أسبوع منصور حكمتالأخبارالمقالات
أخر الأخبار

بمناسبة أسبوع منصور حكمت

الديمقراطية والحرية في مفاهيم الشيوعية العمالية

سمير عادل

مدخل:

تتزامن مناسبة أسبوع منصور حكمت هذا العام، مع ما يحدث اليوم في عقر دار الديمقراطيات الغربية من احتجاجات عظيمة للتضامن مع الشعب الفلسطيني وإيقاف الحرب في غزة، وتعامل أنظمتها السياسية تجاه الحريات السياسية وحرية التعبير بذريعة “معاداة السامية. وقبل حرب غزة، حجبت تلك الأنظمة (الديمقراطية) أية وسائل إعلام تسرد الرواية الروسية عن الحرب في أوكرانيا.

لقد عرى منصور حكمت “الديمقراطية” وكشف عن ماهيتها واستخدامها التاريخي وفضح أسسها الاقتصادية وتناقضها مع ميل النزعة الإنسانية وتحقيق العدالة والمساواة. في كراسه “الديمقراطية بين الادعاءات والوقائع”، وحينها عندما تحدث منصور حكمت عن الديمقراطية، كان ذلك في عصر صم الآذان وتعمية العيون بفقاعة وخرافة الديمقراطية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترفع لواء نشر الديمقراطية، من اجل فرض نظام عالمها (الجديد)، ورفعت الى السماء أيادي المثقفين الليبراليين للدعاء والشكر للنعمة الديمقراطية التي نزلت عليهم، كتفا الى كتف مع المتوهمين بالفاتحين الجدد للبلدان الدكتاتورية من كل حدب وصوب لنشر (الديمقراطية المزعومة) تزاحمهم الأحزاب الشيوعية ــ التي كان يناسبها رفع راية الشيوعية أكثر من غيرها وذلك في ظل تنامي اليسار الاشتراكي وازدياد اعتبار الماركسية كرمزٍ للتحرر بعد ثورة أكتوبر في روسيا ــ الذين سارعوا إلى تغيير أسمائها ولونها كي تتلاءم مع بزوغ فجر الديمقراطية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وكان العراق أحد ابرز الحلبات الدموية لتسويق رواية نشر الديمقراطية الأمريكية، وبعد أن فشلت في إيجاد أسلحة الدمار الشامل في العراق أو وجود علاقة بين نظام الحاكم في العراق وتنظيم القاعدة على اثر تفجيرات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ لمركز التجارة العالمي الذي ذهب ضحيته اكثر من ٥٠٠٠ إنسان بريء في نيويورك عشية الغزو والاحتلال.

 ليس هناك يوم في التاريخ الحديث منذ بزوغ فجر البرجوازية مثلما يومنا هذا تتوضح ماهية “الديمقراطية” الغربية، التي تم الالتفاف على الثورات الجماهيرية وشنت الحروب من اجل إسقاط أنظمة سياسية غير موالية لها أو تسويق شخصيات نكرة في المجتمع وغير معروفة لتعويمها وتنصيبها على البلدان لتحقيق مصالح الدول الغربية تحت عنوانها. ها هي الجماهير في بلدان الديمقراطيات الغربية اليوم تشعر، أكثر من أي وقت، أنّها كانت فريسة للآلة الدعائية الغربية وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، وقد أتضح أنَّ خلود عصر الديمقراطية هو نهاية التاريخ كما عبر عنها فرانسيس فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ)، هو أكبر كذبة مررّت على البشرية.

معيار النموذج الغربي للديمقراطية:

يعود مفهوم الديمقراطية الى العصر اليوناني، وهو حكم الشعب من الشعب الى الشعب.

تاريخياً علت راية الديمقراطية في العصر الحديث بوجه النظام الإقطاعي وسلطة الكنيسة. وكانت البرجوازية الصاعدة لها مصلحه في تقويض سلطة الاقتطاع والكنيسة والسعي لانتزاع سلطتها المطلقة وتسليمها الى الشعب. لأنَّ جميع القوانين والقرارات الصادرة بمعزل عن الشعب أي التي تصدر عن الكنيسة هي باطلة، طالما لم تنبثق من الشعب. وإنَّ الشعب له الحق في عزل أيَّة حكومة.

