توما حميد
اصدرت محكمة العدل الدولية وهي اعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة يوم الجمعة المصادف 26 كانون الثاني حكم بشأن القضية التي رفعتها جنوب افريقيا في 29 ديسمبر 2023 ضد الدولة الاسرائيلية تتهمها بارتكاب ابادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة اعقاب احداث 7 اكتوبر 2023. وقد جاء حكم محكمة العدل الدولية البدائي في وقت قياسي نسبيا وبشكل شبه جماعي حيث صوت 15 قاضيا على الاقل من اصل 17 قاضيا بما فيهم رئيس المحكمة، جوان دونيهو،ممثلة امريكا بالضد من اسرائيل.
قبلت محكمة العدل دعوة جنوب افريقيا التي اتهمت إسرائيل بارتكاب ابادة جماعية في غزة كجزء من المجموعة القومية والعرقية الفلسطينية. وقالت المحكمة بان هناك دلائل معقولة قابلة للنقاش بارتكاب اسرائيل ابادة جماعية.
وقد امرت منظمة العدل الدولية على هذا الاساس اسرائيل ببذل كل ما في وسعها لمنع الابادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة عن طريق اتخاذ ستة تدابير مؤقتة بشكل عاجل لمنع مثل هذه الاعمال في الوقت الذي تشن حربا تدعي بانها تستهدف حركة حماس. لقد شملت التدابير منع قتل اعضاء الجماعة ( اي الفلسطينيين)، الحاق أذى جسدي أو عقلي جسيم بأفراد المجموعة، تعمد إلحاق ظروف معيشية بالجماعة يقصد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا، فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة. وامرتها بمنع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية فيما يتعلق بأعضاء المجموعة الفلسطينية في قطاع غزة، واتخاذ تدابير لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية لتحسين الوضع الانساني للفلسطينيين في قطاع غزة. وطالبت المحكمة اسرائيل بمنع التدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بمزاعم ارتكاب أعمال الابادة الجماعية. وفرضت المحكمة ان تقدم دولة إسرائيل تقريرا إلى المحكمة عن جميع التدابير المتخذة للامتثال لأوامر المحكمة في غضون شهر واحد من تاريخ صدور هذا الحكم. اسرائيل هي متهمة والمحكمة تعاملت معها على هذا الاساس.
لكن المحكمة لم تطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة. وستبدأ محكمة العدل الدولية الآن بدارسة القضية والتحقيق بشكل موضوعي فيما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت إبادة جماعية في غزة والحكم النهائي قد يستغرق سنوات.
ان ما سهل عمل فريق جنوب افريقيا هي التصريحات التي اطلقها قادة اسرائيل التي كشفت بشكل واضح النية في ارتكاب ابادة جماعية وخاصة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس، اسحاق هرتسوغ وسبعة من الوزراء. وكان هذا بسبب وجود نية لارتكاب الابادة الجماعية و عنجهية وغطرسة اسرائيل نتيجة تمكنها من الافلات من القانون الدولي طوال 75 سنة. لقد انهى هذا القرار الحصانة التي تمتعت بها اسرائيل طوال هذه الفترة.
لقد تباينت الآراء بشكل كبير حول هذا القرار. يرى الكثيرون بان الحكم لم يكن بالمستوى المطلوب لأنه لم يلزم اسرائيل بوقف اطلاق النار. كما إن هناك شكوك فيما اذا كان سيؤدي هذا الحكم بشكل فوري الى حماية الجماهير في غزة وتقليل معاناتهم. ليس من الغريب ان يصاب الجماهير في غزة التي تعاني تحت قصف همجي ومجاعة وفقدان ابسط الخدمات بخيبة امل، لان هذا الحكم لن ينهي معاناتهم فورا.
ولكن هذا الحكم هو حدث مهم وتاريخي وكان هزيمة منكرة لإسرائيل وداعميها في الغرب وسيكون له تأثير طويل الامد.
ان اعلان اسرائيل والادارة الامريكية النصر باعتبار ان المحكمة لم تقر بان اسرائيل ترتكب ابادة جماعية ولم تطلب من اسرائيل وقف فوري لإطلاق النار هو تضليل وتزوير للحقائق.
