فنزويلا امام مخاطر انفلات الفاشية وسيناريو مظلم
(حوار صحيفة الى الامام مع فارس محمود)
الى الامام: ان الانقلاب الذي قام به رئيس البرلمان الفنزويلي خوان غويدو على رئيس الجمهورية المنتخب نيكولاس مادورو في 23 كانون الثاني هو موضوع الساعة اليوم. تنذر هذه الازمة، وبالاخص بعد الابعاد المحلية والعالمية التي نراها، بمخاطر جدية على المجتمع. ماخلفية هذه الازمة او الوضعية، وماهي ماهية قوى واطراف هذا الصراع، وماهو دور امريكا بهذا الخصوص؟
فارس محمود: ليس هذا الصراع بجديد، ولا تدخلات امريكا بجديدة. ولكن الميزة الاساسية الذي فيه هذه المرة هو ذلك الحد من الغطرسة الامريكية والاستهتار الامريكي والتدخل الفج والسافر من جهة، وهذا الحد من الدوس على ابسط المعايير الدولية والمعروفة، وفي الوقت ذاته، هذه الدرجة من الاعتداد و”الشعور بالاقتدار” لدى جناح رئيس البرلمان اليميني، خوان غويدو
.
لاوضح المسالة بصورة اقرب. هناك تيارين اساسيين في الحركة السياسية في فنزويلا. تياران ينتمي كلاهما للطبقة البرجوازية الحاكمة رغم كل اختلافاتهما. احدهما، تيار رئيس الجمهورية، البوليفاري الشافيزي الذي اتى للحكم في 1999 واستمر لحد الان على راس السلطة، شافيز من 1999 – 2013 وبعدها اقرب انصاره ومساعديه ماندوروا ولحد الان. ان هذا التيار هو تيار شعبوي، (قومي – اصلاحي)، معادي للامبريالية، بشعارات يسارية، محور نموذجه الاقتصادي هو راسمالية الدولة، اي نمط اخر من الراسمالية
.
والتيار الاخر الذي يتضمن اليوم قوى رئيسية معارضة اخرى، تآلفت سوية في تحالف مناهض للتيار البوليفاري – الشافيزي، موال لحد نخاع العظم لامريكا، وفي الحقيقة، تقوده عمليا وواقعياً امريكا بوصفه اداة للتدخل وقلب الاوضاع هناك. نموذجه الاقتصادي هو الليبرالية الجديدة وقلعته امريكا
.
لقد سعت امريكا، كعادته، الى استرداد الاوضاع من حكم البوليفاريين، وقامت بالعديد من مساعي الاطاحة بالحكم عبر الاغتيالات والتصفيات وكسب موالاة القادة العسكريين وغيرها، وان اول مسعى تم كشفه هو للاطاحة بشافيز بعد 3 سنوات من تسلمه السلطة، اي 2002
.
في نيسان 2013، فاز مادورو بولاية رئاسية من 6 اعوام، سيطرت المعارضة على البرلمان في اواخر 2015، وتحول الصراع الى صراع الرئاسة – البرلمان. التفت الرئاسة على “اقتدار البرلمان” بالدعوة الى تشكيل “جمعية تاسيسية” بموازاة البرلمان ذات صلاحيات واسعة من تغيير الدستور الى حل البرلمان
!
امريكا كانت وعلى طول الخط طرف جدي في هذا الصراع وتتحين الفرصة للاطاحة بالبوليفاريين. اذ سعت لاضعاف الحكومة عبر فرض حصار اقتصادي جائر وشنيع، ودهورة العملة الفنزويلية، المؤامرات الاقتصادية، لي اذرع كل الشركات والمؤسسات التي تقيم علاقات اقتصادية مع فنزويلا ومعاقبتهم تجاريا وماليا والخ، استدراج القادة العسكريين واغرائهم وغيرها من اساليب معروفة. وقد تحدثت نيويورك تايمز عن عقد ترامب اجتماع سريع مع قادة عسكريين بهدف اجراء ترتيبات الاطاحة بحكم مادورو
.
