لا يمكن انكار حقيقية بأن الحرب في أوكرانيا هي حرب بالوكالة بين روسيا من جهة والناتو من جهة أخرى، رغم ان الأراضي الأوكرانية هي ساحة هذه الحرب والطبقة العاملة الروسية والاوكرانية بشكل رئيسي هي التي تدفع الثمن بدمائها.
لقد اكد هذه الحقيقية وزير الدفاع الاوكراني، اوليكسي ريزنيكوف، في مقابلة تلفزيونية مؤخرا حيث قال ” نحن ننفذ مهمة الناتو اليوم. انهم لايريقون دمائهم. نحن نريق دمائنا. هذا هو السبب انهم مطالبون بتزويدنا بالأسلحة”.
وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، ” اذا انتصرت روسيا، فلن تكون هذه هزيمة لأوكرانيا فحسب ، بل لحلف الناتو أيضًا”. واكد ادم شيف عضو مجلس النواب الأمريكي عن الحزب الديمقراطي قبل سنوات، أي قبل بدء الحرب ” نحن نساعد أوكرانيا وأهلها لكي نحارب روسيا هناك بدلا من محاربتها هنا”. لقد جاء كلامه هذا في خضم الحملة الشعواء التي شنها الحزب الديمقراطي الأمريكي لعدة سنوات والتي ادعت بان روسيا تدخلت بشكل فعال في الانتخابات الامريكية لعام 2016 وساعدت على إيصال ترامب الى الحكم وتبين لاحقا بان هذا الادعاء كان مجرد كذبة ضمن خطة لتصعيد التوتر مع روسيا.
كما أكد الكثير من القادة في الغرب بشكل من الاشكال بان هذه الحرب هي حرب بالوكالة وان الناتو منخرط بها بقوة.
رغم ان الغرب يصر بان الحرب في أوكرانيا هي حرب غير مبررة شنتها روسيا ضد اوكرانيا، الا ان روسيا تؤكد بان لم يكن لها أي خيار اخر. اذ اعتبرت تواجد الناتو على الأراضي الأوكرانية خطر وجودي عليها لم يكن بإمكانها القبول به باي شكل من الاشكال. لقد داومت روسيا على التأكيد على مخاوفها من انضمام أوكرانيا الى الناتو منذ 2008. ففي 2008 حذر بوتين في خطابه الشهير في ميونخ بان انضمام أوكرانيا وجورجيا الى الناتو هو أمر لا يمكن لروسيا القبول به. وكانت آخر مرة طلبت روسيا من الغرب التفاوض على ” الخطوط الحمر الروسية” وأهمها انضمام أوكرانيا الى حلف الناتو قبل بدء الحرب بأسابيع. لكن رفض الغرب التحدث الى روسيا بل هدد بمعاقبتها في حال قيامها باي تصعيد وخاصة من خلال حصار اقتصادي مدمر.
في الحقيقة قال وليام برينز، سفير أمريكا لدى روسيا وهو خبير في شؤون روسيا في 2008 بان دعوة أوكرانيا الى حلف الناتو هو امر لا يمكن لروسيا القبول به وسيجبرها على التدخل العسكري لمنع هذا الامر. مع هذا دأب الغرب على استفزازاته. ففي 2014 دبر الغرب انقلاب ضد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وايصال حكومة يمينية تعتمد على المليشيات النازية والفاشية الى الحكم، الامر الذي دفع جمهوريتي لوهانسك ودونيسك في شرق اوكرانيا التي يقطنها اغلبية من الأصول الروسية في شرق أوكرانيا المدعومة من روسيا إلى اعلان التمرد، الامر الذي أدى الى نشوب صراع عسكري. وعندما زج نظام الحكم في كييف قوة عسكرية كبيرة عمودها الفقري النازيين الجدد من اجل اخضاع هذه المنطقة قامت مليشيات هذه الجمهوريات مدعومة بقوة روسية بمحاصرة هذه القوة. من اجل منع إبادة هذه القوة، طلبت أوكرانيا من الغرب التدخل. لقد تم التوصل الى اتفاقية مينسك 1 في 2014 ومن ثم اتفاقية مينسك 2 برعاية فرنسا وألمانيا والتي نصت على منح نوع من الحكم الذاتي لجمهوريتي لوهانسك ودونيسك، وإعلان أوكرانيا الحياد وتخلي أوكرانيا عن شبه جزيرة القرم. ولكن لم تلتزم أوكرانيا بهذه الاتفاقية ولم يضغط الغرب على أوكرانيا من اجل تطبيق الاتفاقية. واعترف الغرب على لسان انجيلا ميركل، مستشارة المانيا السابقة وفرنسوا هولاند، رئيس فرنسا السابق بانه لم يكن الغرب يوما من الأيام جدي في تطبيق هذه الاتفاقية بل كان يهدف الى كسب الوقت من اجل تدريب القوات الاوكرانية حسب مقايس الناتو وقام بالفعل بتدريب بين 100-150 الف جندي منذ 2014 وضخ كميات هائلة من الأسلحة الى اوكرانيا.
ولكن بغض النظر عن أسباب بدء الحرب والتبريرات التي قُدمت من الطرفين، من الواضح بان روسيا تعتبر الحرب في أوكرانيا مصيرية بالنسبة لها وتعتبر الهزيمة خطر وجودي عليها وهو امر لا يمكنها القبول به. اذ ان هزيمة روسيا في أوكرانيا لا يشكل خطر على مستقبل النظام الحاكم فحسب، بل على مستقبل الدولة الروسية وهناك مخاوف جدية من تفتتها او على اقل تقدير العودة الى وضع مماثل لعقد التسعينيات، حيث شهد مجتمع روسيا تراجع وتقهقر مرعب في كل المجالات. وهناك الكثير مما يدعم مخاوف روسيا حيث أكد أكثر من قائد او مفكر غربي بان هدف الغرب هو اضعاف روسيا، وتغير النظام فيها وحتى تفتيتها. وقد اصبح هذا الهدف اكثر الحاحا مع هبوط مكانة الغرب بقيادة أمريكا وبروز عالم متعدد الأقطاب. اذ يعتبر الغرب هزيمة روسيا خطوة ضرورية للتفرد بالصين ومنع صعودها كقطب عالمي.
رغم ان هزيمة أوكرانيا في الحقيقة هي ليست خطر وجودي على الغرب، الا ان الغرب بات ينظر الى هذه الهزيمة كخطر وجودي. لقد قام الغرب بفرض عشر حزم من الحصار الاقتصادي على روسيا، ولكن لا يتبين بان هذه الإجراءات كانت لها التأثير المرجو على الاقتصاد الروسي. وقد استمر الغرب على الرهان على نفاذ مخزون روسيا من الذخيرة والصواريخ وليس هناك دليل على هذا الامر.
دخلت أوكرانيا الحرب مع روسيا بآلاف الدبابات وقطع المدفعية والمدرعات والمركبات العسكرية وخسرتها في الأشهر الأولى من الحرب. وقام الغرب بجمع كميات هائلة من الأسلحة الثقيلة سوفيتية الصنع من دبابات ومدفعيات ومدرعات الموجودة ليس في مخازن الأسلحة في الدول السوفيتية السابقة فحسب، بل حول العالم وتقديمها الى أوكرانيا وقد تم تدميرها. الان أوكرانيا بحاجة الى كميات كبيرة من الاسلحة الثقيلة وبدأ الناتو بتزويدها بالأسلحة الغربية. ان نصر روسيا العسكري يعني تدمير هذه الاسلحة وفشل الحصار الاقتصادي الغربي وفشل الغرب في عزل روسيا عالميا وهذا سيعني خروج روسيا كقطب رأسمالي عالمي وتسارع وتيرة هبوط مكانة الغرب بقيادة أمريكا. الغرب ينظر الى هذا الاحتمال كخطر وجودي قد يؤدي الى تفكك الناتو وحتى الاتحاد الأوربي والغرب كقطب.
لا يلوح في الأفق أي فرصة او إمكانية لخفض التوتر بشكل يحفظ ماء الوجه بالنسبة لروسيا من جهة والغرب من جهة أخرى. الخيار الوحيد الذي يلوح في الأفق هو التصعيد من قبل الطرفين على امل تحقيق النصر و الحاق الهزيمة بالطرف المقابل، ولكن هذا التصعيد يزيد من خطر مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا والناتو وهذا سيزيد من خطر نشوب حرب نووية اكثر من أي وقت مضى منذ ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. لقد حذر الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف ، يوم الخميس في احدى منشوراته على تليغرام بان خسارة قوة نووية في حرب تقليدية يمكن ان تثير اندلاع حرب نووية. ان الوعي بهذا الخطر ليس بالمستوى المطلوب.
ان السبيل الوحيد للجم هذا الخطر هو تصاعد نضال الطبقة العاملة وخاصة في الغرب التي تضررت بشكل كبير من هذه الحرب بسبب التضخم وسياسة رفع نسبة الفائدة من اجل السيطرة على التضخم والازمة الاقتصادية الوشيكة. هناك بوادر لتصاعد هذا النضال من مظاهرات وإضرابات عمالية وكسب النقابات العمالية للنفوذ في الكثير من الدول. ولكن يفتقر هذا النضال الى بوصلة وقيادة حيث هناك ضعف وغياب القوى الشيوعية والاشتراكية وحتى اليسار بشكل عام الذي أصبح مرتبطا بنضالات ثقافية واجتماعية وبيئية منفصلة وفقد صلته بالطبقة العاملة ونضالها الطبقي الشامل ضد النظام ككل. ان العالم الرأسمالي مقبل على تغيرات واضطرابات وازمات هائلة في السنوات القليلة المقبلة، يجب علينا التهيؤ لهذه المرحلة بكل الاشكال وتقديم الرؤية الواضحة لمواجهة الوضع الذي سيواجه البشرية.