تكتيك قديم … وأهداف أقدم! (حول خطوة الصدر بالانسحاب من الانتخابات)
إنها ليست المرة الأولى التي يفاجئ مقتدى الصدر الجميع. إذ إنه نموذج للتقلبات المتناقضة في الساحة السياسية في العراق. إذ لطالما سحب وزرائه أو أعضاء كتلته البرلمانية وأعادهم، ورجع يسحبهم و… في قمة الأزمات التي يختلقها أو الضجيج الذي يقوم به من مثل اقتحام المنطقة الخضراء، يعود ليعتكف مباشرة أو يذهب لقم لتكملة دراساته الفقهية!! حدث هذا مراراً وتكراراً. لقد سأم الجميع هذا السيناريو الممل.
بيد إن هذه المرة هي أمر مختلف. إن قام تلك المرات بمثل هذه الأساليب وهو في موضع قوة، فانه يقوم اليوم ذلك من موضع ضعف واضح. ففي غضون أيام قلال، قام بثلاثة خطابات مختلفة. خاطب في اثنين منهما ائمة الجوامع والهيئة السياسية، و دعا فيها، شاحذاً للهمم، الى ان التيار الصدري هو الورقة الاخيرة، إن حُرقت، لن يبقى للتيار الصدري مكانة بعد؛ مؤكدا على ضرورة ووجوب ان يفوز التيار بالأغلبية البرلمانية وان يكون رئيس الوزراء المقبل من التيار الصدري. فيما عاد بعد أيام قليلة، ليعلن وبشكل غامض وغير واضح انسحابه من الانتخابات “حفظاً لما تبقى من الوطن”. ولا يعلم أحد كيف يصون الوطن بهذا التكتيك!
ولكن لو ننظر لتوقيت خطابه الأخير الخاص بالانسحاب من الانتخابات. نرى انه أعقب الجريمة الشنعاء التي جرت في مستشفى الحسين في الناصرية وراح ضحيتها ما يقارب مئة قتيل (متفحم) وعشرات المحروقين الجرحى. بهذا التوقيت، يسعى لحرف انظار المجتمع عن حريق مستشفى مرضى كرونا الذين تفحموا في نار الفساد والجريمة وإلهائهم بقضية اخرى لا تمت بأي صلة بالكابوس الذي يعيشه المجتمع .
كما انه يسعى، عبر هذا الانسحاب وعباراته في خطاب الانسحاب، الى إخلاء ساحته من الجريمة المذكورة وسائر جرائم التيار الصدري وفساده ونهب وجرائمه ومافياته. يريد ان يقول اني لست مسؤولاً عما يقوم به “أزلامي”، قل مقرّبيه، في وزارات مثل الكهرباء والصحة والمالية والمناصب الحكومية المختلفة. يريد ان يبيض وجهه من جرائم ممارسات تياره منذ 2003 ولحد الآن. وعلى عكس الأبواق الإعلامية ونخبها السطحية والعديمة الضمير التي تعتاش من المديح وحرف الحقائق وتصوير “ان هذا الخطاب هو نموذج للشفافية والجرأة والشجاعة والصدق”، فإن خطابه في الحقيقة نموذج على انعدام المسؤولية والتهرب منها. لا يستطيع مقتدى بكلمتين ان ينقذ رقبته من كل هذا السجل الاجرامي والمافيوي الذي يقوم به تياره والمكاتب الاقتصادية للتيار ويهرب بعبارات من مثل إنه لا يدعم أحد من الحكومة الحالية وحتى المقبلة!! عزيزي… أن هؤلاء هم شخصيات تيارك! إن ما قاموا وما يقومون به ليس حالة أو حالات فردية. وليس الأمر كما يصور منافحوه “بعض من ينتموا إليه خالفوا أوامره دائماً”. لا تسطحوا القضايا رجاءً! ولا تستخفوا بعقل مجتمع من 40 مليون نسمة! إنه نهج، توجه، عمل مبرمج، وأناس ذوي صلاحيات يفرضون الكموسينات على كل عقد تجاري أو مالي في وزارته الخدمية، حصته من تقاسم السلطة والثروة والنهب، وتنصيب أناس موالين وإبعاد آخرين والخ.
وإلا فالسؤال البسيط من أين لتياره كل هذه الاموال؟! كيف تحول 99% من كوادره من فقرهم المدقع إلى أصحاب قصور وعمارات وأسواق وغيرها؟! من أين جاء تياره بمئات “الجكسارات” والسيارات الفارهة وطائرة نقل خاصة بالسيد؟! من أين لميليشياته كل هذا السلاح المتوسط والثقيل حتى؟! كيف يديم عمر تياره من دون أموال طائلة؟!
وكشاهد لا يقبل الجدل، حول إثراء المتنفذين في تياره إثراءً فاحشاً، عندما أصدر أوامرً لأتباعه بإحراق مولات تعود ملكيتها لقادة صدريين، امتنعوا عن دفع حصص مالية مترتبة عليهم للتيار. ومحاصرة وأحراق منازل آخرين في النجف وفي عدد من المحافظات العراقية.
على العكس من ادعاء النخب التافهة في تفسير خطابه، إذ يعتبر ان ما جرى في مستشفى الناصرية والخطيب في بغداد، والكهرباء عملاً مغرضاً من الآخرين بهدف إضعاف تياره وشن حملة إعلامية وسياسية لتسقطيه، وبالأخص بعد سماع تلك الاطراف لخطاب مقتدى الذي مفاده ان توجههم هو ان يكون رئيس الوزراء المقبل من التيار الصدري! انهم يقومون بهذه الاعمال “حتى يوقفوا بوجه الاصلاح”!
يتحفنا كثيراً بالحديث عن “الاصلاح”. عن أي إصلاح يتحدث؟! وماذا يقصد به؟! وماذا تجني الناس من “إصلاح” مقتدى؟! يسيطر مقتدى وتياره على مدينة الثورة في بغداد، وحول اسمها بالقوة الى مدينة الصدر. ان المدينة التي يسيطر عليها هذا التيار هي نموذج صارخ لأكثر مدن الخراب وانعدام الخدمات والمياه الآسنة وغياب الماء والكهرباء وتعم القاذورات والنفايات شوارعها. ماذا فعل هذا التيار لمدينة يهيمن عليها؟! أجلب غير الجوع، الفقر، البطالة، التردي المادي والمعنوي، غياب القانون، انفلات العصابات والمافيات التي كلها لها يد مع هذا التيار. من المؤكد ان هذا التيار يعرف ماذا يعمل. انه يرمي الشباب والعوائل في هذه الاوضاع المزرية، في اوضاع الجهل والفقر والعوز المطلق، حتى يتحولوا بسهولة الى ذخيرة وطعم لتياره. إذ لا يبقي لهم سبل للعيش سوى الالتحاق بمليشيات هذا التيار والتحول الى خدم طائعين.
انه مسعى لجلب وكسب التعاطف بوصفه طرف “مظلوم”، “يريد خير المجتمع”، “ينشد الإصلاح”، “مهدد بالقتل والاغتيال وايقاف مشروعه الاصلاحي”. ان استدرار مشاعر الاخرين هذا هو اسلوب هابط ومتخلف في العمل السياسي. ان خطابه بالانسحاب والتظلم و”غدر الآخرين”… الخ هو رسالة موجهة لقوى تياره بالدرجة الاولى. هدفها استدرار مشاعرهم، وبالتالي، حفظ بقائهم معه. وذلك لان مقتدى يدرك مدى هبوط مكانة هذا التيار وتراجعه على صعيد اجتماعي واسع. وكيف لا يهبط، ورأت الجماهير بأم أعينها ماذا عمل “بلطجية القبعات الزرقاء” سيئة السمعة، وكيف قمعت الانتفاضة وهاجمت المنتفضين الشباب بالسكاكين والهراوات بدون اي رحمة وشفقة، ورأت كيف شَكَرَ خامنئي مقتدى الصدر على دوره سيء الصيت في قمع الانتفاضة!.
ان “الانسحاب” هو رسالة من اجل قلب الضغط الذي يتعرض له مقتدى، وبالأخص بعد القبعات الزرق وحرائق المستشفيات في الناصرية وبغداد والغياب التام للطاقة الكهربائية في الصيف القائظ وهبوط قيمة الدينار العراقي والخ وإرجاعه الى نحر خصومه، بالأخص مليشيات التيار الولائي. وبالتالي تحويل فضائحه السياسية وكسرها على رؤوس خصومه بوصفهم “فاسدين”، “من يعيق الاصلاح” ، وبالتالي تبرئة النفس من كل الجرائم التي قام بها هذا التيار.
إنه يشن هجوماً على الكل. وهو “المصلح الوحيد”، “صاحب الرسالة الوحيد”، “مشعل الاصلاح وصلاح الحال الوحيد”. فالكل أما فاسدون أو “مقصّرون او قاصرون”. وحده مُنزّه فوق الجميع، مريديه كانوا ام اعدائه! ان التصور الذي يضفيه على نفسه هو امر يبعث على الدهشة والحيرة فعلاً.
على الصدر ان لا يذهب بعيداً. انه ومن اليوم الاول جزء من العملية السياسية. قَتَلَ وذَبَحَ ونَهَبَ وارتكب ابشع الجرائم بحق الجماهير في العراق. وانه ليس بأقل فساداً وإجراماً من الاخرين الموجودين في العملية السياسية. فما الشيء الذي عمله الاخرون ولم يقم به التيار الصدري؟! الحقائق تقول خلاف ادعاء مقتدى. إذ ان اغلب قادة المليشيات “المنفلتة” و”الدولة العميقة” وقتلة المتظاهرين يعودون في جذورهم الى “جيش المهدي”. بيد ان طموحاتهم الخاصة بالسلطة والمكانة والثروة دعتهم أن يتركوا جيش المهدي ويؤسسوا ميليشياتهم لان زعيم هذا الجيش، مقتدى الصدر، ولشدة فرديته واستبداديته، لا يتحمل طموحين من حوله! إن ذاكرة المجتمع ليست قصيرة.
من الجدير بالذكر، تأتي هذه الخطوة في أوضاع يدرك فيها الصدر إن ثمة احتمالات كبيرة أن لا تجري انتخابات من الأساس، او على الاقل تأجيلها. وكل القوى تقريباً تعبر عن هذا بأشكال مختلفة. وبالأخص في ظل تعقد وتشابك الوضع السياسي في العراق وسير المسار العام للأوضاع نحو انفلات أمني متعاظم، بل وحتى حرب أهلية تضرم نارها المليشيات.
لا يقرأ احد ما ثمة هدف واضح ومرشد لهذه الاستقالة في “حلحلة الاوضاع”. إذ وماذا بعد الانسحاب؟! ماذا ينوي مقتدى بعد ذلك؟! ما هو برنامجه السياسي العملي المقبل؟ لا أحد يعرف، ولا هو نفسه يعرف! ذلك ان الهدف هو خلط الاوراق، وبعثرة اوراق خصومه، بيد ان الهدف الذي لا يمكن اغفاله هو افلات رقبته من حجم السخط والحنق الشديد للمجتمع عليه. من جهة اخرى، ان المآل والنتيجة العملية وما ينشده مقتدى في المطاف الاخير وكما رأينا ذلك في المرات السابقة هو فرض التراجع على خصومه ونيل بعض الامتيازات من مثل تأجيل الانتخابات وتمديد مدة عمل حكومة الكاظمي واقرار الجميع بأن تكون رئاسة الحكومة المقبلة بيد التيار الصدري. ان يتطلع أحد الى ما يفكر به مقتدى وبرنامجه السياسي وغير ذلك، فانه كمن يرمي مستقبل أجيال مقبلة للمجهول. يجب الخلاص من كل العملية السياسية بأقطابها، بشخصياتها ورموزها سيئة الصيت، بميليشياتها. ليس بوسع الصدر ان يفصل حسابه عنهم بوصفهم فاسدين وغير ذلك. انه جزء لا يتجزأ منهم. ويجب ان يرحل معهم.