غزة وتنامي وعي عظيم!*
خالد حاج محمدي
كمونيست: ان دعم الحكومات الغربية غير المشروط، وبالاخص أمريكا، وسكوتها عن أعمال القتل التي ترتكبها اسرائيل تحت اسم “حق الدفاع عن نفسها”، وما رافقه من تأييد الأمم المتحدة لعملية القتل في الاسبوعين الأولين ومعارضة أمريكا وأوربا لإيقاف الهجمات على قطاع غزة وقصفها، وتحول مجمل وسائل الإعلام الرسمية الغربية الى مراكز دعائية لحرب حكومة اسرائيل قد جابهه سخط وغضب ورد فعل شديد وواسع للجماهير المحبة للانسان على صعيد العالم ككل. وانطلقت حركة عالمية ضد عملية الإبادة الجماعية ودفاعاً عن جماهير فلسطين. كيف ترى أبعاد وعمق هذه المجابهة وتاثيرها على صلة الجماهير بالحكومات الغربية ودعم الغرب لاسرائيل؟
خالد حاج محمدي: ان هذا تحول عظيم جداً، وبينت فلسطين والأحداث الأخيرة عن عمق هذا الابتعاد والفاصلة وأبعاده الكبيرة والعالمية.
ان هذا التطور يجري من منذ مدة. إذ بدأت، ومنذ مدة بعيدة نوعاً ما، عدم ثقة بدعاية وإدعاءات الحكومات ومنابرها الإعلامية تحت إسم “الإعلام الحر” في تدخل الناتو في سورية وليبيا وفي تسليم افعانستان الى طالبان وفي حرب العراق وإحتلاله و…غيرها. لقد أطلقت فلسطين رصاصة رحمة على آخر هذه التوهمات. وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تعد تحت مقصلة رقابة الحكومات بصورة تامة بعد، إنهار الجدار الحديدي للتزوير والكذب والدعاية المغرضة التي تقوم بها الحكومات وإعلامها الرسمي، ورأت الجماهير اليوم الحقيقة والأحداث دون رقابة وبكل سوداويتها. إذ ترى الجماهير في البلدان الغربية دور حكوماتـ”ها” “الديمقراطية” و”المتمدنة” في تنظيم وشن ودعم أعمال القتل والابادة الجماعية في أنحاء العالم. كما تجد اليوم مقابل كل منبر رسمي وترهات أنواع من “أصحاب الميادين” و”الأخصائيين” الذين يبررون هذه الجرائم مئات وآلاف الناشطين الراديكاليين والمتمدنين والمحبي للانسان وبالأخصائيين كذلك بأبعاد أوسع من الإعلام الفاسد يتحدثون للناس بالحقائق. ان قلعة الرياء والكذب “العصية عن الاحتلال” هذه في حالة إنهيار منذ أمد. سُحِبَت الجريمة المرتكبة بحق جماهير فلسطين آخر حجارها.
في الوقت ذاته، أصبحت الإحتجاجات على إنعدام الحقوق والفقر والبطالة والغلاء و التعامل غير المسؤول للحكومات في الغرب وتهشم البنى التقليدية ظواهر جديدة. للطبقة العاملة وجيل الشباب ثقل أساسي في الصدح بـ”لا” و”لانقبل بعد” هذه.
ينبغي أن لا يغيب عن بالنا ان “ازمة المشردين جراء الحروب” ودور الحكومات الغربية في الحروب المتواصلة للمنطقة، وبعدها، “أزمة اوكرانيا” بمجمل ابعادها عن إنعدام المسؤولية لدى الحكومات الى تأثيراتها الإقتصادية والإجتماعية على العالم لم تنتهي بعد، حتى رأينا حرب روسيا واوكرانيا على قرع طبول الحكومات الغربية للحرب بإسم “خطر هجمة روسيا على أوربا” التي أخلت خزائن البلدان وملئت جيوب صناعة الاسلحة والضغط الاقتصادي على الجماهير بإسم تأمين أمانهم و… الخ. ان الجماهير، بالأخص في البلدان الغربية، وبعد مرحلة من خروجهم من عباءة دعايات الحكومات ومناهضة الحرب، نزلت الشوارع ضد هجمة الحكومات على مائدتها بحجة “الدفاع عن الديمقراطية الغربية”. عمّقت كل من هذه الازمات من الشق ما بين الجماهير والحكومات في الغرب شيئاً فشيئاً. ان الشق ما بين الجماهير في البلدان الغربية يقترب أكثر وأكثر من درجة ابتعاد الجماهير عن الحكومات في الشرق الأوسط.
