الأخبارالمقالات

قمة شنغهاي: الوجه والمحتوى الجديد للأقطاب العالمية

نور بشير

تُعد قمة منظمة شنغهاي للتعاون، التي عُقدت في مدينة تيانجين الصينية خلال الفترة من 31 أغسطس إلى 1 سبتمبر، أكبر اجتماع للمنظمة منذ تأسيسها عام 2001. وقد استضافت الصين هذه القمة للمرة الخامسة بين 25 اجتماعًا عُقدوا حتى الآن، بمشاركة أكثر من 25 رئيس دولة، بالإضافة إلى حضور 10 دول أخرى والأمين العام للأمم المتحدة.

على عكس اجتماعات المنظمة السابقة، لم يُنقل هذا الاجتماع في وسائل الإعلام كخبرٍ عادي فحسب، بل جرى تحليله من زوايا متعددة. ركّزت بعض الوسائل على الاستعراض العسكري الصيني وعظمته، بينما سلّط البعض الآخر الضوء على خطابات الرئيس شي جين بينغ ولقاءاته مع معظم رؤساء الدول، خاصةً لقاءاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون. فيما ركّزت تحليلات وسائل إعلام أخرى على بروز نظام عالمي جديد وعالم متعدد الأقطاب، وفشل الأحادية القطبية بقيادة أمريكا والغرب. والمثير للاهتمام أن العديد من المحللين والمفكرين البرجوازيين على المستوى العالمي تطرقوا إلى نهاية عالم أحادي القطب بقيادة أمريكا وظهور عالم متعدد الأقطاب.

هذه الزوايا التحليلية التي قدّمتها وسائل الإعلام تشكّل جزءًا من تغطية قمة شنغهاي وتحوي بعضًا من الحقيقة، إلا أنها لا تعالج القضية الرئيسية للقمة، ولا البرنامج والسياسة التي تتبعها الحكومة الصينية وقائدها، ولا ما يتبناه المشاركون من دول كبرى مثل روسيا والهند، وصولًا إلى دول مثل تركيا وإيران. بعبارة أخرى، لا تبرز هذه التحليلات النقطة المحورية للقمة التي عُقدت في عالمٍ متعدد الأقطاب، ولا توضّح أهداف واستراتيجيات روسيا والصين، وخاصة الصين.

قبل هذه القمة، برزت الصين كقوة اقتصادية وقطب رأسمالي كبير سيطر على حصة مهمة في السوق العالمية، وهي حقيقة لا ينكرها حتى منافسو الصين بما فيهم أمريكا. لكن الاستعراض العسكري الضخم خلال أيام القمة، بمناسبة ذكرى انتصار الصين، بحضور 26 رئيس دولة، وعرضها لقوة عسكرية متطورة برّية وجوية وبحرية بأحدث الأسلحة والتقنيات، قدّم رسالة أخرى إلى العالم المتعدد الأقطاب.

وجّهت القمة والرئيس الصيني، من خلال الاستعراض الاقتصادي والسياسي والعسكري بمناسبة الذكرى الثمانين لانتصار الصين على اليابان في الحرب العالمية الثانية، رسالةً مفادها أن العالم المتعدد الأقطاب اليوم لا يقتصر على أمريكا وروسيا فحسب، بل هناك أقطاب أخرى آخذة في التشكل والبروز، والصين إحداها. فقد أثبتت الصين حضورها ليس كقوة اقتصادية فحسب، بل أيضًا كقوة عسكرية كبيرة. أي أن الصين قدّمت نفسها كقطب اقتصادي وسياسي وعسكري كبير، ليس لأمريكا وأوروبا فقط، بل أيضًا للدول المشاركة في القمة، بما فيها روسيا التي تُعرف كقطب منافس لأمريكا. وقد أظهرت الصين أنها حتى بين هذه الأقطاب المنافسة لأمريكا، تُعدّ الأقوى في إطار هذه القمة.

شكّلت هذه القمة إطارًا لجمع الدول المتحالفة والمتعاونة مع روسيا والصين في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، ليس فقط في إطار قوة اقتصادية عالمية، بل أيضًا في إطار قوة سياسية وعسكرية كبيرة. ولم يقتصر الأمر على الحلفاء، اعضاء منظمة شنغاي للتعاون أو الدول المنضوية في تحالف “بريكس” الاقتصادي، بل امتدّ إلى دول سعت أمريكا لإبعادها عن الصين، مثل روسيا والهند، اللتين حضرتا وشاهدتا الاستعراض الذي قدّمته الصين للعالم. والأكثر من ذلك، حتى دول مثل تركيا والبحرين ومصر، التي تربطها علاقات تقارب مع أمريكا وأوروبا، حضرت القمة.

لم يقتصر ظهور الصين في قمة شنغهاي على إثبات نهاية العالم أحادي القطب بقيادة أمريكا وبدء مرحلة التعددية القطبية، فالعالم وصل إلى هذه المرحلة منذ فترة، وأمريكا لم تعترف بذلك فحسب، بل سعت أيضًا لاحتلال مكانة بين هذه الأقطاب. بل كان الهدف أيضًا إظهار أن هذا العالم المتعدد الأقطاب يقوم على أساس عرض القوة والتسليح والسباق العسكري، واستمرار التهديدات التي قد تجرّ العالم إلى الاضطرابات والحروب والكوارث! يشكّل عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي تحت سيطرة الرأسماليين الرجعيين والمعادين للإنسانية كابوسًا مرعبًا على المجتمع البشري.

كشفت قمة شنغهاي أن العالم اليوم يشهد جهودًا كبيرة من قبل الدول الامبريالية الرأسمالية الكبرى للظهور كأقطاب عالمية، حيث تسعى كل منها لتحقيق النفوذ العالمي والمشاركة في تشكيل وقيادة وتقسيم العالم وفق مصالحها.

أظهرت الصين، كقطب رأسمالي كبير، في تلك القمة أن القيادة العالمية لا تقتصر على توفير اقتصاد ضخم وضمان مكانة في عالم يتطور فيه الذكاء الاصطناعي والتقنية بشكل ملحوظ، بل يجب أن تقترن بقوة عسكرية كبيرة. وقد تجلّى ذلك بوضوح في مواجهة القطب المنافس المتمثل بأمريكا. عمليًا، لم يطالب شي جين بينغ فقط الدول المشاركة في القمة بالانضمام إلى هذا المسار، بل دعا دولًا أخرى إلى الإصرار على نقاطها المشتركة وحل خلافاتها، مظهرًا استعداد الصين الاقتصادي والسياسي والعسكري لذلك.

مرحلة ما بعد قمة شنغهاي هي مرحلة جمع قوى الأقطاب العالمية، وتعزيز صفوفها اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا. وفي مواجهة أمريكا، تتجه الصين وروسيا نحو الدول العربية والإسلامية، حيث تُظهر مجاملة للإسلام والدول الإسلامية، وتسعيان في إفريقيا حيث انسحبت العديد من الدول من تحت النفوذ الأمريكي والأوروبي وأصبح بعضها مقربًا من روسيا، مما يفتح الباب أمام دورة جديدة من عدم الاستقرار والتضليل على المجتمع البشري.

قلق ترامب من قمة شنغهاي واتهامه إياها بالتآمر ضد الولايات المتحدة يعكس قلق المؤسسة الحاكمة الأمريكية والبرجوازية الأمريكية من المكانة التي احتلتها الصين وأعداء أمريكا في تقسيم العالم، وكيف أخذوا مكان أمريكا! في المرحلة المقبلة، ستُعيد أمريكا النظر في موقعها وسياساتها، من خلال إظهار القوة والاستعداد لاستخدامها لمنع انهيارها وصعود أعدائها العالميين بما في ذلك تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، حيث يقول ترامب: بسبب وضوح الوضع العالمي الحالي ذلك الاسم

. (أكثر ملاءمة)هو

هذه الأقطاب المتشكّلة – أمريكا وروسيا والصين، وصولًا إلى جهود الدول الأوروبية وخاصة فرنسا وألمانيا وبريطانيا، التي هي في موقع أضعف وتعاني مشاكل داخلية – كلها كدول رأسمالية كبرى تهدف إلى صياغة العالم وتقسيمه لمصلحة الرأسماليين الطفيليين. والصين أيضًا ليست بمنأى عن المشاكل داخل هذه القمة، بدءًا من الخلافات بين الهند وباكستان، وصولًا إلى موقع وقيادة الصين أو روسيا داخل قمة شنغهاي.

لا يمكن للإنسانية أن تتوقع وضعًا أفضل للعالم في ظل النظام الرأسمالي الإمبريالي متعدد الأقطاب مقارنة بمراحل الأحادية أو الثنائية القطبية للكتل الإمبريالية السابقة. بل إن الصراع والتنافس بين الكتل الإمبريالية البرجوازية سيعرّض العالم والإنسانية أكثر من أي وقت مضى لمخاطر الكوارث والفقر والقمع وغياب العدالة. لذلك، رغم الوضع البائس الذي فرضته البرجوازية على الطبقة العاملة والحركة العمالية والشيوعية والإنسانية التحررية، ورغم هجماتها المتصاعدة على معيشة وحقوق وحريات الطبقة العاملة حتى في أحضان الديمقراطية البرجوازية، فإن الطبقة العاملة والإنسانية التحررية لم تستسلما، وتواصلان المقاومة وتصعيد النضال من أجل عالم أفضل وجدير بالإنسان في هذا العصر. إن التحركات التي جرت في أوروبا وأمريكا وحول العالم ضد عدوان إسرائيل المستمر هي رسالة مفادها أن الطبقة العاملة وحركتها والإنسانية التحررية مستعدة لتقوية ساحات نضالها للدفاع عن نفسها وصدّ اعتداءات البرجوازية والإمبريالية وأقطابها وكتلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى