المقالاتفارس محمود

منصور حكمت ومنهجية الحرب

فارس محمود

(ندوة أقيمت بمناسبة أسبوع منصور حكمت في البيت الحزبي عبر الزوم، 11 حزيران 2023)

 (2-2)

في الجزء الأول، تم تناول منهجية منصور حكمت فيما يتعلق بالحرب وأورد الحرب العراقية-الايرانية كنموذج وها هنا يتناول بقية النماذج والامثلة. (الى الأمام)

حرب أمريكا على العراق

أكد حكمت إن الحرب لا تتعلق بغزو العراق واحتلاله للكويت. إذ ليست هذه اول مرة يتم اجتياح بلد ما من قبل اخر تعقباً لمصالحه الاقتصادية والسياسية الخاصة. كما انها ليست من اجل “الاطاحة بشيخ الكويت” ولا “خرق سيادة الكويت” ولا “النفط” و”الاجانب” ولا “مجابهة الديمقراطية والدكتاتورية” التي لم تتعدَ سوى مدّ تعسفي لدعاية صراع الحرب الباردة وانهيار جدار برلين الى تلك اللحظة.

بيّن بشكل ملموس ما هو أساس القضية: انهيار عالم الثنائية القطبية وإعادة تعريف العالم نفسه وفق هذه الوضعية الجديدة. العالم كله في مرحلة اعادة تعريف. والغرب نفسه وامريكا بالذات قبل غيرها هي من تحتاج الى تعريف مكانتها في اوضاع جديدة وسريعة ومتقلبة، اوضاع ما بعد الحرب الباردة.  الجغرافيا السياسية تغيرت في العالم، تساور الشكوك بقاء الناتو ووارشو. اوربا مابعد انهيار جدار برلين ليست اوروبا ما قبله. كانت الحرب قناة لترسيخ مكانة امريكا بوصفها قوة عظمى ووحيدة يتشبث بأذيالها الغرب واوروبا. انها حرب من اجل نظام عالمي جديد بقيادة امريكا بوصفها شرطي وحيد للعالم. كل من يريد أن يحقق أمراً ما عليه ان يذهب ليأخذ موافقة امريكا عليه. اقتدار المانيا بعد الوحدة كقوة اقتصادية هائلة يرافقها تراجع مكانة امريكا الاقتصادية غيّر التوازن ما بين اوربا وامريكا بغير صالح الاخير. أما فيما يتعلق باوربا الشرقية، فمصيرها واضح. اذ ستسير على طريق الغرب ومماهاته على جميع الاصعدة. ولكن مثلما اكد منصور حكمت فان امريكا والغرب هم من مصيرهما غير واضحين: ماذا يحل بالغرب؟ ماذا يحل بالناتو؟ وما ضرورة بقائه بالأخص مع انحلال حلف وارشو؟ هل تبقى الزعامة الامريكية للغرب؟! اذ اقتضتها الحرب الباردة، فيما لم تبقَ الحرب الباردة الان؟ كانت امريكا بأمس الحاجة لهذه الشرارة من اجل تحويلها الى موضوع انفجاري. وتمكنت من ذلك عبر التخويف والترويع وليّ الأذرع والابتزاز والصخب الدعائي الكاذب.

اما من ناحية العراق، لم يقوَّ اخفاق ايران والتيار الاسلامي من التيار القومي فحسب، بل عزّز من مكانة العراق بوصفه من أحبط هذا التهديد. وعزز مكانة العراق السياسية والعسكرية داخل العالم العربي والجامعة العربية. ونظرا للحاجات الاقتصادية الهائلة للعراق ما بعد الحرب، اعادة الاعمار، وحاجته للآبار والحقوق والاراضي النفطية من جهة ولتسديد مديونيته لدول الخليج ولديه قنابل انفجارية اقتصادية هائلة تتمثل برجوع الملايين من جبهات القتال والحاجة لإيجاد فرص عمل ووظائف وغيرها، من جهة، والكويت هي دولة اقتطعت من العراق وكان العراق يطالب بها دوما وآخرها ابان حكم عبد الكريم قاسم في اوائل ستينيات القرن المنصرم خلق الامكانية لهذا الاجتياح والغزو. بيد ان اساس الازمة تتعلق بمكانة امريكا العالمية ما بعد الحرب الباردة، وبالأخص صلتها باوربا.

حتى حين سئل حكمت عن سبيل الحل المنشود: رد: “سبيل الحل المنشود أم الممكن؟!”. واسهب: سبيلنا هو ارساء نظام اشتراكي يستند الى الارادة الحرة والمباشرة للبشر لا ضرورة فيه للحروب والالحاقات والقسر والعنف. ولكن للأسف الاشتراكية العمالية ليست من القوة بحيث يكون لها قول فصل في قضايا مثل هذه. أما سبيل الحل الممكن فقد يكون اللجوء عبر إحالة مصير الكويت الى الدول العربية والجامعة العربية لحل الصراع، ولا يحتاج تجييش جيوش 30 بلد وارسالها للمنطقة.