كان صراع البرجوازية بوجه الكنيسة والإقطاع بمثابة صراع على الشكل الجديد للملكية، صراع بين الملكية الإقطاعية والملكية الرأسمالية. أي صراع بين نمطين للإنتاج، الإنتاج الإقطاعي والإنتاج الرأسمالي. وان الحكم الإقطاعي والملكية المطلقة والكنيسة التي كانت حامية لهذه الملكية لا يتناسب مع التطور الصناعي ومع آليات عمل السوق الرأسمالية، وكانت البرجوازية بحاجة الى شكل جديد للسلطة، الى نظام سياسي ملائم يفتح آفاق التطور الرأسمالي واقتصاد السوق، وبحاجة الى أيدي عاملة كبيرة، والى منظومة قوانين وقرارات بل وحتى إلى أعراف جديدة تفتح آفاق المجتمع الجديد بما تتلاءم مع صعود نجم البرجوازية. وكان لابد لها من توجيه مدافعها بدلا من المنجنيق في دك قلاع الكنيسة ومصادرة أراضيها وإنهاء الحكم المطلق وامتيازاتها الاقتصادية، وإطلاق العنان للفلاحين الذين كان تربطها رباط وهمي مقدس بالأرض للهجرة والالتحاق بالجيش البروليتاري الجديد من أجل العمل في المدن أو الإنتاج الرأسمالي الجديد.

بيد أنَّ الديمقراطية لا تمس شكل الملكية الجديدة، أي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولا تتحدث عن سبب الهوة الطبقية بين طبقة لا تنتج وتمثل أقلية الطفيلة من الشعب وطبقة تنتج كل ثمار المجتمع وتمثل الغالبية العظمى من الشعب. فكما يقول لنا منصور حكمت في موضوعه (الديمقراطية بين الادعاءات والوقائع) إنَّ الديمقراطية هي شكل للنظام السياسي والسلطة للطبقة البرجوازية، وهي لا تتجاوز صناديق الاقتراع كي يضمن انتقال سلس للسلطة لحماية راس المال، بالمعنى تمثيل مصالح الشركات الرأسمالية سواء كانت محلية أو عالمية.

ويمكن حسب هذا المعيار أي معيار صناديق الاقتراع، وصف الجمهورية الإسلامية في إيران بأنها ديمقراطية، فهي أيضا تستخدم صناديق الاقتراع باختيار أعضاء السلطة التنفيذية والتشريعية، وبنفس المعيار أيضا يعتبر نظام بشار الأسد في سورية هو الآخر ديمقراطياً حيث تستخدم نفس الآليات باختيار البرلمان ويصح في روسيا بقدر ما يصح في الولايات المتحدة الأمريكية. وان مشكلة الأقطاب الإمبريالية الغربية العالمية مع روسيا أو إيران وسورية، أو حتى الصين التي تنعدم فيها الانتخابات البرلمانية وصناديق الاقتراع حسب النموذج السائد في السوق السياسية للبرجوازية الغربية، ليست في عدم حذوها حذو الأنموذج (الديمقراطي)، بل المشكلة تكمن في الصراع على الحصص والأسهم في تقسيم الإنتاج الرأسمالي العالمي، وعلى حجم الأسواق. فنرى كل الدعايات الإمبريالية الغربية حول انعدام حقوق الإنسان والديمقراطية في تلك البلدان هي مجرد عناوين فارغة لتبرير التدخل في شؤونها أو فرض عقوبات اقتصادية وسياسية لترويضها وليس إلا، فالدول الغربية تحاول انتزاع أيّة شرعية من أيّ انتخابات إذا لم تتفق مع مصالحها المادية. فعلى سبيل المثال انقلبت على الانتخابات في غزة عام ٢٠٠٦ عندما فازت حماس، ودعمت انقلاب العسكر في الجزائر عام ١٩٩٢ عندما فازت جبهة الإنقاذ الإسلامية في الانتخابات، والتفت على انتخابات أوكرانيا عندما فاز الموالين لروسيا وهناك عشرات الأمثلة في التاريخ الحديث تبين أنَّ الديمقراطية بالمفهوم الغربي نسبية، وتعترف بها فقط وإذا فقط جاءت نتائجها مع مقتضى مصالحها.

