كيف أطاح نضال المرأة في إيران، بـ”صروح” نظرية بالية؟!
لطالما صدّع الاعلام الغربي ومفكرو الغرب ومؤسساتهم الثقافية والاكاديمية لعقود، أدمغتنا و “حشّوا” عقول الانسان في الغرب والعالم بأن حكام وانظمة بلدان مثل الشرق الاوسط وافريقيا، وحدود حقوق وحريات الانسان هي انعكاس لوضع مجتمعاتها وتعبير عنها. أن تمسك بالسلطة حكومة مثل طالبان في افغانستان أو الجمهورية الاسلامية في ايران، او تصدر الفتاوى “شبه الرسمية” بحق تسليمة نسرين او يقتل فرج فوده فذلك لان المجتمعات “اسلامية”، وان تبقى السلطة الملكية في دولة مثل الاردن جاثمة على قلوب الجماهير هناك لعقود مديدة فذلك لان المجتمع عشائري او ان السلطة في العراق هي طائفية لان لموضوعة “الشيعة” و”السنة” والحسين وعمر وعائشة مكانة في قلوب المجتمع وفي معتقدات الناس “الازلية”. أن كل هذا لا يتعدى هراء. ان الامر سياسي وليس له اي علاقة ب”الماهية الازلية للمجتمعات”!
لقد طرقت مهسا اميني وحركة رفيقاتها وعشرات الالاف من التحررين ونضالاتهم في ايران كل باب في العالم. إذ غطتها الوكالات العالمية وتناولتها بأوسع نطاق ممكن، وتحولت الى قضية الساعة.
إن ثمة قضية فنّدتها الحركة الاحتجاجية الجارية لنساء وتحرري المجتمع في ايران، وكشف عفونة تلك الادعاءات التي ترى ان قوانين السلطة ووجود من أمثال خامنئي ورئيسي هو انعكاس لوضعية المجتمع وقواه الاجتماعية، وان الحجاب هو أمر عادي في المجتمع وفي تاريخه و”عقائد” افراده، ولهذا ترتديه النساء وليس لديها مشكلة تذكر معه. كما لو ان هذه العقائد فصيلة دم لهم، قدر ليس من حقهم الفكاك منه حتى لو أرادوا!!
لقد انتفضت النساء بوجه الظلم والقمع وانعدام ابسط الحقوق الشخصية، حق عدم لبس الحجاب، حق اطلاق شعرهن، حق اختيار الملبس. أهذا امر كثير على بشرية القرن الحادي والعشرين؟! لقد بينت النساء في ايران بالملموس وبصورة عملية ان الحجاب ليس له ربط باختيارهن، انه قرار فرضته حكومة اسلامية جائرة معادية حتى النخاع للمرأة في ايران، بهدف اخضاع نصف المجتمع لسلطتها. انه قرار املته وفرضته حكومة اسلامية ولدت متأزمة من اليوم الاول لسلطتها وحكمها. متأزمة كونها، من بين أسباب أخرى لا مجال لذكرها هنا، تتناقض مع طبيعة المجتمع في ايران، رقعة نشاز على جسد المجتمع، مجتمع غناء وفرح وطرب ورقص وحريات فردية وادب وفن، وللنساء وللمدنية واليسار حضور ومكانة في المجتمع منذ ما يقارب القرن من الزمن. مجتمع للعصرية والمدنية والقيم المتقدمة، وفي قلبها مكانة المرأة وحقوقها وحرياتها، مكانة في المجتمع. متأزمة من الناحية الثقافية، لان قيمها لا صلة لها بثقافة المجتمع، او على الاقل الاغلبية الساحقة للمجتمع.
أكثر من 42 عام من عمر الجمهورية الاسلامية المشؤوم، ورغم كل محاولاتها من غسيل دماغ الاطفال و الضخ الدعائي الطائفي والديني، ورغم كل القوانين القروسطية التي فرضتها على المجتمع، ورغم ابواق الالاف من منابر الجمعة والحسينيات و… ناهيك عن القمع والسجون والاعدامات ورمي التيزاب على اجساد ووجوه غير المحجبات و”المتبرجات”، الا انه تبين ان كل هذا غير كاف لإقناع النساء بأمر اخر واختيار اخر، اي الرضوخ للسلطة والقوانين الاسلامية! فكم عقد (وربما قرن!) اخر تحتاجه الجمهورية الاسلامية كي تحول الحجاب الى امر عادي وتتقبله النساء بوصفه جزء من هويتهن الشخصية؟! ان هذا الفرض غير منطقي وغير صحيح، ببساطة لأنهن لن يقبلن به وليس جزء من هويتهن، بل بالضد من هويتهن الانسانية وتطلعاتهن.
نظريات وأهداف!
لماذا يأتي الغرب بمثل هذه النظريات التي تصور الحكومات والسلطات في المنطقة امتداداً لطبيعة المجتمع؟ ببساطة، يرى الغرب الاجرام والاستبداد القائمين في الشرق الاوسط وشمال افريقيا وغيرها ويعرف حق المعرفة كم ان انظمة هذه البلدان قمعية وغير انسانية وفاسدة. ولفك ياقتها من نقد وشجب العالم المتمدن لها نظراً لتعاملها مع مثل هكذا انظمة وسكوتها عن اعمال وممارسات هذه الانظمة وخرق الحريات والحقوق هناك، تأتي بمثل هذه النظريات! نظريات ان هذه مجتمعات اخرى، تعمل وفق اليات وديناميات أخرى غير مفهومة لنا نحن العالم الغربي!! لا تنطبق عليها مقولاتنا الخاصة بالحرية والحقوق والخ. تأتي بهذه النظريات كي ترد على وتبرر تنصلها عن تشدقاتها حول حقوق الانسان والحرية و غيرها.
ان كان للغرب، للرأسمالية الغربية وحكوماتها الساهرة على مصالحها، مصلحة في اشاعة هذا التصوير عن هذه البلدان وحكوماتها وقوانينها. ببساطة كي تغض النظر عن كل الجرائم التي ترتكب بحق النساء والتحررين والمساواتيين في تلك المجتمعات، كي تديم تجاراتها ومصالحها الاقتصادية والتجارية وارباحها. فجشع الرأسمال غير المحدود لا يهمه رجم النساء، وجلدهن، وفرض الحجاب عليهن و … غيره. انها حاجات ومتطلبات جشع الرأسمال!
وخير شاهد على هذا ما جرى وما يجري في دول الخليج. راينا وبجرة قلم بسيطة كيف لبت الحكومة في السعودية مطلب حق تمتع المرأة برخصة قيادة، وحق المرأة بان تكون “سفور” و ان عدم لبس الزي السعودي والخليجي التقليدي بالضرورة قد اصبح حق، وان اي تعرض ومضايقة للمرأة السفور في السعودية يجابه بشدة من قبل الشرطة والمحاكم، كما اصبح السكن المشترك بين الجنسين في الامارات لا يستلزم اثبات وورقة زواج او تبيان صلة…. كل هذه جرت، ورحبت بها مجتمعات تلك البلدان، دون ان يتحدث احد عن “عادات” و”ثقافة” مجتمع!! لسبب بسيط ان كل هذه من متطلبات جلب رؤوس الأموال والتجارة السياحية وسعي تلك البلدان للانفتاح، وهو ما يتناسب مع حاجات وتطلعات المجتمع اليوم!
لم تبين الحركات الاحتجاجية للنساء وسائر التحررين في ايران بان هذا النظام لا يمثل ولا يعكس واقع المجتمع في ايران فحسب، بل تناضل الجماهير والعمال والنساء والشبيبة في ايران لا من أجل تعديل هذا النظام، بل ازاحته وكنسه من حياتها مرة وللابد. اذ راينا كيف تمركزت اغلب الشعارات وتمحورت حول هذا الامر، وراينا كيف ترقص النساء لترمي الحجابات في النار وسط تصفيق وفرح جماعي كبير.
ان العالم اكثر كونية اليوم من اي وقت مضى. انه عنصر الانترنيت والفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي. تنظر المرأة في ايران والمنطقة وترى لحظة بلحظة كيف هو حال النساء والمجتمع وما يجري في لندن وباريس وبرلين، وتنشد وضع لها لا يقل عن وضع ارقى البلدان العالمية. لا يقول الانسان في المنطقة ان هذه حقوقهم لأنه هذا وضع بلدانهم، وانا اقبل بحصتي المتدنية جراء وضع البلد الذي اعيش فيه. لا يقول هذا قط. يقول الانسان ان حياتي اعيشها مرة واحدة للأسف، لماذا لا أعيش مثلهم، وينبغي ان أنال الحد الاقصى من المكاسب والاشياء ولا ارضى باقل من ذلك.
ليس ثمة سقف لتطلعات الانسان مهما حقق من مكاسب وحقوق وحريات. ان الحقوق حقوق، انسانية. ليس ثمة حقوق محلية، او تُعرّف على اساس محلي مثلما تدعي نظريات ما بعد الحداثة والتعددية الثقافية وغيرها المغرقة في الرجعية والعنصرية. نظريات ترى الانسان في اليمن أو الجزائر في مكانة دونية مقارنة بأمرئ ايطالييٍ او المانيٍ. ان حقوق الانسان هي حقوق إنسان عالمية وكونية وشاملة للجميع أين ما كان.