حول هذه النقطة، اثار سبيل الحل هذا لغطاً  كبيراً في وقتها بين الشيوعيين في كردستان والعراق. كان اشبه بـ”كفر”! الجامعة العربية؟! انها منظمة برجوازية رجعية و…الخ. لم يرد سبيل الحل هذا على ذهن أحد. اليسار يسار ايديولوجي وليس سياسي-اجتماعي، ينطلق من الايديولوجيا والافكار والمواقف، ولهذا لا يعتبر  مثل هذه الطرق سبيل حل عملي يجنب العراق والمنطقة الحرب.

وبقدرته التنبؤية المشهودة لمنصور حكمت، أكد ان حرب امريكا ستشوش صراعات قومية وقطرية ودينية على النضال الطبقي وان هذا يعني فرض تراجع جدي على تطوره في الشرق الاوسط وشفافيته ويجر أجيال من الطبقة العاملة خلف أيديولوجيات وحركات متخلفة ورجعية ويضع عراقيل جدية امام النضال الطبقي للعمال. رأيتم بأم اعينكم أي مستنقع وضعت فيه امريكا وحربها مجتمعا مدنياً مثل العراق!

وكقائد شيوعي أممي، حذّر منصور حكمت انه في حال نجحت امريكا في ممارسة عنجهيتها وعسكرتاريتها، ستتوفر ارضية خصبة لتطاول امريكا على أي حركة عمالية وجماهيرية في أية بقعة من العالم تعرض مصالح امريكا للخطر.

ولا يفوتنا ان نستذكر الموقف الطليعي والمتفرد فيما يخص الوقوف القاطع بوجه الحصار الاقتصادي، واستسخافه لأطروحة “الحصار يضعف النظام” التي تلقفتها المعارضة البرجوازية العراقية، ومثلما ذكرتُ بينت انها هبطت بالجماهير في العراق من النضال السياسي ضد البعث الى البؤس الاقتصادي والانهيار المجتمعي. 

“حرب” امريكا على افغانستان…

فيما يخص هذه الحرب، أكد انها ليست حرباً، بل ان هجمات امريكا على افغانستان تحت يافطة “مكافحة الارهاب” هي بحد ذاتها “ارهاب سافر”!

انها صراع إرهابيين: إرهاب دولي أمريكي تعم جرائمه العالم بالأخص منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. أمريكا هي دولة الحروب والعسكرتارية والغزو في العالم، فيتنام وهيوشيما وناكازاغي، دعم الرجعية العالمية والانقلابات وأنظمة الجندرما والديكتاتوريات، وهي تقف وراء حمامات الدم التي ارتكبت ضد ملايين الشيوعيين في العالم، انها الدولة الداعمة لإسرائيل واحتلالها وجرائمها تجاه جماهير فلسطين. وهدفها هو إدامة هيمنتها والابقاء على نفسها بوصفها شرطي العالم. لم يكن الامر متعلق بحادث 11 سبتمبر، بل وفر لها هذا الحدث الفرصة للرد على معضلات اوسع بكثير تتعلق بصيانة مكانتها المتفردة وعالم أحادي القطب.

الارهاب الاسلامي: انه صنيعة امريكا والارهاب الدولي. انه تيار برجوازي متطلع للسلطة ويبحث عن حصة في سلطة الشرق الاوسط وله حضور في التجمعات الاسلامية في الغرب نفسه. ارهاب يعد “العداء الأعمى” للغرب وكل ما يمت بصلة للغرب رأسماله السياسي. طالبان هي عصابة اجرامية تعتاش على المخدرات. صنعها الغرب نفسه بعون باكستان والسعودية.

لم تكن “حرب استئصال الارهاب”. انها صراع حول السلطة ولم يكن لها صلة بـ”ظلم الغرب للشرق” ولا من أجل “آلام الشعب الفلسطيني”. ليس هدف أمريكا افناء الاسلام السياسي، بل ترويضه وإخضاعه لـ”قواعد اللعبة”، لا اكثر. 

وأكد على ان السلام في الشرق الاوسط وتأسيس دولة فلسطين والتخفيف من أشكال الظلم القومي والاثني والديني وإنهاء التمييز بحق جماهير فلسطين هي من تدق ناقوس موت الحركات الاسلامية في الشرق الاوسط. وأشار: اذا كان حل مسالة فلسطين يزيل الأسس السياسية والفكرية والثقافية لنمو الاسلام السياسي في الشرق الاوسط وعلى الصعيد العالمي، فان انهيار الجمهورية الاسلامية هو شرط محقه بوصفه حركة متطلعة في الشرق الاوسط. بدونهما، اي حل مسالة فلسطين سيتحول الاسلام السياسي الى تيار معارض عديم الافق والمستقبل.