في ايار من عام 2018، جرت انتخابات، قاطعتها المعارضة، وبعد اسابيع من اداء مادورو القسم بوصفه الرئيس المنتخب، جرت احتجاجات واسعة ضد الحكومة، تكررت هذه الاحتجاجات التي راح ضحيتها الاسبوع المنصرم مايقارب 26 شخص، وفي 23 كانون الثاني، اعلن رئيس البرلمان ازاحة الرئيس واعلان نفسه رئيسا موقتا للحكومة. وهو الامر الذي ايديته امريكا بحماسة فورا، وسعت لجر العالم لتاييدها هذا
.
اذا كان البوليفاري في صراعه مع منافسيه يستند الى الشرعية الانتخابية، والدعاية ضد الاخرين بالعمالة للامبرياليين والغرب واجندة امريكا و”معاداة الشعب”، فالثاني يتحدث عن “اغتصاب السلطة”، “غياب الديمقراطية” و”الديكتاتورية” ويدعو الى تشكيل حكومة انتقالية واجراء انتخابات حرة
.
الى الامام: ماهي “حظوظ” امريكا او “لاحظوظ” ها بهذه الخطوة
…
فارس محمود: تعتبر امريكا ان امريكا اللاتينية هي “باحة خلفية” لها ويجب ان تبقى كذلك. لقد كانت كذلك ابان الحرب الباردة، اي منطقة اغلبها تحت ظل هيمنة المعسكر الغربي وامريكا. منطقة تشهد اقتدار تام لامريكا وقوة قبضتها الحديدية عليها. وقد قامت بهذا عبر الانقلابات العسكرية، تمويل الجماعات اليمينية والمتطرفة بوجه اليسار والشيوعية، الاغتيالات والتدخلات العسكرية المباشرة ان اقتضت الضرورة، كما هو في حالة بنما
.
ولكن الاوضاع تغيرت اليوم كثيرا. فليست امريكا هي امريكا السابقة، وقصدي من حيث مكانتها الاقتصادية والسياسية، ولا خصومها ومنافسيها انفسهم. ان هذه المساعي الاخيرة لاتختلف عن باقي الصراعات في العالم، وان يكن بشكل مختلف وبقوى مختلفة وفي اوضاع وتوازنات مختلفة
.
ان روسيا التي كانت من بين اوائل الذين حذروا من الخطوة الامريكية هذه لملمت انفاسها من انهيار الاتحاد السوفيتي والان هي قطب سياسي واقتصادي وعسكري كبير، وله كلمة في امريكا اللاتينية. الصين لها دور كبير في امريكا اللاتينية من حيث قدرتها الاقتصادية وتمويل المشاريع والاستثمارات، انها الان غول اقتصادي هناك، وهو امر لايمكن اغفاله
.
كما ان دول امريكا اللاتينية نفسها قد طرأت عليها تغيرات سياسية كبيرة ايضاً. اي ليس لامريكا تلك اليد الطولى السابقة. على سبيل المثال لا الحصر، رغم كل مساعي امريكا بالاعتراف بانقلاب غويدو كرئيس “شرعي” للبلد، الا ان تجمع منظمة بلدان امريكا اللاتينية (ذا 34 عضو) قد وقف بالضد من رغبة امريكا، اذ صوتت الاغلبية (18) دولة ضد الانقلاب وغويدو مقابل 16
.
من جهة اخرى، وعلى العكس مما كان الحال قبل عقود، ان ايادي امريكا قصيرة في الجيش. اذ ما ان قام غويدو بانقلابه، حتى اعلن الجيش وجنرالاته الكبار انه ليسوا مع هذه الخطوة، وانهم مع الشرعية الدستورية والقانونية وحكومة مادورو
.
في مجلس الامن، وامام مساعي امريكا لاعتراف الدول الاخرى بغويدو رئيسا للبلاد، هناك صوتين بالفيتو على الاقل من الاعضاء الدائميين، وهم روسيا والصين، واعضاء كثر من غير الدائميين. كما ان الاتحاد الاوربي “عائماً” في هذا الامر، وليس هناك بوادر كبيرة وخاصة لدعم امريكا. في داخل الكونغرس الامريكي، هناك معارضة ملحوظة لمسعى حكومة ترامب وصلفها وغطرستها. وليس ثمة ادل وابلغ من مخاطبة روخانا، العضو الديمقراطي في الكونغرس عن كاليفورنيا، اذ قال: “لاقلها بصراحة! نظراً لغياب الديمقراطية، تحاصر امريكا فنزويلا! وليس السعودية؟!!! انه النفاق
!”