الإصلاح والديمقراطية:

 أكثر المقولات استهلاكا على مدى التاريخ منذ تعلم الإنسان اللغة في الدعاية والإعلام والتحميق والتضليل في الأدبيات السياسية هي مقولة الديمقراطية. وتحت ستارها تمضي سياسات اقتصادية معادية للطبقة العاملة؛ من خصخصة الخدمات والتعليم والصحة ورياض الأطفال وتنصل الدولة من مسؤولياتها تجاه المجتمع، وفرض الضرائب على المحروقات وتعويم العملة المحلية، وكلها تجري بتوافق مع مقولة “الإصلاح الاقتصادي” وتحت المظلة الديمقراطية، بينما الطبقة العاملة والغالبية الكبيرة من الجماهير موثوقة الأيادي أمام صرح الديمقراطية المقدس، كما هو الحال في أنموذج (الورقة البيضاء) في العراق ويصح ذات الوضع على ومصر وتونس والأرجنتين وغيرها من البلدان. فيما تأخذ مقولة الديمقراطية مساحة واسعة في تلك الأدبيات، تروج لها البرجوازية وتحاول حصر أذهان المجتمع بصناديق الانتخابات وبرلمان ينبثق من تلك الصناديق لجلد الجماهير بسوط الإصلاح، صوت التقشف والعوز والإفقار، سوط رمي مصير الإنسان في غياهب المجهول. وفي الوقت ذاته تسعى البرجوازية إلى عزل وطمس والفصل ما بين السياسات الاقتصادية وبين الأنموذج (الديمقراطي) الذي يقول عنه منصور حكمت بانه إضفاء الشرعية على السلطة البرجوازية المنفصلة كليا أو المنعزلة عن الجماهير، ومن جهة أخرى فإنَّ الأنموذج (الديمقراطي) الذي يسوق له عبر الدعايات والإعلانات هو محاولة للتعمية والتضليل على الارتباط الوثيق والتناغم بين تشديد السياسات الاقتصادية المشارة إليها وتحقيق أهداف سياسية للطبقة البرجوازية التي ترتبط بشكل غير مباشر بمصالح اقتصادية، وبين تقلل درجة اتساع رقعة الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي.

وهذه المقولات الرائجة في سوق الأدبيات السياسية للبرجوازية هي جزء من التحميق السياسي لتكبيل ذهن المجتمع، للحيلولة دون انفلات عيار الطبقة العاملة والفئات المحرومة في المجتمع في مجرى تعكير الاستقرار السياسي ومزاج حرية تحرك الرأسمال، والاستثمار بشروطه التي تنصب بالدرجة الأولى على توفر فائض قيمة يضاف الى راس المال المذكور.

ومن الطريف في الأنموذج (الديمقراطي)، هو أنَّ عملية الإصلاح الاقتصادي تعمل بشكل متناقض مع الديمقراطية البرجوازية، وهما تعملان بعكس بعضمها بشكل موضوعي، ، حيثما تشرع الطبقة البرجوازية الحاكمة “بإصلاحاتها” في مرحلة الأزمات الاقتصادية والإفلاس والتضخم، تذهب في فرض سياسة التقشف، أو تشدد الهجمة على مكتسبات الطبقة العاملة مثل تقليل الأجور أو تقليل السن التقاعدي أو تقليل الضمان الصحي والضمان الاجتماعي للتخلص من أزمتها بدلا من فرض الضرائب على أرباح الشركات الرأسمالية وتقليل معاشات ماجوريها وموظفيها في دواوينها وآلتها العسكرية والقمعية،  وعلى الضفة الأخرى تتزامن مع تلك (الإصلاحات الاقتصادية)، سياسة تضييق مساحة الحريات التي تنتزع من الديمقراطية في الأوقات العصيبة للطبقة البرجوازية الحاكمة، وتنتشر الشرطة بهراوتها في الساحات والشوارع لقمع أيَّة حركة احتجاجية ترفض تلك الإصلاحات. ولا ضير في استذكار كيف قمعت حكومة تاتشر الديمقراطية عمال المناجم  في بريطانيا في العقد الثمانيننات من القرن المنصرم، وأطلقت الكلاب على العمال المضربين.