بعد انهيار الكتلة الشرقية، وبعد سقوط جدار برلين وقرع طبول “نهاية الشيوعية” وأي من أشكال العدالة العمالية التي حمل رايتها القطب المنتصر، أي السوق الحر بقيادة أمريكا وبراية الديمقراطية، تعاظمت يوماً بعد آخر مرحلة تصدع الثقة بالقطب المنتصر نظراً للوحشية والبربرية التي فرضها والحروب المدمرة التي شنّها. ان الجماهير على حق حين أعتقدت ان مجمل هذه الجرائم والحروب والأزمات والدمار والقتل والتشرد هي حصيلة “الديمقراطية الغربية”.
ان الجنّة الموعودة للحكومات الغربية وإنتصار السوق والديمقراطية الغربية لم يجلبا سوى الحرب والقتل والدمار، سوى التشرد الواسع لعشرات الملايين، سوى الفقر والحرمان والجوع حتى في الغرب نفسه. لم يستغرق وقتاً طويلاً تبين إخفاق نصرهم المُرفق بالدعايات العريضة للغرب وإنتصار وهلاهل إنتصار “الحق على الباطل” و”الديمقراطية على التوتاليتارية-الشمولية” و”الغرب المتمدن على الشرق المتخلف وعديم الثقافة”، ومعه أنواع من الغطرسة والعسكرتارية والقتل والهجوم والجريمة في الشرق الاوسط وافريقيا والهجمة المنفلتة على مكاسب الطبقة العاملة في الغرب نفسه وبين عن ملامحه الواقعية. وهو الأمر الذي قوبل بعد مدة قصيرة بتصدي الطبقة العاملة والجماهير في الغرب نفسه والعالم للغرب وهذه الحكومات.
في حرب اوكرانيا، كانت دعاية وسائل الإعلام الغربية مؤثرة قصيرة وعابرة. كانت دعايات تستند الى مناهضة الروس ونفخ العنصرية، وان جميع المصائب التي جلبها هو نفسه، اي الغرب، ورماها على راس الطبقة العاملة والجماهير في الغرب وألقاها على كاهل بوتين وروسيا. لقد علّقوا أعلام اوكرانيا في كل مكان، واصبحت الروسية في الغرب جرم، ولم يُفسح المجال أمام الرياضيين “الروس” في المسابقات الرياضية، وأُلغيت حفلات الفنانين وفرض الحصار على روسيا بوصفها محور شر وخالق جميع المصائب في الغرب، واشاعوا خطر هجمة هذه “الامبراطورية” على المانيا وفنلندا وغيرها. لقد تم تبرير التسابق للأنضمام الى الناتو وسوق انتاج وبيع الأسلحة وتخصيص ميزانيات عسكرية ضخمة في البلدان الاوربية تحت اسم مخاطر “حملة” روسيا.
بيد ان الحقائق الواقعية حطمت هذه الموجة من الاغتراب والوعي المقلوب فوراً، وشرعت موجة معاكسة ضدها. وأخفقت فوراً بالأخص التقييمات السطحية والانتقائية في الغرب التي تتحدث عن هزيمة روسيا في غضون اربعة ايام ويبلغ الناتو المجد وغنقلبت ضدها. في خضم مثل هذه الأوضاع وهزيمة النزعة العسكرتارية الغربية والمعضلات المذكورة، أثيرت قضية فلسطين بسرعة في خضم عملية إبادة جماعية كبيرة، وبالدعم الرسمي والمخزي للحكومات الغربية ووسائل اعلامها، وإحتشدت الجماهير المتمدنة في أنحاء العالم ضد هذه الجريمة. ان مدى ونطاق كذب وسائل الاعلام والحكومات كانا بحدٍ من الخزي، وان حجم الجريمة والقساوة والألم بحدٍ بحيث لم يبق انساناً عادياً يتمتع بذرة من الانسانية ان يتخذ موقف اللامبالاة تجاه ما يجري. زد على ذلك، ان قضية فلسطين والتعاطف مع حل هذه المعضلة التأريخية ومطلب خلاص جماهير فلسطين من الوحشية والتمييز الذي تمارسه دولة اسرائيل، وبخلاف التقييمات المتهالكة للحكومات الغربية لهو عميق جداً. ان الاحساس بمصائب جماهير فلسطين والسياسات الفاشية لدولة اسرائيل هو من الناحية التاريخية والتقليدية عالي جداً. إذ نشهد اليوم إتساع هذه الحساسية والتعاطف الى امريكا واستراليا واليابان وسائر بلدان العالم. ومثلما ذكرت ان تنامي التكنولوجيا والإتصالات السريعة دمّر الجدار العريض لرقابة الاعلام الرسمي وغدا وصول البشرية الى الحقائق أكثر شمولاُ مقارنة بالسابق. لقد تحولت الحملة الواسعة للجيش الاسرائيلي ووحشيته الهائلة الى نقطة انفجار وجر العالم للحرب ضد مجمل البنية والحكومات الغربية. ان ما نشهده اليوم في العالم كله، وبالاخص في اوربا وامريكا، هو نهضة (رنسانس) عظيمة ضد عقود من نشر البلاهة والرياء من قبل القوى اليمينية وضربة موجهة شاملة للقوى الحاكمة في العالم وفي الغرب ومؤسساتهم الخاصة باشاعة الاكاذيب. ورغم ان تحقق هذه الظاهرة، للاسف، قد جرى في ظل عملية ابادة جماعية كبيرة تجاه جماهير فلسطين، ولكنها لن تبقى مقتصرة مطلقاً على فلسطين وحل هذه المعضلة. ان هذه صحوة عالمية ضد مجمل القيم الكاذبة والمعايير المزدوجة والمؤسسات المصطنعة والاستعراضية والشكلية حول “الدفاع” عن حقوق الانسان وضد انعدام حقوق الانسان في الغرب، بالاضافة الى تصدع قصر البرجوازية الغربية بادعائات “العدالة” وهجمة عليها. إذ تعني “الديمقراطية الغربية” اليوم الحرب والدمار والقتل العام، بالاضافة الى الكذب والتبليه، كما انها لم تعد مُعطى وبديهية لجماهير العراق وافغانستان وغيرهما. بل تحولت هذه الحقيقة اليوم الى معطى وبديهية قسم واسع من جماهير البلدان في الغرب. من حق جماهير البلدان الغربية ان تتحدث عن ان القول الأول والأخير في “الديمقراطية” الغربية هي الاسلحة!
وعليه، انها نهضة عميقة. فلا تنشد مئات الملايين اليوم في انحاء العالم، وبالاخص في الغرب، انهاء القتل والجرائم في فلسطين فحسب، بل زد على ذلك تنشد انهاء الحرمان من الحقوق وانهاء الفقر والبربرية الذي تمارسه حكوماتها عليها.
*خالد حاج محمدي رئيس اللجنة القيادية للحزب الحكمتي (الخط الرسمي). النص هو رد على سؤال في مقابلة اوسع واكثر تفصيلاً نشرت حديثا حول أوضاع غزة في جريدة “كومنيست ماهانه” (الشيوعي الشهرية) للحزب. العنوان من (الى الأمام). (الى الامام)
ترجمة: فارس محمود