ألقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خطابه الرئاسي أمام الجمعية الفيدرالية الروسية في موسكو في 21 شباط 2023. من الواضح ان الخطاب كان موجه للروسيين بالدرجة الأولى والدول التي خارج المعسكر الغربي وشريحة من المجتمعات الغربية نفسها. ان الهدف من الخطاب، القاء اللوم على الغرب في اشعال الحرب في أوكرانيا، والتأكيد على فشل الغرب في تحقيق أهدافه. ولكن اهم ما في الخطاب والذي يهمني في هذه المقابلة هو محاولة جدية لصياغة ملامح قطب عالمي تكون روسيا قوة أساسية فيه وتوضيح هويته الايدولوجية وما يفرقه عن القطب الغربي.
خطاب بوتين فضح القطب الغربي، ولكن فضح القطب الذي يمثله في نفس الوقت وبنفس الدرجة.
سوف اسرد النقاط الأساسية في هذا الخطاب الذي يبين إجرامية كل النظام الرأسمالي وميله للعنف والخطر الذي يشكله وتناقضه مع مصالح الغالبية العظمى من البشر حول العالم، وكيف، انهم على استعداد في تحويل دول كاملة الى وقود حرب من أجل الدفع بصراعاتهم.
كالعادة كان خطابه مطولاً ومفصلا ورجع من منظوره الى الخلفية التاريخية للصراع في أوكرانيا والوضع العالمي الحالي والتحولات المستقبلية. والكثير من التفاصيل التي ذكرها في فضح القطب الغربي هي صحيحة.
اتهام الغرب بإشعال الحرب!
القى الخطاب باللوم في نشوب الحرب في أوكرانيا على الغرب، وسرد بالتفصيل دلائله على هذا الادعاء. وأكد بان الحرب بالنسبة لروسيا كانت حرب دفاعية “لحماية الناس في أراضينا التاريخية، و لضمان أمن بلدنا والقضاء على التهديد القادم من نظام النازيين الجدد الذي سيطر على أوكرانيا بعد انقلاب عام 2014”. وعدد الجرائم التي اقترفها نظام كييف ضد سكان منطقة دونباس والذين غالبيتهم من أصول روسية منذ الثورة الملونة التي دبرتها أمريكا في 2014 حيث قتل اكثر من 14000 شخص.
وأشار الى محاولات الغرب في اشعال النار في دول ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي واثارة الصراعات الإقليمية على طول الحدود الروسية.
وركز على الخطر الذي واجه روسيا من أوكرانيا منها حسب بوتين محاولة كييف للحصول على الأسلحة النووية وعلى منظومات الدفاع الجوي والطائرات الحربية وغيرها من المعدات الثقيلة من الغرب، إضافة الى ” توسع الناتو إلى حدود روسيا، وإنشاء مناطق نشر جديدة للدفاع الصاروخي في أوروبا وآسيا ونشر الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي قواعد جيوشهما ومختبراتهما البيولوجية السرية بالقرب من الحدود الروسية”.
وأضاف، سعى الغرب الى جعل الروس يعانون والى زعزعة استقرار روسيا من خلال العقوبات الاقتصادية” حيث كرر بان الغرب حاول تدمير روسيا اقتصاديا منذ تفكك الاتحاد السوفيتي.
وذكر بوتين بان الغرب استخدم الخداع والازدواجية عدة مرات من قبل مثلا عند تدمير يوغوسلافيا والعراق وليبيا وسوريا بالسعي لشيء وتغطيته بغطاء منع المذابح وحماية حقوق الانسان والقوانين الدولية وشدد بان نفس الشيء يحدث في أوكرانيا اذ لا يهتم الغرب بمصالح الشعب في أوكرانيا بل قاموا بنهب هذا البلد.
وحسب بوتين فان الغرب “يشن هجمات إعلامية عدوانية بشكل متزايد تستهدف في المقام الأول جيل الشباب”.
فشل الغرب في كل الجبهات!
يؤكد بوتين بان الغرب فشل وسيفشل في كل الجبهات بما فيها العسكرية، والإعلامية والاقتصادية والسياسية.
يضيف ان عقوبات الغرب تعاقب الغرب نفسه على شكل تضخم وأزمة طاقة وارتفاع نسبة البطالة وميل الشركات الى الاغلاق.
