
أكتوبر: بعد سنوات طويلة من المقاطعة وعدم المشاركة في الانتخابات والبرلمان العراقي، قرر حزبكم هذه المرة المشاركة في الانتخابات البرلمانية. ما الذي تغيّر بعد كل هذا الوقت؟ هل هو تغيّر في سياسة الحزب تجاه الانتخابات والبرلمان، أم أنّكم ترون أنّ الواقع السياسي نفسه هو الذي تغيّر؟
سمير عادل: قبل كل شيء أودّ التأكيد على أن موقفنا المبدئي هو دعمنا ومساندتنا لاية عملية ديمقراطية تفتح المجال للجماهير للاختيار السياسي الواعي والحر. ومن هذا المنطلق فإن بديلنا السياسي هو نظام المجالس الذي يوفر أوسع مساحة للديمقراطية المباشرة من قاعدة المجتمع إلى قمته.
ثانيًا، تاريخ الحركة الشيوعية لا ينفي المشاركة في الانتخابات البرلمانية منذ نشأة النظام البرلماني البرجوازي. وثالثًا، بالنسبة لنا، المشاركة والمقاطعة كلاهما تكتيك سياسي. لسنا واهمين بطبيعة البرلمان البرجوازي، لكن تبنّي أي من الخيارين مرتبط بالظروف السياسية.
وبالعودة إلى سؤالكم: نعم، هناك تغيير في سياسة الحزب تجاه الانتخابات، لكنه ليس ناتجًا عن تغيّر في الواقع السياسي أو الحياة البرلمانية نفسها. سبق أن حاولنا خوض الانتخابات عام 2005 لكن لم نصل إلى اتفاق مع القوى الأخرى حول برنامج انتخابي مشترك، وحاولنا مجددًا في 2010 تحت اسم قائمة ( الحرية والمساواة) لكن لم نتمكن من الدخول. بمعنى آخر، المشاركة لم تكن محرّمة لدينا، لكن كانت هناك عراقيل حالت دونها سابقًا.
أكتوبر: إذا كان موقفكم المبدئي من البرلمان لم يتغيّر، كيف تفسرون هذا التحول الآن؟ هل تعتبرونه مراجعة لخطأ سابق أم تبدّلًا تكتيكيًا فرضه الواقع؟
سمير عادل: المسألة ليست تقييمًا لما إذا كنا على خطأ أو صواب، بل قراءة سياسية لفعالية كل من المقاطعة والمشاركة. هناك من يعتبر المقاطعة اليوم خطأ، ومن يعتبر المشاركة خطأ. هذا جدل لا فائدة منه. جوهر الموضوع: أي سياسة تخدم مصالح الطبقة العاملة والجماهير؟، وجدنا أن سياسة المقاطعة لم تُحقق تقدّمًا لحركتنا، وتًرَكت ساحة مهمة للصراع السياسي بيد البرجوازية وحدها، وأبعدت الجماهير عن الأمل بالتغيير. لذلك غيّرنا تكتيكنا نحو المشاركة، لأن المقاطعة لم تلبِّ حتى الحد الأدنى من حاجات الجماهير العمالية والكادحة. الان وفي وقت كان لو وجدنا ان المقاطعة تعمق من الازمة الثورية وازمة النظام السياسي الحاكم او تعمل على تغيير توازن القوى لصالح حركتنا والجماهير، لذهبنا الى المقاطعة. على الشيوعية تبتكر الاليات وتجد القنوات كي تصبح جزء من المعادلة السياسية والاقتدار السياسي.
أكتوبر: رغم أن الأحزاب البرجوازية، سواء الحاكمة منها أو المعارضة، تطرح دائمًا البرلمان والانتخابات كوسيلة وحيدة لإحداث أي تغيير سياسي أو اقتصادي، إلا أن التجربة أثبتت أن هذه المؤسسات لم تساهم في تحسين حياة الناس أو في تمكينهم من حقوقهم، بل كان الضغط الشعبي من خارج البرلمان هو الذي أحدث بعض التغييرات الفعلية. في ظل هذا الواقع، ومع تفاقم اليأس الشعبي من جدوى الانتخابات وتزايد المقاطعة، كيف تبررون أنتم الآن الدعوة إلى المشاركة الانتخابية؟
سمير عادل: أود أن أنبّه إلى نقطة مهمة، وهو أننا لسنا شعبويين ولا ننتمي إلى تيار شعبوي. أي بمعنى آخر، لا ينطلق موقف مشاركتنا أو مقاطعتنا من المزاج الشعبي. إن اتخاذ القرار بالمشاركة في الانتخابات، مثل سائر التكتيكات الأخرى، علينا الاستعداد له. أي بمعنى آخر يجب أن يتغير كل شيء فينا، وقبل كل شيء النظر إلى أنفسنا: كيف نطرح أنفسنا أمام الطبقة العاملة والجماهير التواقة للحرية والمساواة. علينا تجسيد الشيوعية على الصعيد العملي وتحويلها إلى واحدة من خيارات المجتمع. علينا طرح الشيوعية أمام الجماهير مثل بقية الخيارات الأخرى. إذا كانت هذه منهجيتنا، فعلينا إيجاد الآليات والقنوات لتحويل الشيوعية إلى معطى مادي وملموس تتمسك به الجماهير للعبور إلى برّ الأمان.
