اعتبار يوم الأول من آيار، يوم العمال العالمي، عطلة رسمية في العراق منذ أكثر من خمسة عقود، له دلالات سياسية واجتماعية كبيرة. ومع اكتسابه صفة رسمية وشرعية من قبل الحكومات المتعاقبة، بيد انها لم تكف عن محاولاتها في طمس هذا اليوم أو تحريفه وانتزاعه من محتواه الطبقي، والتعمية على وجود طبقتين في المجتمع، طبقة تنتج وتكدح وتمثل غالبية المجتمع العراقي، و طبقة طفيلية تستحوذ على ثمرة تلك الطبقة ولا تمثل غير ١٪ من المجتمع. وكل مساعي الطبقة الحاكمة في العراق والقوى الرأسمالية العالمية وعلى راسها الولايات المتحدة الامريكية، كانت تصب في اظهار المجتمع العراقي، مجتمعا متناحرا اجتماعيا، وان الصراعات السياسية فيه هي ليست صراع تيارات سياسية مدنية، بل صراعات مذهبية وطائفية ودينية وقومية. وقد عبرت عن تلك السياسات بشكل عملي وجلي في تشكيل مجلس الحكم من قبل الرئيس المدني للاحتلال بول بريمر، على أسس طائفية ودينية وقومية، لتسديد ضربة كبيرة إلى عمق تاريخ المدنية والتحضر في العراق الحديث.
دلالة اكتساب الاول من ايار في العراق دون بلدان المنطقة بعطلة رسمية واعتراف كامل على مضض من قبل الطبقة الحاكمة، تخرس الافواه والأقلام المأجورة التي تنظر بأنه لا وجود للطبقة العاملة في العراق، هذا ناهيك عن نضالاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي لعبت دورا عظيما في ترسيخ المدنية والتحضر والملامح السياسية والهوية الإنسانية في عمق تاريخ العراق منذ تأسيس دولته الحديثة في العقد الثاني من القرن العشرين.
لا تتنازل الطبقة البرجوازية عن يوم عمل مدفوع الأجر مجاني للعمال في أي بلد في العالم. وإذا ما تصفحنا قليلا تاريخ العراق، ففي أول مناسبة رسمية احتفى بها العمال في العراق ، صعد عبد الكريم قاسم الرئيس العراقي آنذاك على منبر الاتحاد العام لعمال العراق عام ١٩٥٩ بمناسبة الاول من ايار يطالب تعاون العمال مع البرجوازية تحت عنوان “صيانة الجمهورية” في مواجهة الامبريالية، رد حينذاك صادق الفلاحي الذي كان يشغل يومها منصب رئيس الاتحاد برفضه طلب قاسم وطالب بحقوق العمال غير منقوصة تحت أية ظروف. ليأتي بعده رد فعل قاسم ويترك القاعة غاضبا ويقرر على غلق مقر الاتحاد واعتقال فعالي ونشطاء العمال في اليوم التالي. وعلى صعيد آخر يمكن أن نورد مثال اخر حول القانون الذي يريد عمانوئيل ماكرون الرئيس الفرنسي فرضه لرفع السن التقاعدي الى عمر ٦٥ سنة. أي أن الدولة الفرنسية بدل من ان تدفع التقاعد للعمال في سن ٦٢ وهو في اعتقاد الطبقة الحاكمة الفرنسية بأنه دفع مجاني للعمال دون عمل، فتريد أن تدفع في سن ٦٥، أي أن تضع في خزنتها ثلاث سنوات من عمل وكدح ونتاج العمال.
