فتيات “التيك توك” : عن حراس الأخلاق وعن الوجه القبيح للسلطة
“ليه الافترا والتلفيق ده. يعني إيه أنا بتاجر في الناس ، يعني إيه وحدة عمرها 19 سنة بتقلها بتتاجري في الناس. أنا معرفش الكلمة أصلاً، دي كلمة كبيرة قوي…”
بحالة بكاء وضياع ظهرت الشابة حنين حسام بعد إعلان الحكم عليها وعلى مودة الأدهم بالسجن عشر سنوات في القضية التي باتت معروفة باسم فتيات “التيك توك”.
طرحت الشابة في فيديو قصير لها أسئلة بحرقة، فهي لم تفهم بعد لماذا حلّ بها ما حصل من هذه الملاحقة والشيطنة هي ومودة وهما لم تفعلا سوى أن شاركتا تطبيقاً يعمل بشكل قانوني في مصر ودول عديدة.
ومودة وحنين فتاتان حققتا شهرة خيالية في بلد لا يسمح للنساء بالشهرة أو النجاح أو التقدم مهنياً واجتماعياً من خارج منظومته الأبوية والرعائية، ويمارس سطوته عليهنّ بجميع السبل الممكنة، بدءاً من التحرش حتى الأحكام القضائية. وفي مصر، لا تسأل عن العدل. العدل هنا هو ما تريده السلطة وتقرّه الأعراف، مهما بدا مخالفاً للمنطق أو العدالة أو روح القانون أو القانون نفسه. وهو ما بدا صارخاً في الأحكام، التي صدرت بحق الفتاتين المصريتين حنين حسام ومودة الأدهم المعروفتين بفتيات “التيك توك”، المتهمتين بالاتجار بالبشر.
ولأن الاتهام لا يقبل أن ينفذه شخص بمفرده، فكان لا بد من شبكة تدير عمليات الاتجار بالبشر، وهذه الشبكة تتكوّن من حنين ومودة، اللتين اعتبرتهما هيئة المحكمة “قوادتين” مسؤولتين عن جلب فتيات للعمل بالتطبيق، وبثّ مقاطع فيديو “مخالفة للآداب”، على رغم أن حنين ومودة كانتا تدعوان الفتيات للتقديم على تطبيق “لايكي” ذائع الصيت في مصر.
و”لايكي” شركة مرخّصة تعمل داخل مصر من مقرها الرسمي في القاهرة، كأي شركة دولية أخرى تنشئ فرعاً في العاصمة. ومعنى السماح لشركة بإنشاء مقر في مصر أن عملها لا يتعارض مع القوانين، فلماذا تُتهم حنين ومودة بالإتجار بالبشر، ولا يُغلق مكتب الشركة، أو تُمنع من العمل داخل مصر، لتسهيلها الدعارة والإتجار بالبشر؟!
إذا كانت الفتاتان المصريتان تسهلان الاتجار بالبشر، فالتنظيم الذي يدير العملية بالكامل هو شركة “لايكي”، لكن لأنه يدفع ضرائب ورسوماً للعمل داخل مصر، يصبح محمياً من المساءلة أو الاتهام المباشر. واجه بعضُ مسؤوليه الصينيين اتهاماً عابراً، وسرعان ما تمَّت تبرئتهم منه، وتحريرهم بكفالة خلال أيام، لتبقى حنين ومودة في مرمى المدافع وحدهما.
سطوة القضاء…
تستخدم الدولة سلطة القضاء لفرض سيطرتها على النساء، ليتحوّل من حَكَم عدل إلى طرف في خلاف، ومتهم بقهر فئة من المصريين، بناءً على النوع الاجتماعي، فالجريمة التي يمكن أن تكون عقوبتها السجن لعام واحد، إذا ارتكبتها أنثى، تصبح عقوبتها عشرة أعوام سجناً.
تبرز تلك النزعة لدى القضاء المصري في قضايا عدة، فالمتهمون باغتصاب فتاة في القضية الشهيرة، المعروفة بـ”الفيرمونت” حصلوا عملياً على أحكام بالبراءة، سواء لعدم كفاية الأدلة أو سقوط الاتهام أو أسباب أخرى، وكلهم رجال تفيض فيهم ذكورية المجتمع الذي يقبل التنكيل بالنساء، ولا يحاسب من نكّل بهنّ.
في قضية أخرى حصل المتهم بالتحرش بسمية عبيد، المعروفة إعلامياً باسم “فتاة المول”، وتسبب لها بجروح في الوجه نتج عنها أكثر من 40 غرزة على حكم بالسجن عاماً واحداً، وانتهت قضية المتحرشين بـ”فتاة ميت غمر” الشهيرة بـ”بسنت” بالبراءة، على رغم تعرضها لتحرش جماعيّ، وتهديدات بالحرق والقتل والابتزاز والتشهير، بل أصبحت متهمة ومهددة بالحبس بعد نشر صورها المسرّبة على “إنستاغرام”.
يحصل الجميع على البراءة والأحكام المخففة، بينما تحصل حنين ومودة على 10 سنوات و6 سنوات في السجن في اتهام لم ترتكبه أي منهما… هو الاتجار بالبشر.
والاتجار بالبشر بحسب نصوص القانون المصري لا ينطبق على الدعاية لتطبيق أو الإعلان عنه أو تقديم بث مباشر عليه، فمرتكب جريمة الإتجار بالبشر، بحسب مواد القانون، هو “كل من يتعامل بأي صورة في شخص طبيعي، بما في ذلك البيع أو العرض للبيع أو الشراء أو الوعد بهما، أو الاستخدام أو النقل أو التسليم أو الإيواء أو الاستقبال أو التسلم سواء فى داخل البلاد أو عبر حدودها الوطنية، وإذا تم ذلك بواسطة استعمال القوة أو العنف أو التهديد بهما، أو بواسطة الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع، أو استغلال السلطة، أو استغلال حالة الضعف أو الحاجة، أو الوعد بإعطاء أو تلقى مبالغ مالية أو مزايا، مقابل الحصول على موافقة شخص على الاتجار بشخص آخر له سيطرة عليه – وذلك كله – إذا كان التعامل بقصد الاستغلال أياً كانت صوره بما فى ذلك الاستغلال فى أعمال الدعارة وسائر أشكال الاستغلال الجنسى، واستغلال الأطفال فى ذلك وفي المواد الإباحية أو السخرة أو الخدمة قسرا، أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد، أو التسول، أو استئصال الأعضاء أو الأنسجة البشرية، أو جزء منها”.
لم تستغل الفتاتان أحداً، ولم تدفعان أي شخص إلى العمل بالدعارة أو السخرة أو الإباحية وسرقة الأعضاء، قهراً أو رضاءً، بالعنف أو التهديد، ليس من بين الأدلة أنهما باعتا أو اشترتا بشراً، فما الاتهام إذاً؟
لا يمكن فصل الاتهام عن عدم وعي القضاء وأجهزة الأمن والتحريات بالتكنولوجيا ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الحديثة، فليس معنى أن تكون شهيراً وتقدم إعلاناً عن إحدى الشركات، أنّك تجبر الآخرين على الدخول عليه، وليس معنى أن يسمح تطبيق بالتواصل بين الجنسين، كأي تطبيق رقمي، أنه يفسح لهما المجال للدعارة، فجميع التطبيقات يمكن استخدامها في نشر العلم، أو بيع الجسد، وحتى تطبيق “لايكي” الذي يضم غرفاً لأحاديث قد تعتبر تافهة بين الرجال والنساء، يحتوي أيضاً غرفاً لإلقاء الشعر والبلاغة.
هذا الجهل بالوسائل الحديثة لتقديم المحتوى، لا يفرض على القضاء أفقاً محدوداً في تقييم الأمور، إنما يدفعه للخضوع للمزاج الشعبي وأعراف المجتمع وتقاليده.