الديمقراطية وتناقضها مع حاجات الجماهير:

الديمقراطية بالمفهوم الغربي وعلى صعيد الممارسة العملية والتجارب العملية في العالم، هي حرية الاختيار في وضع صوتك في صندوق الاقتراع، ولك الحق بعدم الإدلاء لمن لا تريده. وكما يقول منصور حكمت إنَّ حرية الفرد والحقوق الأساسية للإنسان وباقي الحريات ألحقت بالديمقراطية بفضل الاشتراكية والليبرالية.

أنَّ الديمقراطية مثل الاستقلال والحكم الذاتي كما يشير منصور حكمت، فلا يشترط حصول أي شعب على الاستقلال من الاستعمار بأنَّه سينال مساحة واسعة من الحريات وعلى مساواة اقتصادية. إنَّ النضال من أجل المساواة للمشاركة في الانتخابات بغض النظر عن حجم الملكية أو انعدامها عند الأفراد المشاركين، كما كان سائدا في بداية القرن العشرين، إذ لم يحق للعمال المشاركة في الانتخابات هو جزء من النضال الديمقراطي، إلا أنَّ الملكية ليس محل تساؤل أمام الديمقراطية، أي أنَّ الديمقراطية عمياء تجاه البنية الاقتصادية والسياسية، كما يؤكد منصور حكمت. ويقول في مكان آخر، لا تحدد الديمقراطية توسيع مساحة العدالة والمساواة والحريات السياسية. ويستطرد بالقول إنَّ النضال ضد إنهاء سياسة التمييز العرقي على سبيل المثال، هو جزء من النضال الديمقراطي، ولكن لا تشترط الديمقراطية أبدا عندما يتساوى البشر ذوي اللون البشرة البيضاء مع ذوي البشرة السوداء في الحياة السياسية، يعني في نهاية المطاف سيحصل على مساواة اقتصادية وحياة أفضل. وتشير نعومي كلاين في كتابها (عقيدة الصدمة) بعد انتهاء حكم الفصل العنصري في دولة جنوب أفريقيا، تضاعف عدد من يتقاضى اقل من دولار واحد في اليوم بعد استلام المؤتمر الوطني الأفريقي الحكم في 1994 من 2 مليون شخص الى 4 ملايين في عام 2006، وازدادت نسبة البطالة بين السود من 23% الى 48% بين عام 1991 الى عام 2002، ومن بين سكان جنوب أفريقيا الذي يبلغ عددهم 35 مليون، يستلم 5 آلاف فقط من السود (600) ألف دولار سنويا بينما عدد من يستلم نفس المبلغ من البيض أكثر بعشرين مرة من السود. الخ. أي بعبارة أخرى، صحيح أنَّ السود أصبحوا متساويين مع البيض على صعيد المشاركة السياسية، لكن المساواة الاقتصادية والرفاه والعيش الكريم بقيت بعيدة المنال عن أيادي الغالبية العظمى من السكان السود.

أي أنَّ هناك عزل تام بين الديمقراطية كممارسة سياسية في اختيار شكل الحكم من أعضاء برلمان وأعضاء حكومة، وبين المحتوى السياسي للحكم. وما نراه اليوم من سياسات إسرائيل في غزة التي أقل ما يوصف بأنَّها سياسات النازيين أو الفاشيين إبّان الحرب العالمية الثانية تجاه الشعوب الأخرى، وقد دفعت سياسات إسرائيل المحكمة الجنائية الدولية والعدل الدولية لإدانتها وإصدار الأولى مذكرات اعتقال قادة إسرائيليين، ومع هذا نجد الأبواق المأجورة من ما يسمونه بالمحللين السياسيين في الطرف الإسرائيلي، يتبجحون بأن إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، وعلى العالم المتمدن الدفاع عنها.  إنَّ معيار الديمقراطية ليس أكثر من تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع. ولكن لا أحد يسال ما هو المعيار الإنساني لسياساتها تجاه الفلسطينيين على الأقل في الضفة الغربية أذا وافقنا مع روايتها على أنَّ أهالي غزة كلهم حماس ويستحقون الموت كما عبر وزير مالية إسرائيل في ضرب غزة بقنبلة نووية. وما هو معيار للديمقراطية في تعريف هوية دولة إسرائيل بأنها هوية يهودية، فكم تتطابق هذه الفكرة مع الديمقراطية.

