عالم أفضل ممكن
تتصاعد حالياً في قارة أوروبا موجة اضرابات واحتجاجات عارمة ضد الارتفاع الحاد في أسعار الغذاء والوقود والطاقة، وشلل المصانع والمؤسسات الخدمية والتعليمية والصحية بسبب شح الوقود وتوالي الأزمات، وعلى أثر ذلك تم تخفيض أجور العمال والموظفين، وتقليص أعدادهم، بعبارة أخرى تسريحهم من العمل دون ضمان. نتيجة عجز النظام على حل أزماته الهيكيلة والأزمات الأخيرة التي دعاها البعض تاريخية، والتي تضرب بالمجتمعات والجماهير الكادحة من جائحة كورونا إلى التغير المناخي وظاهرة التصحر وجفاف الأنهار، وآخرها المأزق الذي قصم ظهر الرأسمالية الأوروبية، تورط هذه الأنظمة الحاكمة وخصوصا الدول الصناعية الكبرى والأثرى (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) في حرب أوكرانيا، رضوخا للهيمنة الأمريكية، والتي كلفت جميع الاطراف المشتركة بهذه الحرب، الكثير، وانتقال شرارها وتداعياتها إلى جميع مناطق العالم. فضلاً عما وقع من معاناة على المجتمعات الأوروبية وتفاقم الاحوال المعيشية سوءً بعد سوئها أصلاً، نتيجة سياسات أنظمتها غير المسؤولة، تلبية لمصالحها الطبقية.
تصريحات حكّام هذه الدول، تضمّن وتعلن حقيقة واحدة لا غير بأن القادم “لا يبشر بالخير” وعلى الجميع الاستعداد للأسوأ وأخذ الاحتياط لتغيير طريقة الحياة إلى أنماط من التقشف غير معهودة على المجتمعات الأوروبية التي كابدت على مدى قرون لانتزاع نمط حياة سعيد وآمن، من خصم طبقي جشع وقاسي، بشتى الوسائل النضالية التي تحدث عنها تاريخ الصراع الطبقي المديد.
مثل تحذير محافظ بنك إنكلترا المركزي، أندرو بيلي، من أن البريطانيين يواجهون “صدمة تاريخية للدخل الحقيقي”، مع ارتفاع أسعار الطاقة هذا العام أكثر من أي عام..”
وتحذير وزيرة التنمية الألمانية سفينيا شولتسه قبل أشهر قليلة، بأن “هناك خطر اندلاع انتفاضات خبز، مثلما حدث قبل 11 عاما في العالم العربي، ومعها موجة جديدة من عدم الاستقرار” وهذا إعلان عن العجز الأكيد عن تلبية حاجات المجتمع الأساسية وفي مقدمتها الخبز في طبيعة الحال.
والخطاب الأكثر دلالة وتعبير عن عقلية الرأسمالية الغربية، تجاه المشاكل والتحديات داخل بلدانهم والأزمات التي تحيق بالعالم، خطاب ماكرون يوم الأربعاء الماضي، في قصر الإليزيه باجتماع مع مجلس الوزراء، قائلاً بدون تحفظ أو مواربة ” عهد الرفاهية انتهى ونعيش نهاية زمن الوفرة وراحة البال” ويذكّر بأن “المعارك التي يجب أن نقودها، ثقافية، حضارية، ولكن أيضا تكنولوجية واقتصادية…”. ولنا أن نسأل عن أي رفاه يتحدث ماكرون، هل نسى تظاهرات السترات الصفر على سبيل المثل؟ التي شملت كل طبقات وشرائح المجتمع الفرنسي المحرومة والكادحة ومطالبها، وحسب ما يُقال من مصادر فرنسية قد بدأت منذ عام 2008 حتى طغيان زخمها على الساحة السياسية عام 2018 وقرار إيقافها عام 2019 مع إغلاق جائحة كورونا الشامل. لم يشر في خطابه هذا أو أي خطاب آخر إلى ارتفاع تكاليف المعيشة التي تضغط على حياة الطبقة العاملة والطبقة الوسطى، بسبب سياسة حكومته الليبرالية الخانقة، مكتفياً بالتلميح بصيغة عمومية ” اللحظة التي نعيشها … قد تبدو وكأنها منظمة بسلسلة من الأزمات، كل منها أكثر خطورة من الأخرى”، مستشهدا بالحرائق الهائلة، والجفاف وسوء الأحوال الجوية، وكذلك الحرب في أوكرانيا ووباء “كوفيد -19”.
لأنه يرى كرأسمالي إن الأزمات هي أعراض لابد منها مرافقة “بالضرورة” للنظام الرأسمالي، وليست أعراض مرضية تؤدي إلى الموت والهلاك. عقلية التملك وحيازة كل شيء، كأفكار ناتجة عن علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تسعى الطبقة الرأسمالية بكل ما أوتيت من قوة من جعلها خالدة وأبدية ووحيدة، حدت به وأضرابه من حكام أوروبا إلى عدم الفهم أو تقبل وجود نظام آخر بلا أزمات.
ما يراه هو من حقائق أزلية، أو لنقل بكلام آخر أكثر ملامسة للموضوع، بأن الأزمات يمكن تعدّيها بشد الأحزمة على البطون والكوارث البيئية والحروب…الخ ليبقى النظام الرأسمالي خالداً إلى الأبد ينعم على أصحابه بالوفرة وراحة البال مع كل ظرف كان.
وهناك في المجتمع طبقات ترى العكس، بأن الرأسمالية هي مصدر أزمات دورية لا حل لها إلا بالقضاء على هذا النظام نفسه، لينعم الجميع بما تنتج أيدهم. لقد برهن ماركس بأفكاره العظيمة حول الطابع العابر للرأسمالية التي لازال يعتقد المستفيدون منها، بأنها افضل نظام يخدم المجتمع البشري، برهن بأسطع دليل إن الرأسمالية تخلق مع تطورها وتناميها عناصر وأدوات نفيها.
أن مصدر هلاك الرأسمالية يكمن في التناقض بين الطابع الاجتماعي لعملية الانتاج وشكل الملكية الخاصة، والشكل الأخير هذا للتناقض يظهر وبشكل دوري، عبر أزمات فيض الانتاج الذي يخلقه التنافس، نشهد الآن حلقة من حلقاته الأخيرة بين الدول الامبريالية فيما يُعرف بحرب أوكرانيا ومضيق تايوان المنذرة بكارثة على البشر. وتصطدم في كل مرة بتراجع قدرة الجماهير الشرائية وضنك العيش وتقلبات السوق… ينعكس ذلك ولا ريب على حياة العمال والجماهير الكادحة والمهمشين في المجتمع، وتتولد لديهم مجبرين خيارات الخلاص من أوضاعهم المتفاقمة، إن القضاء على الرأسمالية أمر يهم كل الكادحين من عمال ومزارعين، وأقسام عريضة من المتعلمين والمتقاعدين …لكن البروليتاريا هي القوة الرئيسية في المجتمع الرأسمالي.
كما أشار كارل ماركس إلى ذلك بكل وضوح بقوله:” تدخل قوى المجتمع الإنتاجية المادية، عند مرحلة معينة من تطوره، في صدام مع علاقات الإنتاج القائمة … فتلك العلاقات تتحول من أشكال تعمل على تطور القوى الإنتاجية إلى أغلال تقيد هذه القوى، عندئذ يبدأ عصر من الثورة الاجتماعية…”
لقد استنفدت الرأسمالية كل اسباب بقائها، واليوم قد غدت عالة على نفسها وعلى المجتمع البشري، لا تهدد الجماهير بالجوع والبطالة وتطالبهم بدون حياء بالتزام الصمت على الجور والامتثال للواقع، فحسب بل، تهدد الحياة والأرض التي نعيش عليها بالفناء والدمار وهذا ما هددت به وصرحت وزيرة خارجية بريطانيا، ليز تراس والمرشحة لمنصب رئاسة الوزراء،” إنها ستكون مستعدة لاستخدام الأسلحة النووية إذا لزم الأمر”.