عندما يكون الفساد إبادة جماعية!!
لم يشهد بلد من بلدان العالم حرباً تواصلت منذ أكثر من أربعين عاماً، كما شهد العراق من عمر دولته التي تسمى حديثة. حروباً بالمعنى العسكري للكلمة؛ أو حروباً بمعاني متعددة تشترك كونها، تؤدي بالناس إلى الموت الجماعي. مرة على يدِ نظام استبدادي كنظام البعث ومغامراته الحربية، وانفاله والأسلحة الكيمياوية ولإعدامات بالجملة والمفرد. وهذه المرة تحت ظل الديمقراطية التي جاء بها المارينز وتلقفها من لا يعرف للدولة أي معنى.
مع بزوغ أول خيوط فجر الديمقراطية علينا، قُسم البلد عن سابق قصد إلى كتل طائفية متقابلة، متنازعة، ومتطاحنة إلى حد التضحية بالبشر في العراق، عبر شتى الوسائل وأكثرها دموية من الإرهاب والتفجيرات اليومية، والقتل على الهوية، والمجازر الجماعية والكمائن والتغييب القسري للأبرياء… ليتمزق وتتكالب عليه القوى والإرادات والمصالح الخارجية.
ولكي تخلو الساحة السياسية للحكام الجدد (الديمقراطيين)، ويباشروا بمشروعهم السياسي الفريد، بالاستحواذ على مقدرات الدولة باعتبارها غنيمة لا أحد له حق المشاركة بمكاسبها وعائديتها إليهم حصراً.
هكذا هو فهم بطانة الكتلة الشيعية الماسكة بالسلطة، للدولة والحكم. أو هذه هي حدود فهمهم المتخلفة، هؤلاء القادمون من حضيض التخلف والمفرغين من كل ما يمت بصلة للتمدن والمعاصرة والإنسانية.
فهموا السلطة باعتبارها، وسيلة للتمول والتكسب. وحرصوا بكل ما أوتوا من قوة لتسخير، كل مفاصل وكل جزيء مهما كان حجمه يتألف منها جهاز الدولة باتجاه هذا الهدف الجهنمي. إلى درجة أصبحت أقسام المستشفى الواحد موزعة بين الأحزاب هذه، ولا يخلو مكان قطعاً من بؤر الفساد والنهب العلني. أي وزارة لم تتهتم بالفساد؟ وأي وزير أو مدير عام أو أي مسؤول بالدولة أو مسؤول حزب أو تيار أو كتلة سياسية، لم تطاله تهم الفساد واللصوصية وتظهر عليه ملفات ثقيلة وموثقة من ثروات فلكية منهوبة؟؟
حتى غدا الفساد وانعدام النزاهة صفة لا يمكن فصلها عن كل ما يمت للسلطة الحاكمة من صلة؛ بل هو جوهر النظام الحاكم وحقيقته المعبرة عن صميم العملية السياسية برمتها. من كبار تجار الدين وصنائعهم من أحزاب وزعامات سياسية، عبر خطاباتهم وفتاويهم التي لم تهدف إلا لتكريس الطائفية، وتعزيز الانقسام الداخلي والفساد بالتالي. ونهب مقدرات الدولة وخصخصتها خصخصة دينية. إلى أصغر لص قابع بين زوايا المؤسسات والدوائر الحكومية، التي جُيرتْ وحسمتْ ملكيتها لصالحهم نهائياً… كما يظنون.
أصبح الفساد هو القاعدة، والنزاهة هي الشذوذ. يسير نظام العمل بوجه عام في الدولة العراقية تحت إشراف الفساد وليس العكس؛ حيث يعتبر حالة استثنائية تتسلل خلال النظام العام في كل أرجاء العالم. إلا في الدولة العراقية تحت سلطة الأحزاب الحاكمة؛ حيث تُعتبر مؤسسات الدولة برمتها، ابتداءً من أعلى وظائف ما يُعرف بالرئاسات الثلاث والبرلمان، من الوزراء ووزاراتهم وفروعها ومديراتها، والجيش والأمن، والقضاء والكهرباء والصحة والاتصالات والنقل…الخ، حيث تُعتبر مصادر “رسمية وشرعية” لجني المال، بل عد آخرون منهم إن مقدرات، وجميع مرافق الدولة، هي سهام رزق يجب أن ينال كل فرد من الأفراد (القائمين عليها) نصيباً عادلاً من هذه الملكية البلا صاحب، أو ما يُسمى عندهم ” ما يشترك فيه الناس شركة إباحة” ولا يجوز التصرف في هذه الملكية إلا بإذن الحاكم الشرعي، أي بعبارة مباشرة؛ بالتنسيق مع كبار رجال الدين، ولنا أن نتصور كيف ستكون نتائج تصرف مثل هؤلاء الحاكمين، بملكية مباحة بنظرهم ونظر جمهورهم، التواق لمثل هذا النوع من التملك.
وماذا يا ترى كانت النتائج؟ أو، ماذا كانت آثار هذا النوع من الفساد العجيب ومخاطره على المجتمع؟؟ إن لم يكن سوى تخريب فتك بجميع نواحي الحياة العامة ولم ينجُ منها أي جانب من حياتنا على الإطلاق.
لا يمكن إحصاء أو عد ملفات (منظومة الفساد) المترابطة بين مكونات ائتلاف السلطة، أو حتى اختراقها. لأنها محمية من مكاتب كبار رجال الدين، ومن أحزاب وميليشيات مسلحة. وحكومات وجهات رسمية ومالية دولية.
فمن أي مكانٍ نبدأ؟ مثلاً: من صفقات السلاح رديئة النوعية والمبالغ بأسعارها، من قطاع الكهرباء ونهب عشرات المليارات من صفقات وهمية، من نهب المصارف والادعاء بغرقها، من صفقات عقود النفط وتهريبه، أو من الاستيلاء على الأراضي والعقارات الخاصة والتابعة للدولة، أو صفقات طباعة المناهج الدراسية، أو من صفقات التجهيزات الطبية والأدوية الفاسدة، أو من عشرات الآلاف من الأسماء الوهمية في الجيش والداخلية والاستيلاء على رواتبهم، أو من صفقات الأطعمة الفاسدة الخاصة بمفردات البطاقة التموينية…الخ وإلى أي مكان سوف ننتهي أو لا ننتهي من قصص وملفات مكشوفة وغير مكشوفة بعد.
وماذا سيترك ورائه تسونامي الفساد هذا من أثر على المجتمع؟ سوى استمرار انقطاع التيار الكهربائي منذ عشرات السنين، ضعف الأجهزة الأمنية وفشلها بواجباتها المفترضة، ارتفاع الأسعار برمتها بعد عجز الحكومة من معالجة الأزمة المالية بسبب نهب عائدات النفط، ارتفاع نسب البطالة إلى حدود خطيرة للتعمد في تعطيل الصناعات والمشاريع الإنتاجية والتلكؤ في خطط البناء والإعمار ونهب مخصصاتها، وحصر التعينات على أساس المحسوبية الحزبية…، الاستيلاء على الأموال المخصصة للنظام التعليمي وتحديثه، مما أدى إلى تراجعه إلى مديات متردية، مثل ما شهد التعليم شهدت صيانة مرافق ومؤسسات والصحة، وواحدة من أكبر نتائج ذلك ما شهدناه في الآونة الأخيرة، من تكرار الحرائق بالمستشفيات وكيف أدت إلى مقتل مئات المرضى ومرافقيهم ومن الكوادر الصحية، في بغداد وفي الناصرية. وألهبت وجدان الناس حسرةً وألماً لهذا الفقدان والخسائر بين البشر، من اللهيب الذي أشعله هذا الفساد.
وكما حصل من دمار ونهب للبنية التحتية للبلد، ينطبق الشيء نفسه من دمار وتخلف على البنية الفوقية الثقافية وتراجع القيم الحضارية والإنسانية، إلى مستوى مؤسف.
إذا كان يعتبرون الدولة بكل مؤسساتها ومقدراتها (غنيمة باردة) كما يقال، ومن دون أدنى شعور للندم ممكن أن يصدر منهم. على ما اجتاح العراق وجماهيره الكادحة والمحرومة، وسائر شرائج المجتمع المرهقة، من هذا الطوفان الجارف لمقومات وأسباب معيشتهم وأمانهم ومستقبل الأجيال القادمة. فأنه في الوجه المقابل كان بمثابة” إبادة جماعية” متواصلة منذ أول من أيام وجودهم بالسلطة إلى الآن، من الاقتتال الطائفي والتفجيرات الجهنمية، والمذابح الجماعية، والاغتيالات والتغييب القسري، وهدم مدن بالكامل، وحرق الدوائر والمؤسسات والمستشفيات، ونقص الخدمات من ماء وكهرباء…، وبطالة موجعة للشبان والشابات، وفرض قيم التخلف والرجعية على الجميع كمظاهر لنظام حكمهم المقدس.
هكذا هم أرادوا الدولة أن تكون، لكن إرادة الجماهير وتطلعها المشروع لحياة ينعمون فيها بالرفاه والاستقرار المعيشي والأمان وضمان مستقبل أجيالهم القادمة، هي غير إرادتهم وقد رفعت رايتها بإصرار ورغبة بالحياة واضحة حتى إليهم هؤلاء مناهضي الحياة. وقد بدأ العد التنازلي لنزوحهم من مسرحهم الكئيب، وإسدال الستار عن مهزلتهم نهائياً.