الأخبارالمقالاتسمير عادل
أخر الأخبار

بفضلها سلكت طريق الحرية والمساواة، طريق الشيوعية

((في رحيل أمي-أولاد قدرية))

سمير عادل

ترددت كثيرا في كتابة هذه الكلمات، في ظل سقوط مئات الأمهات إذا لم نقل الآلاف تحت بربرية الالة العسكرية لدولة إسرائيل الفاشية، وفي ظل صرخات آلاف الأطفال وبكائهم على فقدان أمهاتهم. تخيلوا فقط مشاعر الكبار عندما ترحل أمهاتهم عن الحياة، فكيف ستكون مشاعر الأطفال وهم يستفيقون على إثر غياب أمهاتهم. فليس مهما عمرهنَّ، وليس مهما عمر الأبناء، ففقدان الأم مهما بلغ عمرها وأعمارنا، أطفالا أم يافعين أم هرمين، فلا شك أن له وقع مؤلم، فرحيل الأم لا يمكن وصف وجعه أو حرقته.

وما دفعني بجرأة للكتابة وفي ظل حرب الإبادة القومية، وفي ظل صيحات والام وجوع وبرد ورعب وخوف ومصير مجهول للآلاف المؤلفة من الفلسطينيين في غزة الذين ينتظرون في طابور على طريق الموت، مثلما كان ينتظرُ اليهودَ وحوشُ النازيين لحرقهم في أفران هولوكوست، أقول إنَّي أستمد الجرأة من الطريق الذي وضعتني أمي عليه، طريق المساواة وطريق الحرية.

لا امتياز لأمي، فهي مثل سائر الأمهات في فلسطين وباقي الأمهات في الشرق الأوسط، عاشت أكثر من ثلثي حياتها تكافح من أجل حياة أبنائها، ومن أجل ألا يقع أحد أبنائها في براثن العوز والفقر، ومن أجل تأمين مستقبلهم، فتحملت كل أشكال العنف المنزلي بكل صلابة، مثلما كان يقف المعارضين من الشيوعيين والمدافعين عن المساواة والحرية في مواجهة أجهزة التعذيب ودواليب الدم في سجون النظام البعثي والأنظمة الدكتاتورية والمستبدة.

كانت تستيقظ منذ التباشير الأولى لطلوع الفجر بين الساعة الرابعة والخامسة صباحا، تشتغل في مهنة الخياطة إذ علمت نفسها بنفسها، وحتى منتصف الليل، وبين ثنايا تلك الساعات الطويلة كانت تعد ثلاث وجبات طعام لأبنائها السبعة وأبي. لم اذكر او اسمع قط أن أمي نامت يوما ما ست ساعات، وأتذكر أنَّ النعاس كان يحرق عينيها، والتعب يخيم عليها، إلا أنَّ إيمانها بتأمين لقمة عيش كريمة لأبنائها حال دون أن ينالا منها طوال ثلاثة عقود من الزمن بشكل متتالي.

لم تصل في مراحلها الدراسية الى الخامس الابتدائي، إلا أنَّها كانت تصر على حصول أبنائها على التعليم الجامعي، رغم مخالفة أبي الذي كان يصرّ كحرفي مثل غالبية الآباء الحرفيين بعدم إيمانهم بالتعليم الجامعي، حيث يفضلون تعليم أبنائهم المهنة بدلا من إتمام التعليم. بيد أنها كانت تقول: يجب أن اعلم أبنائي مهنة الخياطة فضلا على إكمالهم التعليم الجامعي. ووقفت بجرأة أمام إرادة أبي وحققت أمنياتها وحلمها بحصولنا نحن الأبناء السبعة، جميعنا على التعليم الأكاديمي.

كنت صديقا مقربا منها، منذ دخولي سن المراهقة، وشاركتني كل أسرارها، وآلامها، وعلمتني كيف اشعر بالمسؤولية، فحينما تحب الآخرين، عليك أن تكون مسؤولا بتأمين كل متطلبات وحاجات ذلك الحب، وبغض النظر عمن تحب.

 وعلمتني مثل بقية أخوتي مهنة الخياطة، وكانت تناقشني في كل شيء، وعندما بدأت أتعلم واكتشف العالم الخارجي من خلال قراءاتي، كانت تفتح نقاشات معي وتصغي باهتمام لما تعلمته وقرئته. كانت تؤمن بالعلم بشكل مطلق بالرغم من أنَّها لم تكمل تعليمها الابتدائي. وكانت متحضرة ومتمدنة في كل شيء، وكان عقلها متفتح على كل شيء جديد، تدافع عن حق الاختيار لشريك الحياة، وعدم التدخل بشؤون أبنائها. كانت صديقة مخلصة وواعية لأختي التي فقدتها في سن مبكرة وهي (منى) أو (ليلى محمد) التي أصبحت عضوا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي العمالي العراقي قبل رحيلها.

تعلمت منها معنى المساواة، وهي من وزعت الحب بالتساوي على أبنائها، وبالرغم من كونها مرغمة بالرضوخ للنظام الذكوري، لكنها كانت تصر بأن لا نقبل الرضوخ والإذعان لاي سلطة. كانت تقول لي في السنوات الأولى من مراهقتي أنَّها تقبل الإجحاف والظلم وتقدم التنازلات وتتحمل ما تتحمله من أجل أبنائها، مثل سائر بقية النساء في العراق، والذي نرى اليوم فصوله، وكيف أنَّ السلطة المليشياتية تحاول إحياء عصر الجواري وعبودية النساء عبر تشريع قانونهم المشين الذي سموه بتعديل قانون الأحوال الشخصية، وكيف يضعون النساء تحت تهديد الأمومة المسلوبة.

هي من أثارت أسئلة في داخلي حول مدى حقانية دونية النساء ومدى حقانية تعدد الزوجات وحقانية العنف ضد المرأة الذي ورد في الدين، كانت تقول لي هناك تناقض صارخ بين نزعة المرأة الإنسانة برفضها كل هذا الظلم الجنسي وبين الدين الذي علموه لنا.

أسئلتها دفعتني للبحث عن جذور هذا الظلم الواقع على المرأة، والبحث عن الجواب، على الأسئلة التي طرحتها أمي عليَّ في ثنايا النقاشات التي كانت تدور بيننا، كنت أجد وأتلمس التناقض الصارخ بين أمي التي تعمل ليل نهار من أجل أبنائها وبين الظلم الذي يمارس ضدها بسبب ذلك النظام الذكوري، التناقض بين ما تنتجه من تأمين مستوى معيشي لنا وتكفل كل حاجات أبنائها وبين عدم حصولها حتى على الحد الأدنى من حقوقها.

ولابد من القول بأنَّ تلك المشاهدات والظلم الذي عاشته والأسئلة التي طرحتها عليَّ، فتحت عقلي وأضاءت طريقي، وأوصلتني الى الحقيقة التي تقول؛ إنَّ الظلم الجنسي على النساء هو من أجل الحفاظ على الامتيازات، وهو جزء من النظام الطبقي الذي يقتني المليارات من الدولارات فقط من سلطة النظام الذكوري ويستمتع بالامتيازات.

نجحت امي في غرس قيم المساواة في بيتنا، وبين أبنائها، واستطاعت بالنهاية وبعد عقود من كفاحها الاجتماعي ان تحول بيتنا الى نموذج للمساواة المطلقة بين المرأة والرجل عن طريق تعليم وتربية أبنائها. كنا ست اخوة ذكور واخت واحدة انثى، ومن يدخل بيتنا من رفاقنا واصدقائنا لا يفرق بين من هو كبير ومن هو صغير، بين اختنا الانثى وبين الاخوة الذكور. لقد تم تسديد ضربة قوية الى النظام الذكوري في البيت وانهار بشكل نهائي، وأصبحت امي تستند على قانون المساواة الذي كان يحميه أبنائها السبعة، فالكل يعمل في مهنة الخياطة والكل يساهم في الطبخ وتنظيف المنزل وغسل الصحون، والكل احرار في اختياراتهم.

وأصبح بيتنا معلما بارزا في المنطقة وبين اقربائنا ومعارفنا، وقد كانوا يسموننا بأولاد قدرية على اسم امي. وهكذا عرفنا في أي مكان نتواجد فيه، باننا (أولاد قدرية) التي كنا حقا وما زلنا نفتخر بهذا الاسم، بالرغم ان هناك من يخجل في المجتمع ان يذكر اسم امه او اخته او زوجته.

وعندما كان الرعب يخيم على المجتمع العراقي بسبب وحشية النظام البعثي الفاشي، وبخلاف كل أهالي الذي يخرجون من المعتقل السياسي، لم تقل أمي كلمة تأنيب واحدة بعد خروجي من السجن، بل حينها كنت في سن التاسعة والعشرين وأدخلتني الى غرفتي في البيت وقامت بتعريتي وتتفحص جسدي، كي تطمأن بعدم حصول أي ضرر لي على إثر التعذيب، وعندها تركتني واحتفلت مع أبي ومع من كان في البيت وزوجتي بمناسبة خروجي من السجن. ومضت على عادتها باستقبال رفاقنا وأصدقائنا، ولم تغير أيّ شيء من سلوكها تجاههم، بل وقامت بجلب خالتي التي كانت أصغر مني، وكانت معتقلة معي كي تسكن معنا بعد أن بدأت أسرتها تضايقها.

وبعد غزو واحتلال العراق، انفلت عيار الرجعية بشكل اكبر ضد النساء، وبدأت الجرائم ترتكب بحق النساء دون أيّ رادع وأيّ سؤال، وكانت واحدة من ميادين الصراع للحزب الشيوعي العمالي العراقي، هو مواجهة ذلك الظلم والنضال ضده، وخاصة جرائم “غسل العار”، واستطاع نضال الحزب إنقاذ حياة العشرات من النساء الذي كان امتداد لعقد التسعينات في كردستان العراق، ولعبت أمي دورا كبيرا في إنقاذ حياة عددا من النسوة؛ حيث آوتهنَّ في بيتها في كركوك، وكانت تعد لهن الطعام وتحيطهنَّ بالأمان وتقدم خبرتها وتجربتها لهن، حتى تأمين الطريق لهن ووصولهن الى بر الأمان.

كانت كريمة مع الجميع، وكانت تؤمن اشد الإيمان بالطريق الذي سلكه أبنائها، وهو طريق الشيوعية، وكانت تقول لي دائما متى تستلمون السلطة لإنهاء كل هذا الظلم على النساء.

وفي النهاية استغل هذه المناسبة، كي اعبر باسمي وباسم أخوتي وأهلي عن تقديرنا وشكرنا على المواساة والتعازي التي وصلت لنا عبر المئات من البرقيات والرسائل والاتصالات والتعليقات، ونعتبرها تثمينا وتأييدا لحقانية حلم وطموح وأمنيات أمي التي تعبر عن النزعة الطبيعية للإنسان بالانعتاق والتمتع بالمساواة، فلا عزاء لنا برحيل أمي سوى بالمضي قدما في طريق تحقيق حلمها الذي هو حلم جميع النساء، تحقيق عالم تسوده الحرية والمساواة.

٢١-٨-٢٠٢٤

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى