الحكومة، يعود إلى رفض سلطة الإسلام السياسي كسلطة حاكمة في العراق، و كواحد من اجنحة الطبقة البرجوازية التي ليس لديها اي خلاف من حيث البرنامج الاقتصادي مع السياسة الليبرالية التي يشرف على تنفيذها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.