توما حميد
أعلنت حركة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، يوم 14 تشرين الثاني عن غلق مضيق باب المندب (المرر المائي الضيق بين اليمن وجيبوتي في جنوب البحر الأحمر) امام حركة السفن التي تمتلكها او تشغلها اسرائيل وتلك المتعاملة معها، أي التي تبحر من والى موانئها. لقد قامت بالفعل بشن سلسلة من الهجمات على السفن في البحر الأحمر.
يجدر الإشارة بان البحر الأحمر ممر بحري مزدحم، اذ يمر خلاله 12% من النفط العالمي الذي ينقل بحرا و8% من الغاز الطبيعي السائل وأكثر من 20% من تجارة الحاويات.
لقد وضعت هذه الحركة التي تعتبر حكومة امر الواقع في أجزاء كبيرة من اليمن، كل الغرب في مازق محرج جدا.
لهذا العمل عواقب هائلة على الاقتصاد العالمي وسوف يؤدي الى نمو وتيرة التضخم من جديد إذا استمر هذا الوضع. ولكن الأهم من هذا هو انه يعكس محطة مهمة في مسيرة عملية صعود عالم متعدد الأقطاب.
في خضم احداث انهيار القطب الشرقي وانتهاء الحرب الباردة، عندما كان هناك اعتقاد ساد بان عالم القطب الواحد سيحكم العالم لفترة طويلة، وبانه ليس لقوة أمريكا من حدود، اشار منصور حكمت بان عالم القطب الواحد لن يترسخ ولن يدوم. لقد بدأت مسيرة انهياره منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، ولكن تسارعت هذه العملية في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ الحرب في أوكرانيا. لقد فشل الغرب مجتمعا في هزيمة روسيا. لقد فشل الحصار الاقتصادي لحد الان فشلا ذريعا. اذ يشهد الاقتصاد الروسي نمو بمعدل 3.5%، وقتل أكثر من 400 ألف جندي اوكراني وجرح ما يقارب المليون، وتم تدمير اقتصاد هذا البلد ولم تفيدهم كل الاسلحة التي زودها الغرب. اذ تم تدمير معظم الأسلحة الغربية، وقد استنفذ الغرب ما عنده ليعطيه لأوكرانيا التي بات انهيارها مسالة وقت. وفي السنتين الأخيرتين، فاق اجمالي الناتج القومي لدول مجموعة بريكس المؤلفة من خمسة دول، أي قبل ضم الأعضاء الجدد، اجمالي الناتج القومي لدول مجموعة السبع. كما تمكنت برجوازيات عدة دول افريقية من الخروج من قبضة الغرب من خلال ترتيب انقلابات عسكرية على الأنظمة الحاكمة الخاضعة للغرب.
ان قيام الحوثيين بهذا العمل هو لأهداف منها كسب التأييد الداخلي في اليمن، اذ ان الجماهير في اغلب دول العالم والمنطقة هي بالضد من جرائم الدولة الإسرائيلية. كما ان هذا العمل سوف يعزز مكانة الحوثيين فيما يسمى ب “محور المقاومة” الذي يشمل إيران وسوريا وحزب الله والمليشيات في العراق التابعة لإيران والحوثيين في اليمن والفصائل الفلسطينية”. وسوف يعزز مكانة هذه الجماعة على المستوى الدولي، وخاصة كأداة في يد القطب المعادي للغرب. بهذا العمل لم يعبر الحوثيون عن الدعم للفلسطينيين ومعاداة إسرائيل من خلال الاقوال فحسب كما هو حال بقية أطراف “محور المقاومة”، بل من خلال العمل أيضا من خلال قصف ايلات وغلق مضيق باب المندب.
لقد أعلنت أمريكا تشكيل تحالف بحري متعدد الجنسيات ضد الحوثيين لضمان حركة التجارة البحرية باسم تحالف “حارس الازدهار”.
اكدت أمريكا بان عشرين دولة من ضمنها كل من بريطانيا والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وإسبانيا وسيشل واليونان وأستراليا انضمت لهذا التحالف. ولكن 8 بلدان من مجموع عشرين دولة رفضت الإعلان عن مشاركتها، وقالت دول أخرى إن مشاركتها في حماية التجارة في البحر الأحمر ستأتي في إطار اتفاقات بحرية قائمة بدلا من عملية جديدة تقودها أمريكا. ولكن تبين بان بريطانيا تشارك بمدمرة واحدة، وهي عرضة لعطلات متكررة، ومشاركة كندا مثلا تقتصر على ثلاث اشخاص من البحرية الكندية، والشيء ذاته ينطبق على دول اخرى.
ومن المهم الإشارة الى ان الدولة العربية الوحيدة الت شاركت في التحالف هي البحرين التي ليس لها قوة بحرية والتي توصف كموقف يركن فيه الاسطول الخامس الأمريكي، وهو رد جميل لقمع الانتفاضة التي حدث في 2011 بمساعدة السعودية وبماركة أمريكا والغرب.
ان ضعف هذا التحالف يعكس من جهة ضعف الغرب وعدم الانسجام داخل صفوفه وعدم الثقة بقيادة أمريكا. ويعكس بشكل واضح عدم قدرة أمريكا على تشكيل جبهات عالمية قوية كما حدث في الحرب ضد العراق في عام 1991. ومن جهة أخرى، ان هذا الضعف ناتج من طبيعة العملية والاحداث الحالية في فلسطين. بغض النظر عن رأينا بجماعة أنصار الله، وبغض النزر عن أهدافهم الحقيقية، الا ان مطالبهم ليست غير منطقية، اذ يطالبون بوقف المجازر ضد سكان غزة والسماح بدخول المساعدات الى القطاع.
في النهاية ان هذا التحالف ليس بالقوة التي يصورونها وفي صفوفه شقوق كبيرة، وفي النهاية ان هذا التحالف يعني ان مشاركة أمريكا واغلب الدول الأخرى هي رمزية للغاية.
وجدير بالذكر أيضا، ان هذا التحالف لا يبث الاطمئنان لدى شركات النقل البحرية، اذ اغلبها بدأت تلتجا الى طرق بديلة مثل الالتفاف حول افريقيا او استخدام النقل الجوي. وانخفض حجم المرور في البحر الاحمر بمعدل 35% علما ان الحوثيين لا يستهدفون الا جزء قليل من الملاحة.
ان مازق أمريكا يكمن في انها تواجه الخيارين أحلاهما مرّ. فاذا لم تنفذ تهديدها بضرب الحوثيين سيؤثر هذا على مصداقيتها ويعكس عجزها في مواجهة قوة هي ليست حتى دولة، وستنهار ادعاءاتها بحماية التجارة الدولية بما فيه مضيق هرمز. وإذا نفذت التهديد وشنت الحرب على الحوثيين لن يكون بإمكانها هزيمة هذه الحركة. بإمكان أمريكا التسبب في اضرار كبيرة، ولكن لا يمكنها النصر. أي تدخل سوف ينتهي الى نتيجة يمكن تفسيرها بسهولة كنصر للحوثيين. اذ ليس بإمكان امريكا القيام بتدخل بري ضد الحوثيين الذين يمتلكون أكثر من 100 ألف مقاتل متدرب بشكل جيد والكثير منهم اكتسب خبرة قتالية خلال الحرب التي بدأت في 2014. ان كل القوى العسكرية الامريكية في الوقت الحاضر هي 472 ألف عسكري. لا يمكن نقل عدد كافي منهم الى الأراضي اليمنية لشن حرب برية ضد الحوثيين. وحتى إذا تم الامر، لن تكون النتيجة افضل من مثيلتها في العراق او أفغانستان. من جهة أخرى، ان القصف الجوي ضد الحوثيين سيكون غير مؤثر لعدم وجود اهداف عسكرية ثابتة يمكن قصفها. وقد تأقلمت جماعة أنصار الله مع القصف الجوي خلال التسع سنوات الماضية، حيث تعرضت الى 24 الف عملية قصف جوي بنفس الطائرات والقنابل والصواريخ الامريكية. لقد حاولت السعودية هزيمة الحوثيين بالسلاح الأمريكي ذاته وفشلت. ان تغيير الجنود السعوديين والأمارتين بالجنود الأمريكيين لن يأتي بنتائج أفضل. ولن يكون بإمكان أمريكا ادامة حملة قصف لنقص العتاد. كما ان أي مواجهة مع الحوثيين سوف تكون كارثية من الناحية الاقتصادية والعسكرية، فعدا غلق المضيق بشكل كامل، ان الحرب ستعني إطلاق أمريكا صواريخ تتراوح أسعارها بين 1-6 مليون دولار لمواجهة مسيرات تكلف بين 2-10 الف دولار. كما ان الحوثيين يعلمون جيدا ان مخازن الحاملات الامريكية من الصواريخ المضادة للصواريخ والمسيرات محدودة، وليس لأمريكا القدرة على إعادة تزويدها بالذخيرة بشكل سريع يمكن ادامته. من جهة أخرى، هناك دائما احتمال ان يتمكن الحوثيين من إطلاق عدد كبير من الصواريخ والمسيرات في ان واحد يفوق قدرة السفن الحربية الامريكية على مواجهتها مما يعني إصابة هذه السفن وحتى خطر اغراقها. ان قيام الحوثيين بشيء عملي ” لنصرة غزة” هو ليس لان حسهم القومي والديني تجاه غزة هو اعلى من بقية أطراف “محور المقاومة”، بل هو لأسباب موضوعية تمكنهم من التحرك، وليس هناك الكثير ليفقدوه في حين هناك الكثير من المكاسب.
رغم ما يقال فان جماعة الحوثيين حصلوا ويحصلون على إمكانات عسكرية واستخباراتية من دول مثل إيران وربما حتى روسيا. اذ ان قدرتهم على كشف محاولات الإسرائيليين للتمويه والتهرب من خلال رفع اعلام دول أخرى واستخدام طواقم اجنبية تدل على قدرة استخباراتية عالية.
لهذه الاسباب من الحماقة ان تخوض أمريكا في مواجهة مع الحوثيين. انها خسرت المواجهة في اللحظة التي بدأت بتشكيل تحالف دولي لحماية الملاحة.
ان خيارات أمريكا قليلة جدا. رغم كل التحاليل التي تتحدث بان أمريكا حشدت قوتها البحرية وعززت قواتها المتواجدة في المنطقة من اجل شن حرب واسعة في المنطقة بما فيه مهاجمة ايران الا ان الواقع يشير الى ان حشد السفن الحربية في المنطقة كان بهدف ردع قوى مثل حزب الله وايران من الدخول في الحرب. ان احتمال لجوء أمريكا وحتى الغرب بشكل جمعي الى خيار الهروب الى الامام من خلال توسيع رقعة الحرب عن طريق توجيه ضربات الى ايران وهو ما تريده إسرائيل هو احتمال ضعيف جدا وهو خيار بمثابة انتحار. لا يمكن احتلال إيران بالقوة التي لدى الغرب. كما ان اللجوء الى ضربات جوية محدودة لا يمكن ادامتها، يعني تعرض إسرائيل وكل القواعد الامريكية في المنطقة التي تأوي حوالي 70 الف عسكري الى التدمير وتعرض مضيق هرمز الى الغلق الامر الذي سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي. اذا لم يكن بإمكان الغرب منع الحوثيين من غلق باب المندب، فكيف يمكنه منع ايران من غلق مضيق هرمز، مهما كان نظام ايران مكروها داخليا؟
الخيار الاخر لأمريكا هو اصدار امر الى حكومة نتنياهو لوقف العمليات العسكرية في غزة والسماح بدخول المساعدات، ولكن لا يبدو بان بإمكان أمريكا لسبب او لأخر ان تلجأ الى هذا الخيار.
ان الخيار الأفضل لأمريكا هو القيام بلا شيء وتحمل عمليات الحوثيين وانتظار ان تنهي إسرائيل عملياتها في غزة.
حرب أوكرانيا قد زعزعت مكانة أمريكا والغرب وغلق مضيق باب المندب من قبل الحوثيين قد فضح ضعف أمريكا والغرب وسوف يعجل من هبوط مكانتهم. والعالم باسره يدخل مرحلة قاتمة من عدم الاستقرار السياسي وخطر الحروب، والإرهاب الدولي مثل تفجير السير الشمالي وسدد الممرات المائية، والتغير المناخي، والأزمات الاقتصادية التي تتعمق الخ. وللأسف لايزال البديل الاشتراكي غير حاضر بقوة لبدء انهاء هذه الوضعية.