وعليه هناك عزل تام بين الديمقراطية كممارسة وحصرها في إطارها السياسي، وبين المحتوى السياسي الطبقي للنظام السياسي الحاكم، وهذا العزل هو جزء من لعبة البرجوازية للتضليل والاحتفاظ بالسلطة الطبقية. وبنفس القدر تضع الطبقة البرجوازية تشويه واضح حول الديمقراطية وتصورها، بأنَّها النظام الخالد وبالإمكان عزل أيَّة سلطة أو حكومة عبر صناديق الاقتراع واختزالها عند هذه الحدود، وتسويق الدولة البرجوازية على أنَّها الحاكمة العادلة فوق المجتمع وفق الديمقراطية، بنفس القدر تجد الطبقة العاملة أنَّه وبواسطة الديمقراطية البرجوازية لا يمكن خداعها، وان مطالبها تتجاوز هذه الأطر. وعلى سبيل المثال عزوف الجماهير مثلا عن الانتخابات في ثلاث دورات متتالية في انتخابات 2018 2022 للبرلمان 2023 لمجالس المحافظات بنسبة تجاوزت أكثر من 80% في العراق وتكررت نفس الحالة في انتخابات تونس بعد الانقلاب العسكري الذي قاده قيس سعيد، وفي الانتخابات المصرية التي تلت انقلاب السيسي على الإخوان المسلمين، تثبت صحة ما ذهينا إليه.  وهكذا فإنَّ الديمقراطية هي مجرد إضفاء الشرعية على السلطة غير الشرعية للطبقة البرجوازية الحاكمة وبغض النظر عن محتواها الليبرالي أو الديمقراطي أو الديكتاتوري المنفصلة والمعزولة عن الجماهير، كما يشير منصور حكمت بصواب الى هذه الموضوعة.

صواريخ كروز وقنابل الناتو النماذج الديمقراطية للتصدير:

عند احتلال العراق جرى تقسيم البشر الى طوائف وقوميات، ونصب حفنة من رؤوس الأحزاب والقوى السياسية ممثلين عنها، وفٌتحَ صناديق الاقتراع لانتخاب هؤلاء، وسوق بأنَّ العراقيين يمارسون لأول مرة ويعيشون الأجواء الديمقراطية.

وعند احتدام الصراع السياسي بين القوى القومية والطائفية، ووصول ذروته الى حرب أهلية، عام 2006 ـ 2007 يكتب العديد من المثقفين ومنظري الديمقراطية بما فيهم فوكوياما عن “التجارب الديمقراطية” في العالم التي اعترتها العنف الدموي والفوضى الأمنية؛ بأن التنوع الثقافي وتعدد القوميات تقف حائلا أمام ترسيخ الديمقراطية في تلك المجتمعات.  في حين نرى الوقائع والمعطيات المادية تثبت أنَّه بما لا جدل فيه، أنَّ الصراع الذي يؤدي الى حروب أهلية ليس مصدرها تنوع الثقافات، والا ماذا تفسر بأن تلك الثقافات والتنوع الاثني يضرب في العمق التاريخي للمجتمعات التي تحتوي على ذلك التنوع، ولم يطحن بعضهم البعض على الأقل في العشرة عقود الأخيرة، مثلما حدث في العراق وسورية ولبنان وليبيا والسودان والجمهوريات السوفيتية السابقة ويوغسلافيا.. والأمثلة عديدة.