بالاضافة الى ذلك، وجود غضب وسخط على صعيد الراي العام العالمي ضد سياسات امريكا واستهتارها حتى بالقيم التي تدعي انها اساس وركائز الديمقراطية الغربية. ان خطوة امريكا هذه ليست بجديدة. انها كالثور الجريح الهائج، يقفز هنا وهناك في عالم تتاكل فيه مصالح البرجوازية الامريكية شيئاً فشيئا، وتتدهور على اساسه قوتها السياسية وتتراجع يومياً مكانتها العالمية، سلطة تغط في خبال جراء رؤية نفسها انها اعجز من ان تكون شرطياً للعالم، يسمعه العالم صاغراً وينفذ ما تطلبه المشيئة الامريكية. ان خطوة امريكا المتهورة هذه دلالة واضحة على الضعف وعلى الياس وانعدام الحيلة
.
من جهة اخرى، اذا نظرنا لادعائات امريكا بشأن مبرراتها بتاييد انقلاب غويدو، تجد انها هزيلة الى ابعد الحدود. من مثل التباكي على”الشرعية” في فنزويلا!! او يلهجون بـ”حماية امريكا من تدفق المهاجرين”، حيث يتعالى اصوات النخب الحاكمة “الا ترون 3 ملايين قد هاجر من فنزويلا ويهربون الى امريكا”؟! “من اجل صيانة فرص عمل العامل الامريكي”، يجب ان نطيح بحكومة مودورو”. ولكن يعرف القاصي والداني ان الامر لا علاقة له بحقوق الانسان، ولا الحريات، ولا “الديكتاتورية” و… الخ. كما ان اؤلئك الثلاثة ملايين الذين يخيفون بهم العامل والمواطن الامريكي، قد تركو بلدهم جراء الحصار الظالم لعقود والذي فرضته امريكا نفسها على فنزويلا من اجل تركيعها وتغيير نظامها، وهددت مايقارب من 70 شركة من اي تعامل تجاري تقوم به مع السلطة الحاكمة في فنزويلا… ان ثمة خطيئة بهذا الصدد، وفي الحقيقة جريمة ترتكب بحق الملايين، فتقع بالضبط على راس السلطة الحاكمة الامريكية بصورة اساسية وخاصة
.
الى الامام: تحدثت بصورة عابرة عن ماهية البوليفاريين والمعارضة، هل بوسعك ان توضح هذه النقطة اكثر وبالاخص فيما يتعلق بحياة الجماهير ورفاهها وحريتها؟
!
فارس محمود: البوليفارية هي حركة معادية للاستعمار والامبريالية بصبغة يسارية قومية. ليس مودورو ولا شافيز بشيوعيين او اشتراكيين. اذ لايغرك ان خطابات بوش تنضح بالهجوم على اشتراكية وشيوعية مودورو وشافيز ولايجب اخذها على محمل الجد، لسبب بسيط انهم “اتهموا” اوباما بالاشتراكية وذلك لاصلاح اقتصادي تافه في ميدان الصحة!!! انها حركة تسعى لصياغة نموذج قريب من التجربة الكوبية عبر القيام بخطوات اصلاحية فيما يخص النضال ضد الفقر، مجانية السكن، العلاج، الصحة، التربية والتعليم ومن اجل تامين الاستقلال الاقتصادي للنساء. فمثلا خلال حكم شافيز شرعوا باصلاحات اقتصادية بحيث تقلص الفقر في مدة رئاسته الى النصف تقريبا. وعلى هذا الاساس، اجبر جيمي كارتر الرئيس الامريكي الاسبق على الاقرار في مناسبة وفاة شافيز، بان “وان يكن باننا لانتفق على مجمل اساليب حكومة هوغو شافيز، الا انه لايعتورنا الشك مطلقا فيما يخص تعهده بتحسين حياة ملايين من سكان بلده
“.
وان هذا هو ما جلب تعاطف ودعم جماهير امريكا اللاتينية، الطبقة العاملة، وضحايا الحرمان والفقر وسياسية العسكرتارية للحكومات الغربية، وسياسات صندوق النقد الدولي على صعيد العالم
.
فيما يخص المعارضة، يكفي القول بايجاز انها معارضة الليبرالية الجديدة والسوق الحر وسياسات الصندوق الدولي والتنصل التام للدولة تجاه المواطن ورفاهه وحرياته. انها الراسمالية باقبح اشكالها. ولهذا ليس من السهولة بحد ان تجمل امريكا وابواقهم الاعلامية اليمينية وجه هذه المعارضة الكالح
.
