رغم الدعاية الإعلامية للغرب حول الصراع الاوكراني وكل الحديث عن الدفاع عن الديمقراطية وحرية الدول في الاختيار، الا ان الوقائع توضح بشكل لا لبس فيه بان هذه الدعاية هي كاذبة وهي تلفت الانتباه عن الأسباب الحقيقية لهذا الصراع.
في خضم المفاوضات بين الاتحاد السوفيتي والغرب طلبت روسيا من أمريكا عدم توسيع الناتو شرقا والامتناع عن النشاط العسكري في دول الكتلة الشرقية السابقة والامتناع عن نشر صواريخ قريبة من حدود روسا، مقابل التخلي عن حلف وارشو ووحدة المانيا. وهناك ادلة موثوقة بان وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر وعد في عام 1989 بانه ” لن يكون هناك تمديد للناتو بوصة واحدة الى الشرق”. ولكن منذ ذلك الحين توسع الناتو لمسافة 1000 كيلومتر الى الشرق في اوروبا الوسطى والشرقية وضم البلدان التي كانت في السابق جزءا من حلف وارسو مثل التشيك وهنغاريا وبولندا وبعدها بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا والبانيا وكرواتيا و حتى بعض الجمهوريات السوفيتية السابقة مثل استونيا ولاتفيا ولتوانيا. كما وعد الناتو بان تصبح أوكرانيا وجورجيا عضوين عندما تتوفر شروط العضوية عند هذين البلدين. كما تقوم قرغيزستان بإيواء قاعدة عسكرية أمريكية وتم نصب حكومة موالية للغرب في جورجيا ويتم تدبير “ثورات ملونة” في الدول التي تقع في منطقة نفوذ روسيا مثل بيلاروسيا وكازخستان.
لقد خضعت روسيا لهذا الضغط لأنها كانت ضعيفة في مواجهة أمريكا والغرب وخاصة في العقد والنصف الذي تلى سقوط الاتحاد السوفيتي. ولكن الان لقد بدا الوضع العالمي يتغير، فرغم بقاء أمريكا أكبر القوى الامبريالية، ولكن مجموعة عوامل تسببت في انحدار نفوذها وضعفها النسبي وخاصة منذ ازمة 2008. فالتدخل في العراق وأفغانستان قد كلفها أموالا هائلة وخرجت بعد عشرين سنة دون ان تحقق شيء. وليس هناك أي شهية للحرب داخل أمريكا. كما ان مجتمع امريكا منقسم على نفسه بشكل خطير قد تؤدي أي مغامرة أخرى خاصة ضد دولة مثل روسيا الى تفاقم هذه المشكلة بعكس خطط الطبقة الحاكمة. ان الخسائر التي مني بها الجيش الأمريكي على شكل قتلى، ولكن اهم من ذلك على شكل اصابات واعاقات سواءً الجسدية او النفسية والمعاملة والرعاية السيئة التي توفر للمحاربين القدامة قد اثرت على جاذبية الجيش الامريكي الى درجة بات من الصعب حتى ضمان العدد المطلوب من المجندين حتى في وقت السلم.
وهناك دائما خطر الانقسام داخل معسكر الغرب نفسه. فأوروبا لا تريد الحرب اذ عاشت عكس امريكا حربين مدمرتين على اراضيها في السابق. لقد كانت هناك بوادر انقسام اثناء غزو العراق عندما عارضت فرنسا وألمانيا المشاركة في الحرب، بعكس دول اوروبا الوسطى والشرقية، مما حدا بدونالد رامسفيلد ان يتحدث عن “اوروبا الجديدة” كحليف لأمريكا بدلا من ” أوروبا القديمة”. ولكن اليوم بدأ التململ في كل انحاء اوروبا، اذ ترفض المانيا ارسال السلاح الى أوكرانيا, وقالت كرواتيا بانها ستسحب قواتها من الحلف حال نشوء حرب بين روسيا والناتو وتقول بلغاريا بانها لا تقبل بتواجد الجيش الأمريكي على اراضيها. يعرف الاوربيون بان الصراع العسكري مع روسيا سيتم على أراضيهم مما يعني عدد لا يحصى من الضحايا ودمار هائل. من جهة أخرى تريد أمريكا التركيز على اسيا ومنطقة المحيط الهادي، أي مواجهة الصين بدلا من اوروبا والشرق الأوسط.
في المقابل لقد اثبتت احداث معينة عجز أمريكا للرد على روسيا بشكل مؤثر مثل الحرب الجورجية عام 2008، وضم القرم في 2014 واحداث سوريا، وبيلاروسيا وكازخستان وحتى الصراع مع إيران. ان هذا الضعف هو اوضح في المناطق القريبة من روسيا حيث لها جيش ضخم ومدرب بشكل جيد ويتمتع بقوة نارية هائلة. ليس لجيش حلف الناتو القدرة على مواجهة الجيش الروسي في المناطق القريبة من روسيا في صراع تقلدي. فأي صراع عسكري تقليدي مع روسيا سوف يحتاج الى مئات الالاف من الجنود وهو امر يتعذر على الناتو القيام به، هذا عدا ان أي مواجهة قد تخرج بسهولة من السيطرة لتنتهي الى حرب عالمية تنهي الحياة على الكوكب.
حتى من الناحية الاقتصادية، فان الوضع يسير لصالح روسيا الى حد ما في الوقت الراهن. فرغم هشاشة الاقتصاد الروسي واعتماده على تصدير الوقود الاحفوري، الا ان التقارب الاقتصادي الكبير مع الصين وحاجة أوروبا الى الوقود الروسي وارتفاع أسعار النفط مؤخرا هي كلها أمور تصب لصالح روسيا. ان العقوبات الاقتصادية لم تثني روسيا عن تعقب مصالحها. كما ليس للغرب شيء يعرضه في أوكرانيا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لقد شهدت أوكرانيا في الحقيقة ثلاثة عقود من الفقر المتنامي وعدم المساواة والانقسامات والقمع وصعود الفرق اليمينية الفاشية. لقد أصبحت مثال صارخ على ضحالة الوعود البرجوازية بالازدهار والديمقراطية والسلام بعد انتصار الغرب على قطب رأسمالية الدولة. في الحقيقة ليس للغرب أي شيء يعرضه من الناحية الاقتصادية في أي مكان خارج حدوده، مثل افريقيا وامريكا اللاتينية واسيا، حيث تصرف المليارات على ” نشر الديمقراطية” و “بناء المجتمع المدني” في حين تقوم الصين حليفة روسيا في الصراع مع الغرب بإقامة الاف المشاريع خارج حدودها تستند على بناء البنية التحتية التي تساهم في النمو الاقتصادي. ومن الناحية العسكرية والسياسية، تبدو روسيا اليوم حليف محل ثقة أكثر من الغرب. فآخر تدخلات الغرب في العراق وأفغانستان وليبيا انتهت بكارثة، في حين تمكنت روسيا عكس كل التوقعات من منع سقوط نظام الأسد، كما تمكنت من التدخل في بيلاروسيا ومنع ” ثورة ملونة”، كما تمكنت في غضون 24 ساعة من ارسال الاف الجنود ضمن منظمة “معاهدة الامن الجماعي” الى كازخستان التي شهدت مؤخرا احتجاجات عنيفة ضد نظام قاسم توكاييف الرجعي والتي استغلت من قبل الغرب من خلال منظمات المجتمع المدني والجماعات الإسلامية مثل النصرة لقلب النظام. وساهمت هذه القوات من فرض النظام وقامت بمغادرة البلاد في غضون أسبوع. ولهذا إذا كنت صاحب نظام في وضع ازمة، فتتمنى ان تكون حليف روسيا وليس الغرب.
في ضوء هذه الخلفية تطلب روسيا وقف امتداد الناتو شرقا وهذا يعني التعهد بعدم قبول جورجيا وأوكرانيا في الحلف. رغم ان الغرب يصور هذا الطلب بانه غير معقول ولن يتم التفاوض عليه ومن حق أي دولة ان تقرر كيف تضمن امنها، الا انه في الواقع هو طلب واقعي. ان انضمام أوكرانيا الى الحلف يجعل من صواريخ الناتو على بعد دقائق من موسكو مما سيحد من قدرة أنظمة الدفاع الروسية التصدي لها، كما ان وجود الأنظمة المضادة للصواريخ في أوكرانيا قد يعطي تصور بإمكانية تحيد الترسانة الروسية ووجود امكانية لشن ضربة استباقية. ويمكن معرفة مقدار الرياء عند الغرب بالقيام بتمرين ذهني وتخمين ما الذي ستقوم به أمريكا إذا قامت روسيا او الصين بوضع قواتها في كندا او المكسيك مثلا!
امريكا تعرف ان روسيا على حق، ولكن تمنع أمور اخرى وتوازنات القوى داخل أمريكا والجيوالسياسي السائد الإدارة الامريكية أيا كانت من ابداء أي مرونة تجاه روسيا والأكثر من ذلك، الإدارة الامريكية بحاجة الى ازمة خارجية. ولكن في النهاية ان حل هذا الصراع لن يتم الا مثلما تم حل ازمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 عندما وافق الاتحاد السوفيتي على إزالة صواريخه من كوبا مقابل إزالة أمريكا لصواريخها من تركيا أي يجب ان يلتزم الغرب بعدم استخدام أراضي أوكرانيا عسكريا.
من المعروف ان أوكرانيا كانت من الدول المؤسسة للاتحاد السوفيتي في كانون الأول 1922. وقد كانت ثاني اهم دولة في الاتحاد السوفيتي بعد روسيا وكان لها إمكانات صناعية وزراعية هائلة.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أعلنت أوكرانيا استقلالها في عام 1991. في وقتها، قلة كان من يتوقع ان ينحو وضع الأوكرانيين نحو الأسوأ. ولكن في الواقع لم تحرم السكان من بعض المنجزات التي حققها الاتحاد السوفيتي لهم مثل ضمان الوظيفة والتعليم والرعاية الصحية المجانية، بل شهد البلد حرب أهلية وانقسام ووصل الوضع الى حد من السوء بحيث اضطر الملايين على الهجرة بحثا عن المعيشة وتنخر المجتمع امراض اجتماعية مثل الادمان على المخدرات والكحول والياس وعدم وضوح المصير وصعود قوى فاشية.
وقد شارك كل الرؤساء الذين وصلوا الى الحكم في أوكرانيا منذ الاستقلال بما فيهم ليونيد كوتشما وفيكتور بشتيشنكو وفيكتور يانوكوفيتش والكساندر تورتشينوف وبيترو يوشينكو وفولوديمير زيلينسكي في هذا الانحدار المدوي في مستوى معيشة ورفاهية الانسان في أوكرانيا. اذ شهدت السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي تراجع المستوى المعيشي للطبقة العاملة الأوكرانية بمستويات قل نظيرها في التاريخ