وفضح سياسات امريكا بانها لا تستهدف استئصال الاسلام السياسي لأنها تعرف جيدا ان اهم اركان مجابهة الاسلام السياسي وإنهاء الارهاب هي التالي: حل مشكلة فلسطين، الجرح النازف مدة 7 عقود تقريبا والتخلي عن مساندة حكومات المنطقة الاسلامية والمشايخ وغيرها من قوى رجعية واستبدادية وانهاء الحصار الاقتصادي على العراق الذي غدا (فلسطين اخرى) وتقوية والحضور الفاعل في ميدان العلمانية ومجابهة الاسلام السياسي في الاوساط الاجتماعية والثقافية في الغرب والتصدي لسياسات النسبية الثقافية والتأكيد على عالمية حقوق الانسان.

وسعى لتسليح قوة ثالثة في الميدان، جبهة العالم المتمدن، هذه الحركة العالمية ببرنامج عمل نضالي وسياسي واضح للتصدي لكلا الارهابيين. 

ايران وافغانستان:

في اب 1998، شهدنا تصاعد الحملات الاعلامية الحربية للجمهورية الاسلامية ضد طالبان بعد سيطرة طالبان على مناطق الشمال ومزار شريف بدعم من باكستان وازاحة المليشيات الاسلامية الموالية للجمهورية الاسلامية، ومن جهة اخرى قتل مجموعة من الدبلوماسيين الايرانيين على يد طالبان. وصلت الامور على حافة الحرب.

كان منصور حكمت واضحاً في تحليله: لن تندلع حرب بالمعنى المتعارف عليه لكلمة حرب. في اقصى الاحوال، ستكون اعمال تحشيد للقوات على الحدود او توجيه ضربات موضعية لطالبان وغيرها من اساليب ضغط. ولن تتعدى الاوضاع هذه الخطوط. وحدد الخطوط العامة للسياسة الصحيحة بهذا الصدد: “سعادة جماهير ايران وأفغانستان مرهونة بالإطاحة بكلا النظامين”. ان الحركة التي تنوي الاطاحة بالجمهورية الاسلامية عليها ان تفكر من الان بوضع طالبان والرجعية الاسلامية في افغانستان. ان عصرنا عصر القضايا الاقليمية والعالمية وسبل الحل الاقليمية والعالمية. لا يمكن لحكومة عمالية في طهران ان تتعايش بحسن جوار مع حكومة طالبان في افغانستان. ان يوم واحد من حياة امرأة في افغانستان تحت سلطة طالبان هو مبرر كافي لتشكيل “جيش عالمي احمر للإطاحة بطالبان. لا يقر الحزب الشيوعي العمالي بسلطة وحكومة طالبان”.

كما أكد على انها ليست حرباً بين دولتين او بلدين او شعبين، بل حرب عصابتين رجعيتين اسلاميتين. وان سبيل حلنا لا يمكن أن يكون اعادة الاوضاع الى ما قبل التشنجات. نحن، الاشتراكيون والتحررون، طرف في الصراع السياسي والحاسم في المنطقة. اننا في صراع مع كلا المعسكرين وننشد الاطاحة بهما. “انا لست من بين أولئك الذين يحذرون من مسكهم بخناق بعض ويدعون الى السلام ورعاية البروتوكول والمراسيم. ان مهمتنا هي التنظيم من اجل  الاطاحة بهما كليهما”.  ليس هناك شك بان الجماهير انسانونية ودعاية للسلم والهدوء. لكننا نميز ما بين قلق الجماهير من الحروب وما يرافقه من تدهور الاوضاع الاقتصادية والفوضى الاجتماعية، ولكن هذا يختلف بصورة هائلة عن دفاع الاحزاب السياسية عن الوضع القائم. فالأول يدلل على ان هناك مدنية وحكمة في المجتمع الانساني، فيما الثاني دليل على النزعة المحافظة والعداء للتغيير”. لا يمكن لحزب شيوعي عمالي ان يتخذ موقف السعي لإزالة التشنج بينهما والوعظ بحل الاختلاف  بسبل سياسية وقانونية. على عمال وجماهير ايران وافغانستان ان توظّف هذه التضادات القائمة للإطاحة بكليهما وارساء مجتمع انساني ومرفه في كلا البلدين.

ولهذا يبين لنا منصور حكمت في الحالات التي ذكرتها على ضرورة كشف الماهية الحقيقة والواقعية لأي حرب وضرورتها وأهداف اطرافها الحقيقية. انها، وعبر المواقف وكيفية التعامل مع كل حرب، انعكاس لمنهجية ماركسية عميقة تعبر بدقة عن مصالح الطبقة العاملة والجماهير المحرومة والكادحة وسلّحهم بسياسة شيوعية وراديكالية وتحررية تجاهها…

اخر ما اود قوله ان تقديمي هذا لايغني ابداً عن ضرورة دراسة كتاباته الغزيرة بعمق بهذا الخصوص والتي يمكن الاطلاع عليها عبر صفحة منصور حكمت او صفحة الحزب الشيوعي العمالي أو الحوار المتمدن.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى