من اجل القاء الضوء على الاحداث الأخيرة في روسيا، تقوم جريدة الى الامام بتنظيم مقابلة مع الرفيق توما حميد، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العمالي العراقي.
الى الامام: تشوب الاحداث الأخيرة التي وقعت في روسيا بين مرتزقة فاغنر ونظام بوتين غموض هائل. فهناك من يقول ان ما قام به يفغيني بريغوجن رئيس شركة فاغنر وهي شركة عسكرية خاصة، كان مجرد عمل احتجاجي ضد القيادة العسكرية الروسية بسب خلافات على طريقة إدارة العملية العسكرية في أوكرانيا، ومن يقول انها كانت محاولة انقلاب ضد نطام بوتين ومن يقول بانها خطة بين بوتين وشركة فاغنر من اجل نقل هذه القوات الى بيلاروسيا حيث تكون اقرب الى عاصمة أوكرانيا، كييف وتكون جاهزة للتصدي لأي تدخل من الناتو في اوكرنيا او حماية نظام الكساندر لوكيشانكو وخاصة بعد نقل الاسلحة النووية التكتيكية اليها. ما هو رأيك بهذه التفسيرات؟
توما حميد: رغم التشويش الذي يخلقه الغرب واعلامه بهذا الصدد، الا ان الأمور في الحقيقية أوضح بكثير. فما قام به يفغيني بريغوجن وقسم من مرتزقة فاغنر كانت محاولة انقلاب جدية، ولكنها فشلت. وبريغوجين الان منفي الى بيلاروسيا. ولم تكن هناك أي مؤامرة بين نظام بوتين وشركة فاغنر. كما ان الاستخبارات الغربية كانت مطلعة على خطة يفغيني بريغوجين واعطته الضوء الاخضر وربما حثته وشجعته على القيام بهذا الانقلاب رغم المخاطر التي تعتري هذا العمل اذ يعني وصول مرتزقة الى الحكم في دولة هي أكبر قوة نووية في العالم. وبعكس الدعايات الغربية ان فرصة نجاح هذا الانقلاب، كانت قليلة جدا وان نظام بوتين مستقر وللأسف يحظى بدعم شعبي كبير.
الى الامام: ماهي خلفية الخلافات بين شركة فاغنر العسكرية الخاصة ورئيسها بريغوجين وبين نظام بوتين؟
توما حميد: كما نعلم لقد قام الغرب في 2014 بتدبير انقلاب ضد رئيس أوكرانيا المنتخب والموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش ووصل الى الحكم نظام يميني موالي للغرب مدعوم من قبل مليشيات نازية. وقد حدث احتجاجات في شرق أوكرانيا، أي منطقة دونباس التي يقطنها اغلبية من أصول روسية. وحركت حكومة أوكرانيا المركزية قواتها من اجل قمع هذه المنقطة وبدأت حرب بين ميليشيات محلية وحكومة أوكرانيا أدت الى اعلان هذه المنطقة التي تتكون من جمهورية لوهانسك وجمهورية دونيتسك الانفصال عن أوكرانيا. وقد توفى حوالي 14 الف شخص بين 2014 لحد دخول القوات الروسية الى أوكرانيا في 24 شباط 2022 اغلبهم من المدنيين الذين قتلوا نتيجة القصف الذي قامت به القوات الأوكرانية وخاصة كتيبة ازوف النازية.
لقد طلبت المليشيات في هذه المنطقة مرارا الدعم من روسيا، ولكن رغم الدعم الكبير الذي قدمته الحكومة الروسية، الا انها لم يكن لها غطاء قانوني لأرسال قوات روسية بشكل مباشر الى هذه المنطقة. ان هذا الامر كان يتطلب موافقة البرلمان الروسي، الدوما، على هذا الاجراء. ولم يعط الدوما التخويل لحكومة بوتين لأرسال القوات الروسية. والمعروف عن بوتين رغم كونه شخص استبدادي الا انه يعير اهتمام كبير للمسائل القانونية.
من اجل الالتفاف على هذه المسألة، لقد قامت الحكومة الروسية بتأسيس شركات عسكرية خاصة لا تخضع من الناحية الشكلية للجيش الروسي وكانت اهم هذه الشركات هي شركة فاغنر التي يتزعمها يفغيني بريغوجين. وكانت طبعا حسابات أخرى في تشكيل هذه الشركات منها اطلاق يد الحكومة الروسية للقيام بأعمال عسكرية وتدخلات والتبرؤ منها.
وقد تدخلت مرتزقة فاغنر في شرق أوكرانيا، وكان لها دور كبير في التصدي للقوات الأوكرانية. ونتيجة هذا النجاح توسعت هذه الشركة بالذات لتنقل عملياتها الى دول افريقية والى سوريا، حيث اشترت أنظمة في افريقيا خدمات هذه الشركة من استشارة عسكرية الى التدريب الى التصدي المباشر للتنظيمات الإرهابية التي زرعها الغرب. وعندما بدا الغزو الروسي لأوكرانيا انتقل القسم الأكبر من قوات فاغنر الى أوكرانيا. وقد قاتلت هذه القوات بشكل خاص على محور مدينة بخموت الأوكرانية حيث تمكنت في شهر أيار 2023 من احتلال هذه المدينة بعد معارك استمرت منذ أكتوبر 2022 وأدت الى مقتل اكثر من 75 الف عسكري اوكراني وحوالي 35 الف من مرتزقة فاغنر.
بعد التدخل الروسي في أوكرانيا من اجل ” التصدي لخطر الناتو” وخاصة بعد الاستفتاء الذي نظمته الحكومة الروسية في أربعة مقاطعات اوكرانية انتهت ” بالتصويت بالانضمام الى روسيا”، أصبحت هذه المقاطعات من الناحية القانونية جزء من روسيا ولم يعد للحكومة الروسية اي سبب لاستخدام فاغنر كغطاء. لقد كانت شركة فاغنر مكلفة جدا بالمقارنة مع القوات النظامية الروسية. حيث كلفت هذه الشركة الحكومة الروسية مليار دولار في اخر 12 شهر. لذا طلبت القيادة العسكرية الروسية من فاغنر توقيع عقد مع وزارة الدفاع وضمها الى القوات الروسية النظامية. لقد شكل هذا الاجراء تهديد لنفوذ يفغيني بريغوجين وفاغنر ومصالحهم الاقتصادية. لقد بدأت التوترات منذ شباط هذه السنة، وانتقد بريغوجين مرارا وزارة الدفاع والقيادة العسكرية على عدم تقديم ” الكميات المطلوبة من الذخائر” وعلى عدم الكفاءة وغيرها من الأمور. وخلال هذه الاثناء قام بإقامة اتصالات مع الاستخبارات الأوكرانية، والغربية وخاصة البريطانية والأمريكية. فمثلا تم ابلاغ لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي بخطط بريغوجين في أوساط حزيران.
بعد احتلال مدينة بخموت الأوكرانية، تم سحب قوات فاغنر الى الخطوط الخلفية والتي يتراوح عددهم بين 25-32 الف مقاتل. في يوم السبت،24 حزيران دخلت ما يقارب من 8 الالاف من هذه القوات مع يفغيني بريغوجين مدينة روستوف اوندون الاستراتيجية في غرب روسيا بشكل مفاجئ دون أي قتال مع القوات الروسية الموجودة في المدينة. ومنها أعلن بريغوجين الزحف على موسكو التي تبتعد حوالي ألف كيلومتر عن مدينة روستوف. وفعلا انطلق رتل من 4000 مقاتل على الخط السريع نحو موسكو. لقد اعلن بريغوجين بان مشكلته كانت مع وزير الدفاع، سيرغي شيغو ورئيس الأركان العامة الجنرال جيراسيموف الذين اتهمهما بالخيانة ووعد بالقبض عليهم. وكان امام الحكومة الروسية خيارين هو اقناع بريغوجين بوقف التمرد او سحق قواته. وقد توسط رئيس بيلاروسيا، الكسندر لوكيشانكو بين بريغوجين والحكومة الروسية. ان ما جرى بين لوكيشانكو وبريغوجين كان واضحا. لقد أخبره بان بوتين سوف يسحق كل الرتل المؤلف من 4000 عسكري من خلال القوة الجوية اذا اقترب من موسكو وكانت هناك اكثر من 30 الف مسلح للدفاع عن روسيا وقامت قوات احمد الشيشانية بتطويق قوات فاغنلا في مدينة روستوف. لقد تبين لبريغوجين مدى خطورة وضعه وخاصة انه لم يحظَ علي تأييد من الجيش الروسي او أي من الأجهزة الأمنية اوي أي شريحة في روسيا كما كان متوقع. لقد تم التوصل الى اتفاق مفاده ان يوقف بريغوجين تمرده بشرط ان يغادر الأراضي الروسية الى بيلاروسيا ووضع امام قوات فاغنر ثلاث خيارات وهو الالتحاق بوزارة الدفاع كمتطوعين، او العودة الى الحياة المدنية او الالتحاق بزعيمهم في روسيا البيضاء.
الى الامام: هل يعقل ان يتعامل بوتين المعروف بالقساوة والاستبداد بهذه الليونة مع شخص يقوم بانقلاب ضده؟
توما حميد: بوتين رغم استبداده وقساوته، هو رئيس دولة عظمى وهو سياسي ماهر ويجب ان يكون دقيق في التعامل مع الأوضاع وخاصة ان روسيا اليوم في مواجهة شاملة من الغرب. لقد ذكر بوتين في خطابه ” للامة” في يوم التمرد، بعام 1917 حيث قال يجب ان نتفادى مثل تلك الاحداث. حسب وجهة نظره كقائد تيار قومي، ان ثورة أكتوبر كانت حدث سلبي جدا. فهو يعتقد بان الصراع كان صراع ” الامة” الروسية ضد العدو الخارجي في الحرب العالمية الاولى، وليس للنضال والثورة الطبقية مكان في حساباته. يقول أدت ثورة أكتوبر الى حرب داخلية ” حرب الاخوة”. لقد كان بإمكان بوتين ارسال 200 طائرة لمحو الرتل المتوجه الى موسكو، ولكن أراد ان يتفادى مثل هذا الاجراء وخاصة في وقت الحرب، والظهور كقائد حكيم، يحقن دماء الروس. لقد وجد من الضروري في هذه المرحلة ان يظهر ليونة وخاصة ان يفغيني بريغوجين وفاغنر حصلوا على شعبية بسبب القتال الشرس والتضحيات التي قدموها في أوكرانيا. وقد أدى تعامل بوتين مع الازمة الى زيادة شعبيته بالفعل.
الى الامام: كيف توقع بريغوجين الذي ليس احمقا بان بإمكانه الوصول الى السلطة من خلال قوات فاغنر التي في افضل الأحوال لا تتعدى 32 الف رغم ان كل قادته العسكريين عدا قائد واحد رفض المشاركة في التمرد حيث تشير التقارير ان 8000 مقاتل فقد عبر الحدود الى روسيا؟
توما حميد: يبدو ان يفغيني بريغوجين قد اعتمد على تقيم الاستخبارات الغربية للوضع في روسيا حيث تعتقد بان النظام هش، والجيش الروسي غير كفوء وهو منهار المعنويات وغيرها من دعايات الحرب النفسية التي يقوم بها الغرب التي في الحقيقية لا تعكس الواقع. الطبقة الحاكمة في روسيا متوحدة بشكل كبير. ان الخلافات الموجودة هي حول كيفية إدارة الحرب في أوكرانيا. فهناك الكثير من القادة العسكريين والسياسيين يعتقدون بان بوتين حذر في استخدام القوة في أوكرانيا وقد أدى أسلوبه الى إطالة امد الحرب بشكل غير مبرر. أي ان الخلاف هو بين بوتين ومن هو يريد ان تكون الحرب أكثر دموية وان تحسم بسرعة في أوكرانيا.
الى الامام: يشاع بان هذه الاحداث قد هزت مكانة بوتين وهي بداية النهاية له.
توما حميد: في الأوضاع العالمية الحالية وخاصة خلال أوضاع الحرب لا يمكن التكهن بمجرى الاحداث في الكثير من البلدان. وهذا ينطبق على روسيا وامريكا وفرنسا، وألمانيا وبريطانيا وغيرها. فالأنظمة هي اقل رسوخا وهناك احتجاج شعبي متزايد، ولكن بشكل عام لا يبدو ان هذه الاحداث قد اضعفت نظام بوتين بل العكس لقد ظهر كقائد قوي وماهر انهى تمرد فاغنر الشرس بدون أي إراقة للدماء. ان التأثير السلبي لهذه الاحداث كانت على مكانة روسيا لدى الدول التي هي خارج القطب الغربي والتي لم تقرر باي قطب من الأقطاب العالمية تلتحق هل يمكنها الوثوق بروسيا كإحدى الدول الأساسية في القطب المعادي للغرب وعلى الدول والشركات التي تود الاستثمار في روسيا ولذلك تسعى القيادة الروسية الى طمأنة هذه الأطراف بكل الاشكال.