وقد يحاججننا شخص ما، لماذا إذن يحاول جناح من الطبقة الحاكمة في العراق المتمثل بالإسلام السياسي الشيعي تمرير مسودة قانون العطل الرسمية التي تبلغ ١٥٢ يوما في السنة، ألا يشكل هذا خسارة للبرجوازية، ام ان الاسلام السياسي كأحد ممثلي الطبقة البرجوازية عقائديين، ويضعون مبادئهم الفكرية فوق كل شيء، او لأنهم حمقى لا يفقهون في الاقتصاد. في الحقيقة لا هذا ولا ذاك، نعم يشكل خسارة عظيمة للطبقة الحاكمة ولذلك تعطل تمريرها لحد الآن على الرغم من مرور اكثر من اربع سنوات عليها. لكن في الجانب الاخر أن المناسبات الدينية التي تعلن غالبية مجالس المحافظات على انها عطلة رسمية مثل العاشوراء وغيرها، البرجوازية تحقق اهداف أكبر ، حيث تدر ارباح اكثر حينما تدق إسفين بين العمال وتغذي التفرقة في صفوفهم بتعريف العامل على أسس دينية وطائفية، وفي نفس الوقت تقوم بالتعمية على الصراع الطبقي وتحريف الحقيقة التي مفادها بأن عدو العامل ليس أخيه العامل السني والشيعي وغير المسلم إنما هو الطبقة البرجوازية الحاكمة. وبالنتيجة أن العمال لا يمكن توحيدهم حول المطالبة بحقوقهم وفرض التنازل على الطبقة البرجوازية من ارباحها. فلنتخيل فقط لو توحد العمال في قطاع النفط او في الموانئ ومنعوا تصدير النفط ألن يكون هذا سلاحا فعالا وضربة موجعة للفساد وعمليات النهب والسلب التي تحدث ، بدلا من كل اللجان التحقيقية والمجلس الاعلى للقضاء على الفساد وهيئة النزاهة…الخ.
إن ثقل الطبقة العاملة في العراق ومكانتها والخوف من نهوض هذا المارد يخيف الطبقة الحاكمة في العراق منذ بداية تشكيلها في بدايات القرن العشرين. وليس عبثا عندما قال ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي في عام ٢٠٠٧ بتعليقه على مسودة قانون النفط والغاز في العراق، ليس لدينا مشكلة بعدم تمريرها في البرلمان العراقي، انما المشكلة تكمن لو عرفت بها الاتحادات والمنظمات العمالية. وقبل ذلك بعقود فتح النظام البعثي النار على إضراب عمال الزيوت النباتية في ٥ تشرين الثاني عام ١٩٦٨ ، والذي لم يكن يستحق في كل الحسابات، قتل وجرح عدد من العمال وتطويق المعمل بالدبابات والمدرعات وكأن هناك انقلاب عسكري يهدد سلطة البعث. بيد أن النظام البعثي كان يدرك مكانة وخطورة الحركة العمالية عليه. لا نريد أن نخوض أكثر في تاريخ الحركة العمالية التي أسقطت وزارات وهزت العرش الملكي بدءا من اضرابات جمعية أصحاب الصنائع في ١٩٣١ و١٩٣٣ ضد رسوم البلديات ورفع سعر الوحدة الكهربائية ومرورا بإضرابات كاورباغي لعمال النفط عام ١٩٤٦ وانتهاء بإضراب عمال الزيوت النباتية، ولكن ما يهمنا هنا هو الإشارة بالرغم من العداء السافر للنظام البعثي البرجوازي للطبقة العاملة إلا أنها ورغما على أنفها فرض عليها الاول من ايار عطلة رسمية مدفوعة الأجر لعمال القطاع العام.
لابد من الاعتراف أن الطبقة العاملة اليوم في العراق في الخندق الدفاعي بسبب الهجمة الشرسة على وضعها الاقتصادي والمعيشي بشكل عام، و تهدد وحدتها البطالة السرطانية وتعاني التفرقة وغياب وحدة الصف وضعف الوعي في صفوفها بقدرتها ومكانتها كطبقة قادرة على تغيير ليس وضعها الاقتصادي فحسب بل قادرة على تغيير كل الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في العراق.
ان الاول من ايار يعيد التاريخ ويذكر أن الطبقة العاملة في العراق لها مكانتها التاريخية والاقتصادية وعليها ادراك هذا الواقع. ان الاقتصاد العراقي لا يعتمد على دعايات و أكاذيب وترهات وزير المالية ومستشار رئيس الوزراء والبنك الدولي الذين يشيدون بأداء الاقتصاد العراقي بل يعتمد على انتاج وثمر عمال النفط بنسبة ٩٠٪ .
ليكن الاول من ايار هذا العام هو خطوة تضاف الى خطوات سابقة نحو تقوية صفنا الطبقي واستعراض قوتنا، والظهور للمجتمع كطبقة موحدة تمسك بمفاتيح الحياة.