ان الحصار الاقتصادي بالذات يبين كيف ان الطبقة الحاكمة في الغرب لا تهتم بحياة الجماهير في بلدانها ما دام ان الهدف هو تدمير الخصوم.
لقد ذكر الخطأ الذي ارتكبه الغرب بتحويل النظام البنكي ونظام “سوفيت” الى سلاح ضد الخصوم. وأضاف بوتين بان روسيا ستواصل العمل مع شركائها لإنشاء نظام مستدام وآمن ومستقل للتسويات الدولية وستقوم بتوسيع علاقاتها مع أسواق جنوب شرق أسيا وتطوير الممر الدولي بين الشمال والجنوب وفتح طرق جديدة للتعاون التجاري مع الهند وإيران وباكستان ودول الشرق الأوسط وكل هذه الإجراءات سوف تضر بالغرب نفسه.
الغرب هو الذي يعارض الحلول!
اكد بوتين بان روسيا بذلت كل ما بوسعها لحل المشكلة بالوسائل السلمية، ولكن نظام كييف والغرب كان لهم خطة مختلفة، لقد انخرطوا في الخداع السياسي. لقد دأب الغرب على بناء الجيش الاوكراني بما فيهم فصائل من النازيين الجدد وتدريبه وتزويده بالسلاح الغربي بهدف الهجوم على منطقة دونباس وتهديد امن روسيا.
يقول بان روسيا سعت الى بناء نظام امني لأوروبا والعالم واخر مشاريع الاتفاقيات التي اقترحتها كانت في ديسمبر 2021 ولكن كان رد الغرب اما الرفض او رد غير واضح او منافق. وركز في أكثر من مرة على اعتراف الغرب بان هدفه هو ” “هزيمة روسيا الاستراتيجية”.
ايدولوجية الغرب وايدولوجية القطب المقابل!
ان اهم ما في خطاب بوتين هو محاولة صياغة تمايز أيديولوجي مع الغرب. وقد حاول في أكثر من مكان الكشف عن ايدولوجية القطب الروسي من خلال انتقاد القطب الغربي.
يقول بوتين ان الغرب يسعى الى القضاء على المنافسين باستخدام القوة بما فيه من خلال الوكلاء، وان ايدولوجيته هي تقسيم العالم الى ما يسمى بالدول المتحضرة وكل ما تبقى من العالم، والاستعمار والهيمنة وفرض الاملاءات وعدم احترام بقية ” الشعوب” ومصالحهم و” البصق على العالم كله”. ويعد التجاوز على سيادة الدول شيء جوهري بالنسبة للغرب.
يقول “بعد تفكك الاتحاد السوفيتي ، قاموا ببناء عالم على الطراز الأمريكي يحكمه سيد واحد وهو الامر الذي تطلب تدمير أسس النظام الدولي التي وضعت بعد الحرب العالمية الثانية بوقاحة وتفكيك أنظمة الأمن وتحديد الأسلحة.
وسعى الغرب الى سرقة الجميع تحت ستار الديمقراطية والحريات، وفرض القيم النيوليبرالية والشمولية بشكل أساسي، وتمييز دول بأكملها، وإهانة قادتهم علنا، وقمع المعارضة في بلدانهم، وصرف الانتباه عن فضائح الفساد من خلال خلق صورة معادية.”
يقول” الغرب لا يدافع عن حياة البشر بينما يشعل الحروب”. و “إنهم يستثمرون بشغف في زرع الاضطرابات وتشجيع الانقلابات الحكومية في بلدان أخرى حول العالم، واغراق مناطق بأكملها في الفوضى”.
ويتحدث بوتين عن نفاق الغرب، اذ يقول “في الوقت الذي يتحدثون عن مكافحة الفقر والتنمية المستدامة وحماية البيئة، ينفقون المزيد من الأموال إلى المجهود الحربي”. ويضيف أظهرت الأحداث الأخيرة بوضوح أن صورة الغرب كملاذ آمن لرأس المال كانت سرابا.
ويقول تسيطر على الغرب “نخب التي هي رمزا للأكاذيب وعدم المبدئية التي تنظر الى الناس كمستهلكين، ويعاملون الناس الذين يعيشون في بلدانهما بازدراء. ولا تهمها الهوية الثقافية والوطنية للبلدان بما فيه بلدان الغرب”.
وتحاول هذه النخب “تدمير الأسرة”، ولا يحترمون “الكتب المقدسة التي تقول ان الاسرة هي اتحاد رجل وامرأة، وتشجيع انحراف الأطفال وإساءة معاملتهم ، والاعتداء عليهم جنسيا”.
يتبين من انتقادات بوتين للغرب ما يميز قطبه. فقطب روسيا – الصين يمثل ما هو مغاير للغرب، فهو ينبذ التدخل في الدول الأخرى ويسعى الى
الصداقة والتعاون والشراكة والاحترام مع الأقطاب والدول الاخرى واحترام القانون الدولي وحق الدول في تقرير مصيرها.
وقد ركز بوتين على تأجيج الاحاسيس القومية من خلال قوله ان القطب الروسي يؤمن بوجود “شعور متأصل تاريخيا في الامة” وله “فهم عميق للعلاقة التي لا تنفصل بين مصير المرء ومصير الوطن”. وركز على أهمية التمايز الحضاري والتمسك بالحضارة والارث الحضاري والحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة.
واكد على أهمية الحفاظ على القيم والتقاليد واهمية نظام التعليم والثقافة الوطنية لتعزيز القيم المشتركة والهوية الوطنية واكد على ضرورة ان يتعلم الأطفال والشباب قدر الإمكان عن روسيا وماضيها وثقافتها وتقاليدها وان يشعروا بانتمائهم إلى الفضاء الثقافي والتاريخي والتعليمي المشترك.
ويقول ان روسيا تسعى الى حماية الأطفال من ” التدهور والانحطاط”.
في المجال الاقتصادي يأمن بزيادة الإنتاج وبناء اقتصاد حقيقي وقوي ومكتفيا ذاتيا وغير منعزل عن العالم ويستفاد من جميع مزاياه التنافسية، وليس طباعة النقود. ويزايد بوتين على الغرب بان كل ما يقوم به نظامه متجذر بقوة في مبادئ السوق.
ان الهوية الايدولوجية التي يتحدث عنها بوتين ليست من نتاج خياله، بل هي هوية تيار موجود حول العالم بما فيه الغرب نفسه. ان شخصيات مثل ستيفن بانون ودوغلاز ماغريكر ولوبان في فرنسا وناجل فاراج في بريطانيا و تيار ترامب الذي يعرف الان بتيار ماغا، اختصارا للكلمات الإنكليزية التي تعني اجعل أمريكا عظمة من جديد وحتى بولسنارو وأردوغان ومودي هم جزء من هذا التيار.
اذ يخاطب بوتين هذا التيار في الغرب حيث يقول” يدرك الملايين من الناس في الغرب أنهم يقودون إلى كارثة روحية”. ويتحدث في مكان اخر عن وجود حلفاء لروسيا في الغرب.
ان الصراع بين الغرب والقطب الروسي – الصيني هو صراع بين افراد عائلة واحدة. ان هذه الأقطاب وحكوماتها هم ممثلون للطبقة الرأسمالية نفسها. ان محاولات خلق تمايز أيديولوجي هو من اجل تحميق الناس. ان التمايز الاقتصادي بين القطبين يكاد ان يكون غائبا. وفي الوقت الذي يتميز الاقتصاد في دول مثل روسيا والصين والهند وغيرها بدرجة من النمو أكبر من الغرب، لكن هذه الاقتصاديات هي اقتصاديات متأزمة وقد تواجه نفس الازمات التي تواجه الغرب في أي وقت. في نفس الوقت يتميز القطب الروسي-الصيني بغياب كامل لحرية التعبير والحريات السياسية. وفي الوقت الذي يدعو هذا القطب الى عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، الا انه لا يهمه أي من لائح حقوق الانسان العالمية وله الاستعداد لدعم أقذر الأنظمة والحركات في العالم.
ان الصراع في أوكرانيا هو صراع بين برجوازيات رجعية من اجل نفوذ ومصالح اقتصادية ليس له أي ربط بمصالح الطبقة العاملة. ان من واجب البشرية كنس كل هذا النظام الرجعي بقطبيه الشرقي والغربي الذي اغرق البشرية في كوارث لا نهاية لها.