ففي البداية هذا الحكم لم يكن حكم نهائي للبت فيما اذا كانت اسرائيل ارتكبت ابادة جماعية بل كان يخص خطر حدوث ابادة جماعية و فيما اذا كانت الدعوة التي رفعتها جنوب افريقيا حول احتمال ان تكون اسرائيل قد ارتكبت ابادة جماعية معقولة وقابلة للنقاش وتستحق التحقيق. اي كان حول وصوتت المحكمة بالإجماع بان اسرائيل ارتكبت جرائم حرب وهناك اساس لدعوة جنوب افريقيا حول ارتكاب ابادة جماعية التي تسمى جريمة الجرائم. أن القرار الوحيد الذي كان سيكون لصالح اسرائيل هو رفض محكمة العدل الدولية التماس جنوب إفريقيا صراحة. من جهة اخرى لقد تنبأ الكثير من المطلعين على القانون الدولي والقوانين المتعلقة بالإبادة الجماعية قبل صدور الحكم بان المحكمة لن تلبي طلب جنوب افريقيا بالطلب من اسرائيل بوقف فوري لإطلاق النار. فمحكمة العدل الدولية هي محكمة لمعالجة النزاعات بين الدول، وحماس التي هي طرف الى حد ما هي غير ممثلة في المحكمة وليس للمحكمة اي سلطة عليها باعتبار انها ليست دولة. ان وقف اطلاق النار عادة يصدر في وضع الحرب بين دولتين متحاربتين يوجد نوع من توازن القوى بينها في حين ان ما يحدث هو جرائم حرب تقوم بها دولة لها واحدا من اقوى الجيوش في العالم ضد المدنيين. كما ان الطلب من إسرائيل بوقف اطلاق النار دون ان يمكنها الطلب من حماس وقف اطلاق النار كان سيفسر بان المحكمة تجرد اسرائيل من حق الدفاع عن النفس ضد الاعتداء وهو امر كان سيقوي من موقف اسرائيل وداعميها الدوليين. وكان لساعد اسرائيل بالادعاء بانه سيسمح لحماس بإعادة تجميع قواتها وشن المزيد من الهجمات على اسرائيل.
كما انه من الناحية القانونية، الطلب بوقف اطلاق النار هو نوع من الحكم المسبق، اي قبل دراسة القضية، بان الابادة الجماعية قد تمت وهو ما سيجعل القرار قرار سياسي وليس قانوني.
ان الاجراءات التي امرت المحكمة اسرائيل بتطبيقيها في الحقيقية يعني وقف اطلاق النار بدون استخدام هذا التعبير. اذ لا يمكن تحقيق ما طلبته من اسرائيل دون وقف العمليات العسكرية.
كما ان الحكم يفتح الطريق امام الدول المختلفة لنقل القضية الى مجلس الامن في اي وقت.
بعد شهر سوف تجتمع المحكمة للبت فيما اذا كانت اسرائيل قد التزمت بقرار المحكمة. اذا قررت إسرائيل تطبيق الاجراءات الموقتة فهذا نصر كبير خاصة لصالح جماهير غزة ولكن هذا امر مستبعد. الاحتمال الاكبر هو ان لا تلتزم اسرائيل اساسا او تلتزم بشكل جزئي عندها قد يؤدي الى تعجيل الحكم النهائي ضد اسرائيل ولكن الاهم سيتم تحويل اسرائيل الى مجلس الامن. من حق مجلس الامن، في الحقيقة من واجبه اجبار اسرائيل على الالتزام بكل الطرق بما فيه استخدام القوة.
من المتوقع ان تستخدم امريكا وبريطانيا حق النقد الفيتو ضد اي قرار يدين اسرائيل. عندها يمكن تحويل القضية الى الجمعية العامة للأمم المتحدة اذ تقوم الدول بالتصويت على قرار يدين اسرائيل وقرار يطالبها بوقف فوري لإطلاق النار. وحسب اخر جلسة في الامم المتحدة، كانت امريكا وبريطانيا الدولتان الوحيدتان اللتان وقفتا ضد قرار وقف اطلاق النار من مجموع ستين دولة. هنا سيتم عزل اسرائيل وامريكا وبريطانيا، اذ لن يكون حتى بإمكان الدول الاوربية من التصويت بالضد من قرار يدعو الى وقف اطلاق النار. وبامكان الجمعية العامة للامم المتحدة اتخاذ مجموعة اجراءات منها منح فلسيطن عضوية كاملة، طرد اسرائيل من الامم المتحدة وحتى تشكيل محكمة خاصة لمحاكمة قادة اسرائيل.
كما سيكون بإمكان محكمة العدل الدولية تحويل قادة اسرائيل الى المحكمة الجنائية الدولية. لن يكون بإمكان الغرب عدم تطبيق اوامر هذه المحكمة بتوقيف قادة اسرائيل بسهولة وهي الدول التي شنت حملة ضخمة مطالبة الدول الاخرى بإلقاء القبض على فلاديمير بوتين. كما ان كل الدول الموقعة على ميثاق منظمة العدل الدولية وهي 150 دولة ملزمة بمنع حدوث ابادة جماعية. هذا يعني وقف كل انواع الدعم لاسرائيل، وضع الحصار عليها، محاكمة قادتها الخ. الدول التي تستمر في دعم اسرائيل تصبح متورطة في جريمة الابادة الجماعية والدول التي لا تعاقب اسرائيل تكون متهمة بعدم منع الابادة الجماعية. ويمكن رفع قضايا قانونية في محاكم اخرى ضد المتورطين في مساعدة الابادة الجماعية مثل القضية التي رفعت ضد الرئيس الامريكي، جو بايدن ووزير الخارجية، انثوني بلينكن ووزير الدفاع لويد اوست في امريكا.
في الحقيقة ان القرار كان اقصى ما يمكن ان تصدره المحكمة ضد اسرائيل والغرب. ان اهمية القرار هو انه يمثل صفعة اخلاقية وقانونية لها. سوف يوجه ضربة قوية جدا لمصداقية الغرب، وسوف يضعه في مازق. اذ كشف زيفه ونفاقه وكيله بمكيالين بشكل فاضح .
ان مكانة اسرائيل والغرب بعد الحكم هي ليست نفس المكانة قبل الحكم.
لحد قبل يوم من صدور القرار اصرت الادارة الامريكية بان ليس لهذه الدعوة اي اساس. كما التحقت المانيا بالمحكمة كطرف ثالث دفاعا عن اسرائيل وقد جاء القرار بالضد من مواقفها ومواقف معظم دول الغرب.
في الحقيقية، يمكن الاستدلال من الحكم بوجود اساس للاعتقاد بان الغرب متورط في جريمة ابادة جماعية. اذا تعتبر امريكا والمانيا اكبر دولتين تزود اسرائيل بالسلاح هذا عدا الدعم المالي والاعلامي والسياسي والمعنوي.
الان يتوجب على قادة العالم بما فيهم قادة الغرب التأكيد على احترامهم لقرار المحكمة الملزم قانونيا والتعبير عن التزامهم بمنع الإبادة الجماعية.
ويجب على الغرب أيضا أن يتخذ خطوات عاجلة لمنع استمرار الجرائم الدولية ، بما في ذلك فرض حظر شامل على الأسلحة ضد إسرائيل. العمل بخلاف ذلك سوف يوجه ضربة للمصداقية والثقة في «النظام العالمي المستند على القوانين» التي يتبجح به الغرب وبالتالي انزواء الغرب .
ان موقف دول الغرب ليس ناتج من خطأ قانوني او سوء فهم. انه موقف أيديولوجي وسياسي نابع من مصالح الرأسمال الغربي التي تتطلب اخضاع مختلف اجزاء العالم بما فيها منطقة الشرق الاوسط الى سلطته والابقاء على طبقة عاملة رخيصة من خلال تقوية انظمة رجعية وبوليسية. لدول مثل اسرائيل وسنغافورة وتايوان وغيرها مكانة مهمة في اخضاع مناطق مختلفة من العالم.
لقد تبنت جنوب افريقيا القضية وكان لهذا الامر اسباب موضوعية منها مكانة جنوب افريقيا في العالم وتاريخها في النضال ضد التميز العنصري وعلاقتها بالنضال الفلسطيني. وقد قام الفريق القانوني الجنوب افريقي بعمل عظيم في توثيق الدعوة بالدلائل المؤلفة من 84 صفحة. ومن المؤكد بان جنوب افريقيا قامت بالتنسيق مع دول البريكس. وبينما كانت جنوب افريقيا ترفع الدعوة، قدمت اكثر من دولة من دول المرتبطة ببريكس مشاريع قرارات في الامم المتحدة تطلب بوقف لإطلاق النار منها روسيا والبرازيل والامارات.
ولكن ما جعل قضية جنوب افريقيا قوية هي الدلائل المقتبسة من التقارير المختلفة الصادرة عن عشرات من هيئات الامم المتحدة نفسها خاصة العاملة في قطاء غزة. ان هذه الادلة وثقت من قبل مئات بل آلاف من الاشخاص بدافع انساني. ان النزعة الانسانية في الدعوة التي تقدمت بها جنوب افريقيا تعبر حسابات الصراع بين الاقطاب. وقد زاد النضال الجماهيري حول العالم من دافع جنوب افريقيا وشكّلَ ضغط على حكام هذه المحكمة. ولا يمكن فصل حركة جنوب افريقيا هذه عن النضال العالمي الواسع والعارم الذي قامت وتقوم به البشرية المتمدنة في انحاء العالم قاطبة.
ان هذا القرار دليل ان احرار العالم لن يقفوا مكتوفي الايدي مقابل جرائم الحرب التي تقترفها اسرائيل بهدف ابادة سكان قطاع غزة وهذا الحكم هو خطوة مهمة في النضال من اجل الحاق الهزيمة بدولة الابارثايد في اسرائيل وبالغرب المؤيد لها. كما انه خطوة مهمة في تدخل البشرية بمصيرها. اذ يدلل على ان البشرية المتمدنة ليست مستعدة على ترك مصيرها ومصير اكثر من 8 مليارات انسان فريسة تكالب امثال نتنياهو وبايدن وسائر الفاشيين!