عن سنوات الصراع الطبقي في السودان
من القوانين العامة في طبيعة الطبقات البرجوازية الحاكمة، سعيها المحموم لتدمير كل من يعترض سبيل سيادتها بالمجتمع، مهما كان الثمن، ومهما كانت التضحيات وإن ضُحي بالعالم والبشر من بعدها. ضاربة عرض الحائط كل حق لغيرها من الطبقات الاجتماعية الأخرى، بالعيش الكريم والحياة المستقرة وعالم لا يهدده الزوال. مسخرة كل ما تملكه من أدوات القوة المادية والنفسية لهذا الهدف الوحيد، وتأبى أن تقتنع ولو للحظة واحدة بأن عهدها التاريخي قد ولى.
تحتج الطبقات المحرومة على الظلم، وعلى التفاوت الطبقي والاستغلال، مطالبة لوضع حدٍ لهذه الانتهاكات التي لا لزوم لها إلا في حسابات البرجوازية. لا يتعدى يوم واحد لا يمكن أن نشاهد أو نطالع أو نسمع عن الاحتجاجات والتظاهرات والانتفاضات في كل بلدان العالم ومدنه ومناطقه الكثيرة على الطبقات البرجوازية الحاكمة، التي تدير المجتمعات البشرية وفق قوانينها التي صاغتها ترسيخا لمصالحها الحصرية.
منذ ما يزيد من عقد من الزمن اشتعلت منطقتنا بسلسلة من الانتفاضات والاحتجاجات الواسعة، والتي جاد الإعلام الرأسمالي العالمي عليها بألقاب ملونة وشملها بعنوان عريض باهت (الربيع العربي) والتي أدت، في واحدة من نتائجها لإسقاط حكوماتها وتغييرها وتلطيف بعض قوانين الحكم. ولكن وكما يقال ” لا زالتْ الشوكة باقية في الجسد”، لم تُحل المشكلة الأصلية التي انطلقت من أجلها الجماهير منتفضة وقدمت التضحيات الجسيمة؛ لإرساء عالم جديد يضمن تغيير حياتها تغييرا حقيقيا وجذريا، بلا استغلال ولا حرمان من حقوق.
انتفضت الجماهير بدءً من تونس ومصر وليبيا والعراق والسودان ولبنان واليمن…وارتد زلزالها الى كامل المحيط العربي والاقليمي وحتى انعكست تأثيراتها على بعض المناطق بالعالم، ولا زالت حمم منها ساخنة لا يفتر أوارها كما هو الحال في السودان الآن، والتي لما تزل بعد في طور التحقيق.
مر عقدٌ من الزمن على انتفاضة السودان، والانعطافة الأخيرة قبل عامين بإسقاط حكم الاخوان المسلمين برئاسة عمر البشير؛ كانت بمثابة ضربة قاصمة للنظام وبإرادة الجماهير وليس بناءً على مطالب خارجية، وتُعد أيضا رسالة موجهة للعالم بأن تغيير الأنظمة ممكن فيما إذا قررت الجماهير ذلك، أي حسب القاعدة الماركسية التي توجب على الطبقة المسحوقة الاعتماد على الذات، وعلى ذاتها وقدراتها الجبارة حصراً.
إلا إن قيادة الانتفاضة السودانية وطيفها الواسع المؤلف من عشرات الاحزاب، بما فيها الحزب الشيوعي واتحاد المهنيين الذي تنضوي تحت مظلته العشرات من النقابات المختلفة، وجماعات سياسية أخرى، جميعها تدور في الفلك البرجوازي ولا تدفع بحكم طبيعتها الطبقية، بالصراع الطبقي إلى أفقه المفتوح، بل تظل عند حدود تغيير شكل الحكم للاحتفاظ بمحتواه الطبقي، وتنشد الشراكة بالسلطة وإدارة الحكم، ليس غير.
وفي مقابل الطبقة البرجوازية السودانية، سواءً أكانت حاكمة أم معارضة، هناك جبهة الجماهير المحرومة من عمال وموظفين وأرباب حرف، وملايين من مسحوقي المدن والأرياف… ناضلوا بطريقته المباشرة جور الطبقة الحاكمة، وبوعيهم الطبقي المحدود نظم قسم من العمال انفسهم في مجالس عمالية في المصانع، كما شكّل الأهالي في المقاطعات السكنية في الريف أو المدينة، بما يشبه مجالس الإدارة البلدية للوحدات السكنية.
تحالف الإسلاميين والعسكر لا يريد أن يخلي الساحة، وكطبقة حاكمة خبيرة وتمتلك أدوات السلطة، تعرف كيف تعود للسلطة من مختلف الأبواب المشرعة أمامها، مثلما عاد العسكر بقيادة (البرهان) تحت شتى الحجج والافتراضات الكاذبة، للاحتفاظ بالسلطة الطبقية، وليس لدوافع الحفاظ على أمن السودان وضياع مكاسب الانتفاضة، فكان هو ومجموعته، أشد قسوة وتنكيل من (البشير) على الجماهير، وما انقلابه الأخير إلا نتيجة لإحساس هذه الجماعة من ضياع مصالحهم ومكاسب الوشيك، على يدي حكومة (حمدوك). وبعد تفاهم بين الجماعتين وضغط إقليمي ودولي تصالحا ويصرح (حمدوك) العائد للسلطة بأن عودته جاءت: “للمحافظة على المكاسب الاقتصادية…” وأي مكاسب اقتصادية هذه سوى مكاسبهم الطبقية وعدم إغفال نصيب العسكر، من أمول البلد ومن نهب قروض صندوق النقد الدولي، الواضح من خلال تلفيقه في إشارة له بهذا الخصوص قائلاً:” أننا ملتزمون بالمسار الديمقراطي والحفاظ على حرية التعبير والتجمع السلمى وانفتاح أكبر على العالم”.
المسار الديمقراطي معناه إدارة السلطة مشاركة بين حكومته والعسكر، واطراف برجوازية أخرى، وحرية التعبير والتجمع السلمي واضح الحفاظ عليها، فيما شاهدناه علانيةً لعدد الضحايا إطلاق الرصاص على المتظاهرين السلميين وقطع الانترنت والزج بالسجون … والانفتاح على العالم يقصد الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي، وتوجيهات الرجعية العربية وإملاءات الغرب.
جماهير السودان نساءً ورجالً، أظهروا شجاعة وبأس في مواجهة الإخوان والعسكر، تتجلى يوميا أمامنا صورها الرائعة، المثيرة لإعجاب العالم التواق للحرية والكرامة الإنسانية. لكن الشجاعة وحدها لا تكفي في بعض الظروف، ولابد لهذه الشجاعة والبأس من تحقيق أهدافها من تملّك أدوات أكثر بأسا إن لم تكن نظيرةً لما يملكه العدو. هنا يتوجب على السودانيين تصعيد نضالهم الطبقي لأن كل ذلك الانجاز والتضحيات سوف تسحقها الثورة المضادة بسهولة ويسر، لأنه كما يقول كارل ماركس فيما معناه ..الابتعاد في الثورة عن الطبقة العاملة فأن سقوطها مسألة وقت، ويشرح تروتسكي من بعده ذلك:” تعني الثورة تغييراً للنظام الاجتماعي. إنها تنقل السلطة من أيدي طبقة أنهكت إلى أيدي طبقة أخرى صاعدة. وتشكل الانتفاضة اللحظة الأكثر حرجاً وحدة في صراع الطبقتين من أجل السلطة. ولا يمكن للانتفاضة أن تؤدي إلى انتصار الثورة الحقيقي والى قيام نظام جديد إلا في حالة استنادها إلى طبقة تقدمية قادرة على أن تجمع حولها أغلبية الشعب الساحقة”. وفعلا استطاعت الانتفاضة السودانية لحد الآن أن تجمع الجماهير المحرومة والمسحوقة، وما ينقصها صوب هدفها النهائي، أو آن الأوان إلى ظهور حزب عمالي بدلاً من نقل السلطة من يد برجوازية إلى يدٍ أخرى برجوازية، ينقلها إلى يدي الطبقة الوحيدة في المجتمع والتي مهمتها التاريخية القضاء على كل استغلال وتفاوت طبقي، الطبقة العاملة السودانية وغالبية الجماهير الساحقة بحاجة إلى هذا الحزب.