 إنَّ أقل ما يوصف به أولئك ، بانهم أقرب إلى المهرجين عندما يرفعون راية الديمقراطية لعلاج المجتمعات، وعندما يفشل العلاج بالديمقراطية أو لا يظهر مفعول الترياق الديمقراطي، فبدلا من الاعتراف بفشل الديمقراطية بالنموذج الغربي الذي فرضت بصواريخ كروز وقنابل الناتو، وترك ساحة التنظير السياسي الذي هو اقرب الى السفسطة، يلتفون حول نظريتهم الفاشلة بنعت الشعوب بالمتخلفة، أو يسطرون الكتب للتحليلات بمنهجية مثالية وأخلاقية، وكل ذلك لإدامة تقاضيهم الأجور على أعمالهم الأكاديمية والدعائية لصالح خلود النظام البرجوازي وأنموذجها (الديمقراطي) للسلطة. متناسين أنَّ أسس ذلك الصراع هو استحواذ التيارات البرجوازية على الحصص والامتيازات الاقتصادية والنفوذ السياسي واسهما في السلطة. والديمقراطية هنا تغمض العين على النزعة الإنسانية، وتحول تعريف البشر على أساس الهويات المذهبية والقومية والعرقية في المشاركة في السلطة على شكل كوتا أو المحاصصة، بأنها انتصار للديمقراطية. أمّا ما يليها بعد ذلك، باستخدام الهويات لإشعال حروب أهلية وفوضى وصراعات تهدد أمن وسلامة المجتمع، فهي تعود الى القصور في عقلية وثقافات الشعوب كما تصفها الأقلام والدراسات البرجوازية – انظر كتاب -في الليبرالية، أصولها، تحولاتها، وعلاقاتها – مناف محمد. وأخيرا بالنسبة لهؤلاء المأجورين، فإنَّ الاعتراف بفشل الأنموذج الديمقراطي يعني الاعتراف بوصول البشرية الى آخر محطات النظام الرأسمالي، وان نهاية التاريخ هي تعفن النظام الرأسمالي على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي وكل نظرياتها الاقتصادية والسياسية، وان الولوج في عصر آخر يفتح تاريخ آخر هو تاريخ إعادة الخيار للإنسان، وهو الاشتراكية.

أفول الأوهام حول النظام الديمقراطي في العراق:

لا مشكلة لمصدري الديمقراطية الى العراق، حول الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان في العراق، ولا مشكلة لديها مع المليشيات التي قتلت المئات من المتظاهرين من اجل فرصة عمل ومساواة في انتفاضة أكتوبر 2019، ولا مشكلة لديها مع السجون السرية والقرارات والقوانيين التي تقوض من مساحة الحريات كل يوم في العراق، مثل (قانون الأمن الإلكتروني، المحتوى الهابط، قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي، مسودة قانون الحريات النقابية، ومسودة قانون حرية التعبير)، لا مشكلة لديها طالما لا تهدد حركة رأس المال ولا تقف عائقا أمام نموه، وأيَّة كانت السلطة الحاكمة، من المليشيات أو من المافيات، من المدنيين أو من المعممين ، المهم توفر حماية لمصالح حركة راس المال. وما يضفي الشرعية على كل تلك العملية السياسية تجري وفق سياسة المصدرين للديمقراطية، هو صناديق الاقتراع وبرلمان جاء من تلك الصناديق، فليس مهما، لا عدد ولا نسبة المشاركين في الانتخابات، ولا من يغلق الصندوق ولا من يفتحها، ونتائجها مسبقا معترفا بها ومرحبا بها من قبل المصدرين للديمقراطية بدءا من الأمم المتحدة ومرورا بالاتحاد الأوربي وانتهاء بالإدارة الأمريكية.

النظام السائد اليوم في العراق هو الأنموذج الذي فرضه الاحتلال، أنموذج يتلاءم مع مكانة العراق في التقسيم العالمي للإنتاج الرأسمالي. ونظام المحاصصة السياسية بين القوى الطائفية والقومية الذي يشيد للفساد المطلق والسرقة المطلقة، يستمد شرعيته من النموذج الديمقراطي الغربي الذي تحدثنا عنه توا. وطالما يحفظ هذا النظام مكانة العراق في السوق الرأسمالية العالمية ولا يؤثر على سلاسل إمداد الطاقة، فالنظام شرعي ولا علامة استفهام عليه.

