دائنا عراقي، ولم يكن هولندي!!
إعلانان متزامنان، ظهرا في يوم واحد خلال هذا الأسبوع الجاري، والراجح إن ظهورهما لا يرجع لمجرد الصدفة. نظراً للتوقيت ولمحتواهما المشترك.
الأول، تصريح صحفي لوزيرة الخارجية النمساوية السابقة (كارين كنيسل)، تعتبر عصر النفط لم ينته بعد “فهناك إمكانات وآفاق كبيرة له في دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ وإفريقيا”. وتضيف شارحة “لقد كان عمري 7 سنوات فقط عندما صدر تقرير نادي روما والذي قال إن الطلب على النفط سيتوقف بحلول عام 2000، ويمكن القول إنني أتابع سوق النفط باحتراف مدة 25 عاما الماضية، وسمعت الكثير من التوقعات خلال هذا الوقت، لكنني ما زلت لا أومن بأن عصر النفط يقترب من نهايته”.
والآخر، تقرير لشركة أبحاث الطاقة (ريستاد أنرجي (Rystad Energy يقول: إن إيرادات الدول المنتجة للنفط والغاز ستتعرض لصفعة قوية مع عملية تحوّل الطاقة التي تفرضها أزمة تغيّر المناخ.. وينصح التقرير الجزائر والعراق والكويت وليبيا باعتبارها الدول الأكثر تعرضًا لمخاطر تراجع الإيرادات نتيجة لتحوّل الطاقة، وسط تحذيرات بمخاطر محتملة ما لم تسارع هذه البلدان لتنويع اقتصاداتها مبينة أن الاقتصادات المعتمدة على الوقود أي الاقتصادات الريعية، مسؤولة من جهة ثانية عن خمس انبعاثات غازات الاحتباس الحراري .
التقريران توافق ظهورهما مع عودة الطلب العالمي للنفط خلال الآونة الأخيرة، بعد تراجعه أثر اجتياح جائحة كورونا للدول الصناعية الكبرى (باستثناء الصين)، وتوقف عجلة اقتصاداتها وتلكأ إنتاجها الصناعي لفترات غير قصيرة. وبعد قيام حكومات هذه الدول بحملة تطعيم واسعة ضد كورونا، استعادت اقتصاداتها جزء كبير من نشاطها الصناعي، وعاد طلبها للطاقة.
تصريح الوزيرة النمساوية، يُعتبر تقرير مهني صرف؛ يكشف حقيقة عدم قدرة الدول الصناعية في الزمن المنظور على التخلي عن النفط، كطاقة لتسيير عجلة إنتاجها المكيف منذ مئات السنين مع شكل بناء هذا القطاع الهائل. وظهور مناطق جديدة بالعالم كما تقول كمتابعة “في آسيا أو أفريقيا” كيفت هي الأخرى اقتصادها الصناعي مع طاقة النفط. والقراءة الموضوعية لواقع الصناعة الرأسمالية القائمة اليوم في العالم، ترى بأن لا وجود لنية، لدى هذه الدول باختيار بدائل عن النفط؛ من أجل الحفاظ على البيئة والتقليل من مخاطر التغير المناخي المحدق بسلامة البشر والكرة الأرضية. اختيارهم قائم منذ البداية على شاغل وحيد لا غير؛ على منطق التنافس وتراكم الأرباح. وهذا هو المنطق الوحيد الذي يحرك منظومة رأس المال العالمي.
تقرير شركة (ريستاد أنرجي) وتقارير أخرى صدرت من صندوق النقد الدولي، أو من مؤسسات إعلامية ومالية عالمية غيرها، يأتي تحذيرها للبلدان الأربعة على سبيل المثل: (العراق وليبيا والكويت والجزائر) التي يعتمد اقتصادها على قطاع النفط بالطريقة الريعية المعمول بها حالياً، كمصدر وحيد (للدخل القومي)، بأنه معرض لهزة عنيفة ربما تأتي عليه ويؤدي إلى تفكيك بلدانها كلياً. وتنصح بالقيام باعتماد وسائل وطرق اقتصادية أخرى لتعدد مصادر الدخل غير النفط. وتحملهم مسؤولية انبعاث الغازات الدفيئة، وكأن المسؤولية تقع على عاتق هذه المادة الطبيعية وليس على من يستخدمها استخداماً سيئاً.
ومن وجه آخر، نرى في التقارير العالمية، ضجيج إعلامي يهدف للتقليل من شأن النفط، والإيحاء لهذه الدول المذكورة عدم الاعتماد الكلي على هذا المنتج المعرض لفقدان أهميته الاقتصادية، من أجل خفض أسعاره بظل حاجتهم المتجددة إليه؛ للتعويض عن الخسائر الهائلة التي تعرض الاقتصاد الرأسمالي العالمي مع الإغلاق بزمن انتشار كورونا.
المخاطر التي تواجه العراق، وهو من بين هذه الدول التي حذرها التقرير!!، مخاطر قديمة حذرنا منها في كل مناسبة، قبل أي تقرير صدر الآن أو من قبل، كعراقيين يعنينا شأن بلدنا ومجتمعنا، من الوقوع في مخاضة البؤس وضياع المستقبل.
ولا يبدو على الإطلاق وجود (من يهمه الأمر) مع كل الحكومات المتعاقبة التي مرت على العراق منذ تأسيس دولته الحديثة. اقتصاد العراق أُرسيت قواعده الهشة وغير السليمة على طريقة الحالة التي مرت بها هولندا في فترة زمنية من تاريخها، أو ما يُعرف بالمرض الهولندي. ويمكن اختصار تعريف هذا المرض: بأنه العلاقة العكسية حسب (مفاهيم الرياضيات) بين ازدهار الاقتصاد المعتمد على المصادر الطبيعية، مقابل انخفاض في قطاع الصناعة و الزراعة…، والركون إلى ” الإنفاق الاستهلاكي البذخي على الإنفاق الاستثماري”. من تدفق العائدات الهائلة لهذه الموارد الطبيعية. وهو ما حصل في هولندا بعد اكتشاف آبار النفط والغاز في منطقة تابعة لها في بحر الشمال. وبعد مرور نصف قرن على هذا الاكتشاف، صحت الرأسمالية الهولندية على وقع الأنابيب الفارغة لنفطها وغازها، وعادت إلى الاعتماد على الصناعة وخطط ضخمة للنهوض بالزراعة والسياحة…، لإنعاش مداخيل هذه الطبقة مجدداً، التي كادت أن تفلس هي والبلد.
أما حال العراق مع دائه المزمن، في اعتماده على مداخيل النفط حصراً. خصوصاً في المرحلة المعنية ما بعد 2003، حيث تهيمن عليه سلطة الأحزاب والجماعات المليشياتية الانتهازية المدمرة. المتغولة بوجه القانون بواسطة السلاح المنفلت والفوضى، التي يتم بواسطتها توزيع عائدات النفط الريعية، على أساس معادلات القوة والتراضي بين هذه الجماعات.
الإصلاح الاقتصادي، وأي إصلاح اقتصادي، بحاجة إلى إرادة وقرار سياسي، كما حصل مع هولندا إبان أزمتها المرضية. ويرجع الفضل أساساً في قرارها السياسي إلى وجود طبقة صاحبة تقاليد وخبرة تمتد لمئات السنين، ذللت أمامها صعوبات جادة تجاوزتها بسهولة، مكنتها بالتالي لاستعادة مكانتها الطبقية من جديد، أمام تحديات داخلية وخارجية.
العراق لا يمكن إصلاح وضعه الاقتصادي والسياسي، في خضم التلاطم السياسي الداخلي الذي يعيشه، وخضوع القرار السياسي لارتباطات خارجية، حتى في مسألة التصنيع وخطط التنمية الاقتصادية على مختلف أنواعها. وقضية استيراد الغاز من لإيران لتشغيل محطات توليد الكهرباء أكبر دليل على ذلك.
وجهت الطبقة البرجوازية العراقية لخدمة برامج سياسية واقتصادية خارجية، أصابت البلد بالشلل؛ للاعتماد على الاقتصاد الريعي النفطي السهل، والذي تتقاسمه بين اجنحتها بطرق واساليب متنوعة، وتمنع بذات الوقت اعتماد اقتصاد متنوع نزولا لتحقيق غايات خارجية.
إذا كانت الطبقة البرجوازية العراقية عاجزة عن تحقيق مشروعها الطبقي الخاص، بسبب نشأتها نشأة مشتتة منذ البداية، فالطبقة العاملة العراقية وسائر كادحي المجتمع، لديهم مشروعهم الخاص ايضاً، انطلاقاً من حاجاتهم الذاتية، وتلبية لمطالبها بتحقيق مجتمع تسوده العدالة الرفاه الاجتماعي، وليس لمطالب غير اجتماعية سواءً أكانت داخلية أم خارجية. وهو ما يجب العمل على تحقيقه والنضال من أجله. بقيادة طبقة واعية لذاتها وتتمتع بإرادة للتغيير.