أكتوبر: موقف الحزب الجديد من الانتخابات قوبل بتفسيرات مختلفة: فمن جهة، هناك من رحّب به واعتبره خطوة سياسية واقعية وناضجة، ومن جهة أخرى، هناك من انتقده بشدة واعتبره تراجعًا عن الخط الشيوعي الراديكالي وانحرافًا نحو البرلمانية والمساومة مع النظام البرجوازي. ما هو ردّكم على هذه الانتقادات؟ هل تخلى الحزب بالفعل عن نهجه الثوري؟ وإن لم يكن كذلك، ألا ترون أن هذه الخطوة قد تُفهم بوصفها تنازلًا تكتيكيًا أو خطأ سياسيًا؟
سمير عادل: بالمنطق الذي يطرحه أولئك الذين ينتقدون موقفنا من المشاركة، وحاملين راية “الماركسية الأرثوذكسية”، فهذا يعني أنّ موقف ماركس إنجلز في تأييده لمشاركة الاشتراكيين الديمقراطيين في نهاية القرن التاسع عشر في البرلمان الألماني كان أيضًا “تنازلًا تكتيكيًا”، وكذلك الأمر بالنسبة لمشاركة البلاشفة في الدوما بعد ثورة 1905.
يقول منصور حكمت في الندوة الأولى والثانية للشيوعية العمالية: عندما تذهب الطبقة العاملة في الانتخابات البرلمانية في الدول ذات الديمقراطيات البرجوازية ، فهي تفعل ذلك لأنها تريد تغييرًا في حياتها وتأمين مستقبل أسرها. ولا يجوز إلقاء اللوم على الطبقة العاملة لأنها ذهبت إلى صندوق الاقتراع، لأن الشيوعية ببساطة لم تُطرح أمامها لتختارها. والطبقة العاملة لا تنتظر “نهوض الشيوعية”، ولا تبقى تتفرج وتكتفي بالاستماع للنصائح الفكرية والسياسية من الخارج ويُطلب منها الحفاظ على “النقاء الأيديولوجي” و”الطهارة الفكرية”. العمال يريدون التأمين الصحي، والضمان الاجتماعي، وتقليل الضرائب عليهم.
بالحقيقة، هذا النوع من النقد هو محاولة للتنصل من المسؤولية تجاه المجتمع، والاكتفاء بتوزيع المواعظ والنصائح. ليس لدينا أي معيار له، ويمكن ان تكون هذه شيوعية كل شيء، فهي بكل تأكيد ليست شيوعية ماركس.
أكتوبر: يقول بعض المراقبين إن المشاركة في الانتخابات لا تكون مجدية إلا إذا كان للحزب نفوذ جماهيري حقيقي، حينها يمكنه أن يحصل على أصوات كافية لتمثيل طبقته ومصالح الناس داخل البرلمان. لكن في الظروف الحالية، ومع هيمنة الأحزاب الميليشياوية على المال والإعلام والسلاح وتحكمها في مسار العملية الانتخابية من تزوير وشراء للأصوات وحتى دعم خارجي، كيف يمكن لحزب شيوعي راديكالي أن ينافس بإنصاف في مثل هذا المناخ؟ وهل المشاركة في ظل هذه المعطيات ذات جدوى واقعية؟
سمير عادل: شكرًا على هذا السؤال. لقد أجبتُ عليه في مناسبات سابقة. لنفصل بين قضيتين: الأولى تتعلق بالظروف الحالية، والثانية بالنفوذ الجماهيري.
بالنسبة للقضية الأولى، فانتظار تهيئة ظروف «مثالية» للمشاركة—من غياب الميليشيات وتوافر أجواء ديمقراطية خالصة على غرار بريطانيا، على الأقل—هو ضرب من الأوهام، ويعكس عدم فهم لآليات الاقتصاد السياسي البرجوازي. وهو في الوقت نفسه محاولة لتقييد الشيوعية وكأنها تُحشر في قارورة للتحنيط، للتستر على عجز في فهم الشيوعية كأداة للتغيير الفعلي.
الوضع السياسي في العراق لن يتغير من تلقاء نفسه؛ لا نتوقع زوال الميليشيات أو توافر الحريات السياسية الحقيقية إلا بشرط واحد سأتحدث عنه لاحقًا. النظام السياسي البرجوازي الحاكم في العراق مدعوم من الرأسمالية العالمية والأقطاب الإمبريالية، التي تتبوّأ الولايات المتحدة موقعًا قياديًا فيها. مكانة العراق في التقسيم الرأسمالي العالمي تقوم أساسًا على إنتاج النفط وتوفير سوق عمل رخيص لتراكم رأس المال، وهذا يستدعي نظامًا استبداديًا وقمعيًا يضمن رخصة اليد العاملة واستمرار تدفق النفط. القمع الذي يُمارَس ضد التظاهرات السلمية هو جزء من تأمين متطلبات حماية رأس المال ومكانة العراق في السوق العالمية.
الرأسمالية العالمية لا تمانع وجود الميليشيات ما دامت تُلبّي مصالح رأس المال. لكن حين تُخلّ الميليشيات باستقرار السوق الرأسمالي وتهدّد النفوذ السياسي والاقتصادي للإمبريالية، عندئذٍ تُطرح عليها علامات استفهام. القوى الرأسمالية العالمية والمحلية تسعى إلى احتكار العنف لصالح الدولة؛ فتصبح الدولة هي الجهة الموكول إليها ممارسة العنف بدلاً من الميليشيات حين تقتضي المصلحة ذلك. ولذلك لم نسمع أي صوت معارض حقيقي للقمع الذي مارسته حكومة السوداني ضد تظاهرات المهن الطبية والعاطلين عن العمل والمحاضرين، ولم نرَ عقوبات أممية حين شُرّع تعديل قانون الأحوال الشخصية الطائفي المقيت، لأنه ببساطة لا يمسّ مكانة العراق الاقتصادية ولا يضر بأرباح الشركات الرأسمالية العالمية. نعم كانت هناك مذكرات احتجاجية من الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي، لكن كانت فقط من باب رفع العتب وتجميل صورة النفاق السياسي بأنها “تدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان”.
علينا أن نفهم هذه الحقيقة: العراق ماضٍ نحو دولة استبدادية طائفية، ولا يجوز أن نضع الجماهير في خانة الانتظار حتى “تتفضل” البرجوازية وتغيّر سلوكها. هذا وهم وسياسة لخنق الجماهير بينما تُجلد، فيما يقتصر دور منتقدينا “ الأرثوذودوكسيين” على تعداد عدد الجلدات!
تغيير هذه المعادلة يعتمد على تنظيم الجماهير في كل مكان—في الأحياء، أماكن العمل، المصانع والجامعات—وتسليح الحركات الاحتجاجية بأفق نضالي مستقل وتنظيم قياداتها. بدون هذا لن تتغير المعادلة السياسية، وسيبقى العنف سواء باسم «السلاح المنفلت» أو عبر أدوات الدولة التي توظفها حكومة السوداني ضد الجماهير.
وبدون هذا التنظيم لن يتشكل النفوذ الحقيقي للشيوعية. هنا تأتي القضية الثانية. هناك نسبة ٨٢٪ قاطعت ثلاثة انتخابات، البرلمانية في ٢٠١٨ و٢٠٢١ ومجالس المحافظات في ٢٠٢٣؛ علينا الذهاب إليهم وطرق أبوابهم وطرح الشيوعية كخيار أمامهم. مقاطعة الجماهير بهذه النسبة الكبيرة تحمل دلالتين متناقضتين بالنسبة لنا: من جهة، تُظهر وعيًا لدى الجماهير بأن القوى السياسية البرجوازية لا تمثل مصالحهم، ومن جهة أخرى تكشف عن غياب البديل الشيوعي بينها. الأسوأ أن بعض المجموعات اليسارية تُوظف نسبة المقاطعة ذريعةً لتبرير عزلتها.
لذلك علينا استغلال هذه الانتخابات كفرصة لتعريف الناس ببرنامجنا الانتخابي—أي برنامج الشيوعية عمليًا إن وصلت إلى السلطة. إن مشاركتنا ليست بلا شروط، بل هي مشاركة مشروطة، نحن لا نوقع صك على البياض. وعليه تقوم على الاتفاق مع أي طرف أو جهة على تبني هذا البرنامج الذي يتضمن الدفاع عن حقوق العمال والنساء والشباب، وضمان الحريات السياسية والفكرية والمساواة. وفي حال تبنّي تلك الأطراف للبرنامج، سندعمها للوصول إلى البرلمان. أما إذا رفضت الأطراف السياسية هذا البرنامج، فسوف نقول للجماهير بوضوح: هذه القوى لا تدافع عن مصالحكم. وعندها يكون القرار بيدكم، كما اتخذنا نحن قرارنا بعدم منح أصواتنا لمن لا يمثل مصالحكم.