بيد أنَّ هذه الصورة ليست كل اللوحة، فان النظام السياسي القائم، غير قادر على تأمين مستلزمات ربط العراق بالسوق الرأسمالية العالمية، دون توفير بيئة ملائمة لحركة راس المال، فهو اليوم يختلف عن عراق قبل الاحتلال، لأنَّه جزء من البلدان التابعة للإمبريالية العالمية. انظر الى كتاب منصور حكمت في التحليل الاقتصادي والسياسي لإيران بعد ثورة ١٩٧٩- خصائص تطور الأنظمة الرأسمالية التابعة- وتلك البيئة مرتبطة بالمواجهة السافرة للطبقة العاملة. إذ دون انتزاع الفائض المطلق من قوة عمل العامل، فلن يكون هناك هامش للربح للحكومة الممثلة السياسية للطبقة البرجوازية الحاكمة التي تتوزع على كل الموجودين في نظام المحاصصة. هذا ناهيك عن الانفاق من هامش الربح المذكور على دعم المؤسسات القمعية من الشرطة والمخابرات والأمن والوطني والقضاء وجيش جرار من الموظفين والأقلام المأجورة للحفاظ على النظام وتجميل وجه النظام وتسويقه الى المجتمع بالإضافة إلى السجون وغير ذلك.  فالربح الأكبر يضاف الى راس المال للدول الإمبريالية العالمية.

وما جاءت في الورقة البيضاء، هي السياسة الاقتصادية الرسمية للإمبريالية العالمية في العراق، من تخفيض العملة المحلية وتعويمها ورفع أسعار الوقود والذي مثَّل بدء المرحلة الأولى منه رفع سعر البنزين السوبر والمحسن، وكذلك خصخصة التعليم والصحة وفرض الضرائب على الاتصالات والسلع وخصخصة المصانع والمعامل لتقليل العاملين منه وخلق شروط عمل جديدة من ساعات عمل طويلة وأجور قليلة وبعقود أي انتزاع كل أشكال الضمان من العمال.

إنَّ الطبقة البرجوازية اليوم التي تمثلها النظام السياسي القائم، أمامها مهمتين، أولها القضاء على التشرذم السياسي في صفوفها الذي ولد مع هندسة الاحتلال للعملية السياسية في العراق، فتارة يتم الإطاحة برئيس البرلمان، وقبلها فرض التراجع على التيار الصدري، ومن ثم تقوم بتقزيم سلطات الأحزاب القومية في كردستان، وسحب البساط من تحت أقدام دعوات تشكيل الأقاليم. ومن هنا فبدون توحيد صفوفها، فلن تتمكن من القيام بالمهمة الثانية وهي فرض الإذعان على الطبقة العاملة ولجم حركتها وقمع الحريات قدر الإمكان التي أشرنا إليها في القوانين والقرارات التي تصدرها تباعا خلال العامين المنصرمين.

على أنَّ التاريخ النضالي للطبقة العاملة والحركة التحررية في العراق بإقسامها النسوية والطلابية والمطالبة بالحريات يعتبر كعب أخيل الطبقة البرجوازية، للمضي بسياستها على الصعيد الاقتصادي والسياسي.

وإذا ما تمعنا قليلا بالفترة السابقة، فمنذ تشكيل حكومة السوداني قبل سنتين، نرى هناك استخدام مفرط للعنف الرسمي تجاه الاحتجاجات والتظاهرات في صفوف العاطلين عن العمل من المهندسين والمعلمين وعمال العقود في مختلف القطاعات. ويصاحب هذا العنف الرسمي تهديد المليشيات التي تتقاضى أجور من موازنة الدولة، وتغض الحكومة الطرف عنها طالما تحاول حماية أرباح الشركات الرأسمالية من الإضرابات والاحتجاجات العمالية.

لقد وصل الأنموذج الديمقراطي الى محطته النهائية في العراق، وباتت الجماهير في العراق أكثر جماهير المنطقة وعيا لهذا الأنموذج، وقد عبرت عنها بشكل عملي بمقاطعتها لثلاث انتخابات متتالية منذ عام 2018، كما اشرنا.