الى الامام: ولكن الى اين تمضي الاوضاع، ومالعمل تجاه هذه الازمة؟
!
فارس محمود: ان المعارضة هي يمينية وحققت موطيء قدم في السلطة نوعا ما. وعبر ركوبها موجة احتجاجات الجماهير المحتجة والساخطة، خلقت نوع من سلطة مزدوجة. من جهة اخرى ان هناك توجه قوي نحو اليمين في امريكا وامريكا اللاتينية واوربا، وهذا يوفر ارضية خصبة لنموها، بغض النظر عن انهم ياتون عن طريق البرلمان والانتخابات والديمقراطية، ام عبر ركوب موجات الجماهير المحتجة. وراينا اخر هذه النماذج، في البرازيل، الرئيس “بالسونارو
“.
فيما يخص ازمة فنزويلا، لايتعلق الامر بصعود حركة يمينية على العموم، بل ان المازق الناجم من الصراع القائم وقواه، وبالاخص مع التعنت والصلف الامريكي المنفلت العقال، وفي الوقت ذاته عدم استعداد القوى والاقطاب العالمية الاخرى مثل روسيا على الوقوف مكتوفة الايدي تجاه هذه الوضعية، بالاضافة الى وجود جيوش من العاطلين الذين يرسفون بالفقر والمجاعة وانعدام الامل ومن السهولة ان يتحولوا الى وقود “كونترا”ت مليشياتية، يمكن ان تدفع بالامور نحو مسارات خطيرة، منها الحرب الاهلية ودمار البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجتمع وانهيار مدنيته، وتحويل فنزويلا، وبالتالي جزء واسع من امريكا اللاتينية الى شرق اوسط اخر او افريقيا اخرى. ومثلما بينت الاوضاع ان الثور الامريكي الهائج والذي يرى بام عينيه ان امريكا اللاتينية تكف تدريجياً عن ان تبقى باحة خلفية “صنعت في امريكا”، لهو استعداد لاضرام هذه النار. ان هذا ليس بجديد. انظر الى سوريا، العراق، اليمن، ليبيا، و
..!
تجاه هذه الوضعية، لايمكن ان ينطلق رد الشيوعيين من الموقف من الشافيزية او اليسار القومي او مايخص تمايزه السياسي والاجتماعي والفكري معها، او الموقف العام فيما يخص الموقف من اقتصاد السوق واقتصاد الدولة والخ. يجب ان ينطلق من صيانة مدنية المجتمع. ان افضل سبيل ذلك هو ان تكف امريكا من تطاولها وتدخلها في الشان الفنزويلي، والدعوة الى انتخابات شفافة ونزيهة باشراف المنظمات الدولية. فحتى لو خسر الشافيزيون الانتخابات، فمن الممكن ان ياتوا بعد عدة اعوام للسلطة مرة اخرى. ولكن ان الحق الدمار بالمجتمع، فان اثاره كارثية لعقود مقبلة على مجمل الملامح الاجتماعية والسياسية والفكرية للمجتمع. اليمين “متخصص” السيناريوا الكالح. برايي، بوسع مادورو ان يسحب البساط امام غويدو وامريكا عبر هذا التكتيك، اي عبر الدعوة الى انتخابات حرة ونزيهة وشفافة. ومن قال ان لايخسر غويدو ايضاً هذه الانتخابات؟
!
انا اعلم ان تمسك الطبقة العاملة ودعاة الحرية والمساواة بمصيرهم ومصير المجتمع لارساء عالم اخر يستند الى الرفاه والحريات، عالم ليس بوسع البوليفارية والشافيزية ان تحققه نظرا لمحدودياتها السياسية والفكرية ومحدوديات نظامها الاقتصادي المنشود (راسمالية الدولة التي اثبتت فشلها وعجزها التامين)، بيد اننا امام وضعية تستلزم الان صيانة المجتمع من المصير المظلم الذي تدفع له امريكا وجماعاتها القرقوزية. وان هذا يسهل الطريق كثيرا على اقتدار وتنامي شيوعية حقيقية، شيوعية ماركس والطبقة العاملة في فنزويلا، وبالتالي امريكا اللاتينية ككل
.
.