قضايا من مجابهة الكاظمي-الحشد!
وأخيراً، أُطلِقَ سراح “قاسم مصلح”. وطويت صفحة من صفحات الصراع بين مصطفى الكاظمي والحشد الشعبي. بيد إن هذا الصراع، صراع من أجل حسم السلطة، باقٍ في مكانه.
وأرفق الحشد الشعبي إطلاق السراح هذا بإطلاق الصواريخ، المتغطرس والمنتشي بـ”النصر”، على قاعدة بلد الجوية ومطار بغداد، دون إصابات تذكر، لأن الأمر ببساطة هو من أجل الاستعراض أكثر مما هو عمل عسكري جدي. إن إطلاق الصواريخ هذه، في هذا الوقت، هو لتوجيه رسالة باننا لن ننسحب من أعمالنا وممارساتنا وأهدافنا. إنها رسالة باننا “انتصرنا” في هذه المجابهة.
الصراع أصبح على “المكشوف”. فمهما يتحدثون عن التهم الموجهة للمنبوذ سيء الصيت وجرائمه التي لا تعد ولا تحصى، فالمسألة ليست قانونية، بل سياسية محض، صراع سياسي بين تيارين: تيار عراقي-عروبي قومي موالي لأمريكا يصطف حوله الكثيرون من أمثال التيار الصدري، علاوي، ألحكيم، العبادي والبرزاني والقوميون ألسنة. وتيار آخر موالٍ لإيران، تيار ميليشياتي صرف ومعه دولة “اللا قانون” للمالكي. ومهما تحدثوا عن القانون وهيبة الدولة، فكلا الطرفين يعرفان جيداً ما هو أساس القضايا والمواضيع، صراع كسر العظام هذا من أجل الهيمنة على آلة الدولة والسلطة في العراق.
استبشر طيف عريض في المجتمع من خطوة الكاظمي في البداية، وإن هذا نابع من مدى الغضب والسخط على هذه الجماعات المليشياتية المنفلتة العقال، عديمة الرحمة والإجرامية إلى أبعد الحدود والمديات، جماعات السلب والنهب و”التكويش” على كل مقدرات المجتمع وثرواته الهائلة. ومع إطلاق سراح النكرة هذا، أصاب الإحباط الكثيرين. إن تطلعهم من الكاظمي كان في غير محله.
أرضية مهيئة!
إن سبب تراجع الكاظمي لا يعود الى إنه “جنب البلاد حرب أهلية”، لسبب بسيط إن هؤلاء ماضون لترسيخ اقدامهم وسلطتهم ومكانتهم في الحكم وهيمنتهم التامة على المجتمع، وليس لديهم برنامج آخر، ولا يتراجعون عن تحقيق برنامجهم هذا، وكل ذلك عبر العنف والإمعان بالعنف والدم المعروفين به. وإن هؤلاء على استعداد لرمي المجتمع في ألف حرب أهلية دون أن يرف لهم جفن. إن ما يحول دون حرب أهلية فعلاً هو تدخل الجماهير المليونية وخلع أنياب مثل هذه القوى مرة وللابد.
إن الأمر لا يتعلق بالمبرر الكاذب هذا، بل يعود لافتقاد الإرادة ألسياسية تحديداً، وليس القدرة او الإمكانية السياسية أو العسكرية . فالجميع يعلم إن هذه القوى ميلشياتية صرف، تفتقد إلى أي حاضنة اجتماعية، قوة منبوذة، قوى أناسها من “البلطجية” وحثالات المجتمع، لا رصيد اجتماعي لديها، لا منجزات تذكر، لا خير لديها للمجتمع ولا حل لمشاكله، ومبعث قلق المجتمع وانعدام أمانه، لا تعترف بقانون، وقانونها هو مصالحها وحماية أزلامها وأناسها ومقدساتها كخطوط حمر!! مليشيات بنيت على أساس جوع وفقر “المتطوعين”، على أساس الرواتب، رواتب تستلمها من الدولة. إن كانت هناك رواتب!!؟ ينظم افراد هذه المليشيات لها، تقطع الرواتب عنهم، يبقون في بيوتهم. إنهم قادة الحشد الشعبي من يتذمرون من عدم التحاق قواهم التي هي بعشرات الالاف وبقائهم في بيوتهم نظراً لعدم استلامهم لرواتبهم!!
من الناحية العسكرية، الأمر كذلك. ليسوا بتلك القوة التي يتحدثون بها عن انفسهم. من الواضح إنهم صدّقوا كذبة “نحن من طردنا داعش”! عجلاتهم واسلحتهم كلها من الدولة، وقود عجلاتهم وكل أمورهم ولوجستياتهم تؤمنها الدولة. حتى ان أي مجابهة عسكرية لهم مع الحكومة، في انظار المجتمع، ستفتقد الى اي مقبولية، وستكون مبعث انزواء هذه القوى المليشياتية. ليس لها اي غطاء سياسي مفهوم ومقنع امام صفوفهم أيضاً لمجابهة “الحكومة” والدولة”، هذه الصفوف التي أتى الطيف الاوسع منها بحكم “فتوى المرجعية” التي تصطف اليوم مع الحكومة. سأعود لتناول موضوعة الفتوى.
انظر الى قادة هذه الحركة: الخزعلي، فالح الفياض، هادي العامري، أبو فدك و…غيرهم. مَنْ في المجتمع على استعداد لاعتبار هؤلاء قادته، قادة مجتمع، يسلمونهم زمام مجتمع من 40 مليون نسمة، مجتمع ذو تاريخ وحضارة وثقافة وتقاليد متقدمة وحقوق وحريات ومدنية وصناعة وطبقة عاملة وجامعات وتعليم و…؟! إن هؤلاء رقعة هجينة على جسد المجتمع، رقعة ليس بوسع المجتمع ان يهضمها ويحورها ويجعلها شيء من جسمه، لا يستطيع سوى ان يلفظها وينبذها.
ولهذا، كان بوسع الكاظمي، لو امتلك هذه الإرادة ألسياسية، ان يلف طيف واسع في المجتمع حوله بوجه هذه ألمليشيات سيئة الصيت، ويخرج بمكاسب سياسية كبيرة لتياره. اذ ليس ثمة فرصة مؤاتية لتصفية الحساب الجدي مع هذه المليشيات بقدر هذه اللحظة، ولكنه لم يفعل ذلك، وعليه، سيدفع ثمن عواقب هذا الموقف.
انتهازية محض!
أما فيما يخص فتوى السيستاني، وبمناسبة الذكرى السابعة لإصدار فتوى “الجهاد الكفائي”، من المؤمل أن يقوم الحشد الشعبي الولائي باستعراض عسكري كبير من مقاتلي الحشد وأسلحته الثقيلة. إن تعامل ممثلي المرجعية والسيستاني هو تعامل انتهازي صرف. فمع تصاعد مجابهة الكاظمي مع الحشد الشعبي، تحدث الكربلائي عن: إن ليس هناك شيء أسمه حشد شعبي ذا صلة بالمرجعية، وعن: إن المرجعية لم تتحدث سوى عن “جهاد كفائي”، وإن هذا الحشد لا علاقة له بفتوى المرجعية وإنه توظيف جماعة ما واستغلالها للدفع بها نحو جهة أخرى وأهداف أخرى!
إن السؤال المطروح هو: لماذا سكتت المرجعية كل هذه السنين، ولماذا يُطرح هذا الحديث الآن؟! إن جواب هذا الأمر معلوماً. لقد اختل توازن القوى السياسي والاجتماعي بضرر الحشد الشعبي، ولهذا نطقت المرجعية وممثليها ما في قلبها. إن سكوت الحوزة والمرجعية كان انتهازياً الى أبعد الحدود، سكتا حين رأيا إن توازن القوى ليس في صالحهما، وتحدثا اليوم لأنهما رأيا إن ثمة إمكانية لذلك.
ولكنه كان امراً معروفاً إن الساسة لا يلهثون وراء السيستاني، وإنما العكس تماماً. إنه يلهث ورائهم، يخلق المبررات لهم، يدافع عنهم حيث ثمة إمكانية للدفاع، وينفضُّ عنهم حين يرى أن السخط الشعبي قد بلغ مكاناً بحيث لا يستطيع أن يقدم على خطوة مثل هذه دون ان ينفضح. ويكتفي في كثير من الأحيان بقول العبارات العامة والمتعددة الأوجه والقابلة للتفسير بعدة اشكال حسب الظرف. إن هذا الأسلوب معروف وله وصف محدد. إنه مسك العصا من الوسط. وإلا ما لذي يمنع أن تقول المرجعية والناطقين باسمها كلامهم صريحاً وواضحاً؟! ما لذي يمنع المرجعية من اصدار فتوة صريحة وواضحة بأن الحشد الشعبي الراهن، ومنذ اليوم الأول لتأسيسه ليس له ربط بفتوى السيستاني، وإنه استغلال وتوظيف مصلحي لفتوى المرجعية، وانه مليشيات تابعة لولاية الفقيه والمرشد الأعلى خامنئي، وإن تشدقها بالحديث عن المرجعية وإقامة استعراض الذكرى السنوية السابعة لفتواه ما هو إلا رياء واستغلال لأسم السيستاني الذي ليس له أية قيمة مرجعية عندها. على المرجعية والسيستاني والكربلائي أن يتحلوا بقليل من الجرأة والكف عن هذا التلاعب بأرواح الناس. ان دماء الأرواح البريئة التي أُزهقت على أيدي الحشد الشعبي تقع على عاتق المرجعية بالدرجة ذاتها، بل واكثر (ببساطة لأنها مرجعية والفتوى فتواها!) وليس بوسعها ان تخلي عاتقها منها ابداً، وهي تتحمل المسؤولية كاملةً تجاه الضحايا.