الحرية والديمقراطية:

الحريات النسبية التي سادت في العراق خلال أكثر من عقدين من الزمن، أي منذ غزو واحتلال العراق، ليس بسبب النزعة التحررية للاحتلال وادعاءاته بنشر الديمقراطية، ولا بسبب إطلاقها من قبل الطبقة السياسية الحاكمة، بل بسبب عدم الانسجام السياسي بين مصالح الدول الإمبريالية العالمية من جهة، وأجنحة الطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق من جهة اخرى.

اليوم كما ذكرنا تتقوض مساحة الحريات، ليتضح الوجه الحقيقي لهذه الطبقة، ولمعاداتها السافرة للطبقة العاملة والأقسام الاجتماعية المحرومة في المجتمع.

وكانت نفس هذه الطبقة وعدد ممن يصنفون انفسهم في خانة المثقفين الليبراليين بعد انتخابات 2022 تستبشر خيرا بأن هناك تياراً ليبرالياً بدء يطل برأسه في العراق أثر تشكيل ما سمي ب”الكتلة الشعبية” في البرلمان، مستذكرين رجالات السياسيين لما يسمى بـ (البرجوازية الوطنية) في الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم، من جعفر أبو تمن ومحمد حديد وكامل الجادرجي – انظر مكانة الليبرالية والديمقراطية في العراق- سمير عادل في ميدل است اونلاين- لكن تلك الفقاعة الإعلامية حول ظهور التيار الليبرالي سرعان ما انفجرت ونساه حتى من شكلوها ومن روجوا لها. فالليبرالية كمفاهيم ومقاييس مثلما وصفها منصور حكمت، من الحقوق المدنية والحريات مثل حرية العقيدة والتعبير وحرية التجمع والتنظيم، لا تتلاءم أبدا مع مقتضيات الحاجات للطبقة البرجوازية وممثليها السياسيين في البرلمان، وغيابها لا تعطل المشاريع الاقتصادية والسياسية لتلك الطبقة، وعلى العكس تماما بوجودها تعطي فرص للطبقة العاملة وسائر الأقسام الاجتماعية الأخرى من انتزاع قسم مما تجنيه البرجوازية من عمليات السلب والنهب عن طريق تشديد ظروف الطبقة العاملة.

وأخيرا بالنسبة لنا كشيوعيين لا تعنيننا الديمقراطية وعلينا الحذر من استخدامها، ويجب عدم استبدالها بمقولة الحرية. إنَّ الديمقراطية هي رؤية البرجوازية للحرية كما يقول لنا حكمت، تشذبها وتأطرها وتروضها حسب الحاجات الاقتصادية والسياسية لها. وان أكثر مسالة ترعب الطبقة البرجوازية هي الحرية، ولذلك تتردد كثيرا وتتجنب في استخدام مقولة الحرية في أديباتها السياسية. وعندما تضطر لاستخدامها تضع تنظير لها؛ من أجل انسجامها المزعوم مع تقاليد المجتمع واحترام مشاعر الشعب، ووجوب أن تراعي المصالح الوطنية الخ من تلك الترهات.

إنَّ الدفاع عن الحرية ورفع راية أو شعار الحرية السياسية دون قيد أو شرط هو جزء محوري من نضال الطبقة العاملة وتيارها الشيوعي.

علينا كشيوعيين أن نشرح للطبقة العاملة والجماهير، أنَّ تحقيق الحريات السياسية والمدنية والحقوق الفردية مرهون بنا وبالحركة الثورية للطبقة العاملة، وان البرجوازية بجميع ممثليها السياسيين سواء في العملية السياسية أو في المعارضة هي ألد أعداء الحرية، علينا إذاً تبديد الأوهام التي تنثرها الطبقة البرجوازية، بأنَّ صناديق الاقتراع والانتخابات ستوسع من قاعدة الحريات. فعلى العكس تماما فإنَّ الديمقراطية المتمثلة بصناديق الاقتراع تضفي ما تسمى بـ (الشرعية) على سلطة الطبقة البرجوازية المنفصلة والمعزولة عن الجماهير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى