لأي يسار ننتمي؟ موضوعة (اليسار ) بين التيار الاشتراكي والبرجوازية الصغيرة
ما زال مبكرا القول إن المنهجية الماركسية، ــ التي أعاد منصور حكمت والشيوعية العمالية البريق لها انظر كراس – اختلافاتنا لمنصور حكمت ــ قد قامت بتصفية الحساب بشكل نهائي مع النزعات والمقولات واِلموضوعات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، التي تسربت إلى صفوف الاشتراكيين والشيوعيين منذ هزيمة ثورة أكتوبر على يد التيار القومي الروسي بقيادة ستالين. وعلى الرغم من أننا قد كتبنا ولو بشكل مقتضب عن موضوعة ومنهجية “اليسار” والأسس الطبقية التي تقف عليها تلك المنهجية في بحثنا “الحزب الشيوعي العراقي وموضوعة التحالفات-مجلة (المد العدد 8) ، فإننا سنستغل هذه المناسبة أيضاً كي نفصل أكثر ونتعمق في التحليل، كي نوضح للقارئ بشكل قاطع ما هو؛ يسار المجتمع بشكله المادي والواقعي، وما هو معيار مفهومنا لليسار من الزاوية الطبقية ومصالح الطبقة العاملة، إذ لا توجد مفاهيم ومقولات خارج الطبقات والصراع الطبقي وهذا أمر بديهي وغير مختلف عليه بين الشيوعيين والماركسيين. وسنتطرق أيضا إلى موضوع يتعلَّق بالكيفية التي ألصقت فيه تهمة العلمانية والتحررية بالتيارات البرجوازية، عبر تحليلات سياسية لا تخلو من الانتقادات الأخلاقية التي كان هدفها لوي عنق تلك التيارات وحشرها في خانة اليسار على العموم، بغية إيجاد مبرر للهجوم على الاشتراكيين والحركات الداعية للمساواة تحت مظلة الهجوم على تلك التيارات البرجوازية .أكثر من ذلك أن التشويه والالتباس حول موضوعة” اليسار” وصل في هذه المنهجية إلى أن الحدود بين التيارات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة تكاد تكون ضائعة إذا لم نقل غير موجودة أصلاً ممحية. ولذلك نجد أن إطلاق مقولة (اليسار) على التيارات والأحزاب البرجوازية دون اي تحليل طبقي ضمن سياقه التاريخي الصحيح تكاد تكون شائعة، وعليه ووفقاً لنفس المنهجية ترتفع دعوات بين الحين والآخر إلى توحيد (( اليسار)) وتكاد تكون دعوات موسمية، في كل حدث انتخابي أو انعطافه سياسية في المجتمع، وهؤلاء الدعاة يستندون إلى الإخلاص الذهني والنقاء الأيديولوجي، ويسترشدون بدعواتهم على نياتهم المخلصة التي هي خارج إطار أي برنامج سياسي عملي.
وبالتحليل الأخير فإنَّ كيفية التعامل مع هذه المنهجية بشكل عملي ونقدها، اي نقد منهجية البرجوازية الصغيرة في فهمها لموضوعة (اليسار) ــ الذي بات رائجا في الوسط الاجتماعي والثقافي وحتى الفكري، فقد أصبحت تنشر الضبابية والتيه أمام النقد الماركسي والطبقي والثوري ــ من شأنه تسليح التيار الاشتراكي والطبقة العاملة بمنهجية ماركسية تجنبها التوهم بالتيارات البرجوازية وأهدافها وتجنبها الوقوع في شراكها وكمائنها السياسية، ومن شأنها الحفاظ على استقلالها السياسي، وان تتحول إلى راية نضالية للطبقة العاملة في سعيها المتواصل من اجل إعادة وقلب العالم المقلوب الذي نعيشه إلى حالته الطبيعية.
انتزاع اليسار من الطبقات:
ليس هناك (يسار) هكذا على العموم، وليس هناك يسار خارج الطبقات أو خارج المصالح الطبقية كما أسلفنا. إلا أنّ أنَّ هذه المقولة سوقت، وأصبحت عنواناً للعديد من الظواهر السياسية، منتزعةً منها جذورها الاجتماعية والطبقية. فمثلا أن نرى (اليسار المعادي للإمبريالية) وخاصة الأمريكية “وربيبتها إسرائيل” كما يقولون، يصُنِّف حزب الله اللبناني باليسار لرفعه راية معاداته لإسرائيل، كما صنفت الجمهورية الإسلامية في ايران في خانة اليسار لأنها معادية لأمريكا، في الوقت الذي يعرف فيه القاصي والداني أنها جمهورية الإعدامات، جمهورية ارتكاب المذابح بحق اليسار على العموم والشيوعيين الذين مازالت مقابرهم الجماعية شواهد على تلك الجرائم، جمهورية رمي النساء بالحجارة وقتلهن تحت عنوان الدفاع عن الشرف أو غسل العار، جمهورية الجوع والخوف، جمهورية اعتقال وسجن القادة والنشطاء العمال. وهكذا أيضاً صُنِّفَ نظام صدام حسين وحزب البعث باليسار من قِبَل(اليسار المعادي للإمبريالية) لأنَّه رفع لواء تحرير فلسطين في الوقت الذي أعدم وسجن الآلاف من الشيوعيين واليسار، كما صنف نفس حزب البعث السوري باليسار أيضا لابتكار مقولة جديدة محور “المقاومة والممانعة“في حين أنَّه لم يقل وحشية عن شقيقه الحزب العراقي … وهلم جرا.
طبعا بالنسبة لنا لا تعدّ مقولة اليسار مجردة من محتواها الطبقي، ولا نصنف ولا نطلق مفهوم اليسار إلا على الحركات الاجتماعية المبنية على أساس المصالح التي تخدم الطبقة العاملة وعموم محرومي المجتمع، مثل الحركات من اجل تحرر المرأة والدفاع عن الحريات السياسية والحقوق والحريات الفردية والدفاع عن البيئة وإنهاء حكم الإعدام.. الخ
ونحن نرى في أحيان كثيرة إن معاداة الإمبريالية تأتي فقط من زاوية الدفاع عن البضاعة الوطنية والمنتج المحلي، بغض النظر عن أن الجهة التي تستثمر العامل وظروف عمله وشروطه عيشه لا تختلف من حيث البؤس؛ سواء كان الرأسمال أجنبي او وطني، وهذه المعاداة التي تم تجريدها من محتواها الطبقي لا تعني بالنسبة لنا اي شيء. بيد أن هنالك حركات معادية للإمبريالية ننظر إليها من زاوية أخرى مثل الحركات التي تناهض دعم الإمبريالية للأنظمة الدكتاتورية والفاشية في العالم، أو تلك التي ترفض ضرب الحركات التحررية والاشتراكية، أو التي تدافع عن البيئة والتغيير المناخي، فهذه الحركات مهمة بالنسبة لنا، فهي تقوي الحركة الطبقية المناضلة والمجابهة للنظام الرأسمالي وتسهم في دك أسسه ومن ثم تسهل من بناء نظام أشتراكي بديل قائم على المساواة المطلقة في جميع الميادين.
ومن البديهي أنَّه مثل ما للبرجوازية أجنحة يسارية ويمينية فأن الطبقة العاملة لها أيضا أجنحة، ونرى أنَّه لا يجوز انتزاع المقولات من جذورها الطبقية وتعويمها وبعد ذلك تعميمها وإطلاقها بشكل عشوائي هنا وهناك. فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ مقولات مثل العلمانية واليسارية والتحررية، هي ليست واحدة، هي ليست تيار سياسي اجتماعي طبقي متناسق وموحد، إذ يمكن أن تكون هناك تيارات برجوازية تتخذ موقفاً تحررياً يصنف باليساري في مرحلة تاريخية معينة بصدد قضية من قضايا اجتماعية وسياسية محددة، ولكن في فترات تاريخية أخرى تتحول إلى واحدة من أقطاب اليمين وبحسب مصالحها الطبقية، فمثلا أن تحرير العبيد في الولايات المتحدة الأمريكية جاء على يد الحزب الجمهوري بقيادة أبراهام لينكون إلى الحد الذي بعث ماركس رسالة تهنئة عند إعادة انتخابه، وقد جاءت الرسالة الجوابية على لسان وزير الخارجية آنذاك بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستبقى أبدا يسارية، في حين يعتبر اليوم الحزب الجمهوري الأمريكي هو حزب يميني وعنصري ومعادي للمهاجرين والمثليين وحق الإجهاض ومجانية التعليم والصحة، ووقف بشكل حازم ضد مشروع اوباما للصحة الذي يوفر الرعاية الصحية لشرائح اجتماعية كبيرة من المواطنين بشكل مجاني، بحيث قوض العديد من بنوده كي يوافق على تمريره في الكونغرس المعروف (اوباما كير). وهكذا بالنسبة للدولة التركية والحزب القومي MHP المتحالف اليوم مع حزب اردوغان وهو حزب كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، وهو من فصل الدين عن الدولة والمجتمع، لكن يعتبر ذلك الحزب وتعتبر الدولة التركية قومية وفاشية على الرغم من علمانيتها، وليس لها أيّ ربط بمعيارنا اليساري الذي وضعنا. كما أن العسكر الذي يعدّ عبد الناصر أحد أقطابه وتياره السياسي والاجتماعي كان معاديا لحد النخاع للطبقة العاملة، وفي بداية الانقلاب عام 1952 الذي سموه كذبا وزورا بثورة يوليو، دشن العسكر سلطته بإعدام اثنين من قادة الحركة العمالية المصرية وهم محمد مصطفى خميس ومحمد عبد الرحمن البقري في يوم 12 آب من نفس العام، اي بعد اقل من شهر على الانقلاب الذي ما زال يحكم إلى يومنا هذا، وكان إعدامهم بسبب إضراب عمال الغزل والنسيج في كفر الدوار إذ طالبوا برفع الأجور وتحسين ظروف عملهم وبسكن لائق بهم. وكان إعدام البقري وخميس رسالة واضحة للطبقة العاملة المصرية في قمع اي شكل من أشكال الإضراب والاحتجاج، وهي نفس الرسالة التي وجهها حزب البعث العراقي يوم 5 تشرين الثاني من عام 1968 عندما فتح النار على إضراب عمال الزيوت النباتية بعد اقل من أربعة أشهر من استيلائه على السلطة، ومع هذا صُنِّفَ الإثنين، التيار الناصري وحزب البعث وهما من اشد أعداء العمال والتحررين في خانة اليسار، لانهما كان يحملان راية العروبة المعادية لإسرائيل وأمريكا، ولذلك لا يصح أبدا وضع العلمانية واليسار في سلة واحدة فلا يفترض دائماً أن يكون العلماني يسارياً.
اليسار واليمين البرجوازي:
إن من يتابع مسيرة الأحزاب الشيوعية التقليدية المنتمية للمدرسة السوفيتية في العالم العربي، يرى أنها لم تكن أحزاب تحررية بقدر تحررية الطبقة التي حاولت تمثيلها في سياق مرحلة تاريخية معينة، اي كانت تلك الأحزاب تحررية بالمعنى الضيق للمقولة عندما كانت الطبقة التي مثلتها تتصارع مع الاستعمار وهيمنته على الأسواق المحلية، كانت تلك الأحزاب تمثل مصالح الطبقة البرجوازية الوطنية (القومية المحلية) ، وكانت بحاجة أن تثوِّر المجتمع بجميع شرائحه الاجتماعية لإنهاء هيمنة الاستعمار، وكانت تلك الطبقة بحاجة أيضا للقضاء على بقايا الإقطاع والأفكار والتصورات السائدة في المجتمع التي تعيق من تطور حركة الرأسمال المحلي او الوطني، اي كانت بحاجة إلى بناء فوقي وتحتي بما يتناسب مع تطلعات الطبقة الجديدة، فبناء سوق محلية وتشييد بنية تحتية حديثة وفتح مصانع ومعامل تنتج سلع محلية بحاجة إلى مكننة وتكنلوجية وتعليم وأيدي عاملة كبيرة، ولذلك كانت الحاجة الطبقية هي وراء الدعوة وأدراج في برامجها السياسية، فتح الجامعات، والقضاء على محو الأمية في العديد من البلدان بما فيها العراق ومصر على سبيل المثال، وجر النساء إلى سوق العمالة بسبب الحاجة إلى الأيدي العاملة وسواها. إذ أنَّ كل هذه العوامل أدت إلى أن تكون هذه الأحزاب التي مثلت البرجوازية الوطنية الصاعدة واقفةً في خانة “التحررين“. إلا أن حدود تحررية الأحزاب هي حدود حاجة طبقتها، وقد وقفت عندها عندما اكتفت الحاجة الطبقية للتحرر من وجهة نظرها، فنجد أن نفس البرجوازية الوطنية التي رفعت إعلاء شأن المرأة، ارتدت من جديد بعد فشل مشروعها الاقتصادي في بناء دولة حديثة قادرة على وضع أسواقها في مصاف ومستوى السوق الرأسمالي العالمي وربطها به، وألقت بتداعيات ذلك الارتداد على كاهل الطبقة العاملة وبالدرجة الأولى النساء، فهي أول من دعت إلى عودة النساء إلى البيت، لان السوق لا يتحمل المزاحمة مع الرجال العاطلين عن العمل مثلما حدث في تصريحات صدام حسين عشية انتهاء الحرب العراقية–الإيراني. وهكذا ومع فشل مشروع اليسار القومي البرجوازي العربي وخاصة بعد هزيمة حزيران 1967 وغزو إسرائيل لجنوب لبنان 1982 (الثقافة والايدلوجيا في العالم العربي–فهمية شرف الدين)، ومقابل ذلك الفشل برز التيار الإسلامي في ايران بعد ثورة 1979 إلى السلطة عبر الثورة المضادة وتأسيس الجمهورية الإسلامية في ايران، فقد انتقلت البندقية من كتف اليسار وهو الأحزاب الشيوعية العربية والقومية إلى كتف اليمين وهو القوى الإسلامية، وكان صعود التيار الإسلامي للوهلة الأولى في العالم العربي هو نتيجة فشل المشروع القومي العروبي على الصعيد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي (دنيا الدين والدولة، الإسلاميون والتباسات مشروعه–دلال البزري). وكان شعار “الإسلام هو الحل” الذي رفعه أولاً، الإخوان المسلمين في مصر التسعينات ردّاً على فشل ذلك المشروع، وهكذا نجد أن الجذر الطبقي الاجتماعي للأحزاب الشيوعية العربية هي نفس جذر التيار القومي العروبي، وهذا يفسر دون أي عناء، موافقة الحزب الشيوعي المصري حلّ نفسه والدخول إلى الاتحاد الاشتراكي مع التيار الناصري في مصر، ونفس الشيء عندما دخل الحزب الشيوعي السوري جناح خالد بكداش في جبهة وطنية مع الحزب البعث السوري ويصح نفس الشي بالنسبة للحزب الشيوعي العراقي في جبهة واحدة مع حزب البعث العراقي.
العلمانية بين اليسار البرجوازي واليسار العمالي:
لم تكن أبدا الراية العلمانية أو بدقيق العبارة شعار (فصل الدين عن الدولة) من الشعارات المركزية أو الأساسية لتلك الأحزاب سواء كانت قومية أو شيوعية، ولم تكن أيضا لديها أية مشكلة أن يكون الإسلام كدين جزء من دستور الدولة أو أحد مصادر التشريع أو المصدر الرئيسي للتشريع. والحقيقة هي أنَّ صراع هذه الأجنحة التي مثلت يسار الطبقة البرجوازية من الأحزاب الشيوعية العربية والقومية مع يمين البرجوازية الذي مثله التيار الإسلامي هو مجرد صراع على كيفية إدارة الطبقة البرجوازية للمجتمع على الصعيد الاقتصادي والسياسي وتأمين مستلزمات استثمار العامل بأفضل السبل في سوق المنافسة السياسية والاقتصادية العالمية للحصول على معدل ميل ربح مناسب لها انظر (خصائص تطور الأنظمة الرأسمالية التابعة–منصور حكمت). صحيح أن الأحزاب القومية العربية والشيوعية هي أحزاب تتعامل مع الدين بشكل ليبرالي في حدود معينة، إلا أنها لم ترفع شعارً ولم تسعى ولم تعمل من أجل فصل الدين عن الدولة، واكثر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، نرى أن عدد الجوامع والمساجد تضاعف في زمن عبد الناصر إلى ٢١ الف جامع ومسجد مقارنة ب ١١ الف قبل انقلاب العسكر او مع العهود التي سبقته، وأصبحت مادة التربية الدينية إجبارية في التعليم في حين لم تكن كذلك في العهد الملكي…انظر بالتفصيل إلى(العلمانية بين الطبقات وتياراتها السياسية–الحوار المتمدن– سمير عادل)، وليس هذا فحسب فلن تجد في صفحات التاريخ السياسي للأحزاب الشيوعية مادة في برامجها السياسية تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، طبعا هنا اذا حددنا مقولة العلمانية كأحدى المعايير في تقييمنا للأحزاب الشيوعية، فما بالك بالنسبة للأحزاب القومية.
إن الصراع في المنطقة العربية لم يكن أبدا صراعاً فضائياً خارج المجتمع، ولم يكن محور ذلك الصراع من أجل العلمانية ومساواة المرأة والحريات السياسية والحقوق الفردية، بين القوى الإسلامية وبين الأحزاب القومية التي صنفت بالعلمانية واليسارية “الشيوعية التقليدية” كما يصوره العديد من مثقفي البرجوازية الصغيرة داخل منظماتهم (اليسارية)، لقد كان صراعاً بين أجنحة مختلفة للطبقة البرجوازية نفسها، كما قلنا فإن جوهره ينصبّ على آلية بناء دولة وسوق محلية يرتبط بالسوق الرأسمالية العالمية وقادرة على المنافسة والحصول على قسمة عادلة، وهنا لابد من ذكر أن كثير من القضايا أثيرت بمعية ذلك الصراع الرئيسي، مثل قضية تحرر المرأة، والحريات والحقوق الفردية والحريات السياسية وغيرها.
ويلاحظ إن إحدى الحلقات المهمة في الصراع بين تلك الأجنحة هو قضية المرأة، التي تعدّ بالنسبة للتيار الإسلامي جزءاً من هويته السياسية، وأن من مصلحته إخضاع نصف المجتمع وفرض الإذعان عليه بغية السيطرة بشكل كلي على المجتمع عبر فرض تلك الهوية، وهذه مسألة مهمة في استراتيجية التيارات الإسلامية من أجل الهيمنة والنفوذ والسيطرة على السلطة، وعلاوة على ذلك فأن إعادة النساء إلى بيوتهن لم يكن من ابتكار ودعوات التيارات الإسلامية، بل هي جزء من تداعيات فشل المشروع القومي الاقتصادي والسياسي، والذي كان نتيجته بطالة مليونيه وفقر وفساد، وبالنسبة للسلطة البرجوازية القومية الحاكمة، فقد حتم عليها امتصاص تداعيات فشل ذلك المشروع بأقصاء نصف الأيدي العاملة أي النساء وإخراجهنّ من سوق العمل لاستيعاب مشكلة البطالة بالنسبة للرجال. وأنَّ هذا الإقصاء بحاجة إلى تنظير أيديولوجي وسياسي، فبالنسبة للتيار الإسلامي استخدم حججه الدينية لدونية المرأة، بينما كان نظام البعث في العراق مثلاً، وفي الوقت الذي شرع فيه بطرد الفائضين عن العمل عام 1986 ولاسيما النساء، فإننا نجد تصريحات صدام حسينفي لقاءاته التلفزيونية تدعوهنَّ إلى الجلوس في البيت من أجل تربية الأطفال والافتخار بزوجها الموظف والعسكري. الخ.
بالنسبة للأجنحة البرجوازية الأخرى مثل القومية والشيوعية التقليدية دفعت بالتصعيد السياسي والفكري ضد الإسلاميين في قضية المرأة، كسلاح لتعبئة المجتمع وجره خلفها في صراعها مع القوى الإسلامية. ويصح نفس الشيء عن الحقوق والحريات الفردية والحريات عموما، والتي لم تخرج جميعها عن دائرة الإعلام والدعاية ولم تؤطر بقوانين وحقوق دستورية في الدولة. اي لم تتجاوز صيحات تلك الأجنحة حول قضية المرأة والحريات ومدنية المجتمع حدود الزعيق الإعلامي. وهنا لابد من الإشارة أنَّه ليس هناك اي حزب من تلك الأحزاب سواء القومية التي في السلطة في العالم المصنف بالعربي باستثناء تونس او الأحزاب الشيوعية، رفعت شعارات بديلة تحررية وتقدمية في صراعها مع القوى الإسلامية، مثل المساواة التامة بين المرأة والرجل على الصعيد الحقوقي على الأقل أو شعار فصل الدين عن الدولة و التربية والتعليم. إن هذين الشعارين لا يمكن الفصل بينهما، فأساس استعباد ودونية المرأة في القوانين مستمدة من الإسلام الذي هو جزء من دستور الدولة.
وعليه نرى أن الحركة المطالبة بمساواة المرأة وحركة التحرر الإنساني وحركة نيل الحقوق والحريات الفردية التي تغيض كثيرا القوى الإسلامية هي حركات إن وجدت فهي في ذيل اهتمامات تلك الأحزاب البرجوازية أو ما صنف باليسار البرجوازي، ولا تمتلك تلك الحركات آفاق مستقلة وليس لديها القدرة أن تفصل نفسها عن تلك القوى البرجوازية، التي ليس من مصلحتها أبداً التحرير الكامل للمرأة، وتحقيق المساواة الكاملة التي تضرب صميم استثمار العمل المأجور القائم في احد جوانبه على استعباد المرأة في البيت كي تعيل الأسرة مجانا وتقوم بإعداد عامل الغد (قضية المرأة، قضية الطبقة العاملة- كورش مدرسي) دون أن يدفع لها أيّ أجر يذكر، هذا ناهيك عن عدم المساواة في الأجور مع الرجل في العديد من القطاعات الاقتصادية، وينظر للمرأة على أنها جزء من العمالة الرخيصة التي تستخدمها البرجوازية في توليد فائض القيمة خلال عملية الإنتاج، وأيضا ليس من مصلحة البرجوازية الدفاع عن أو منح الحقوق والحريات الفردية التي تطلق العنان للإنسان أن يفكر بطريقة حرة، ويكتشف بنفسه عن سبب تعاسته الدنيوية. فالدين كان ولايزال يصبّ في صالح البرجوازية، وكان ولا زال سيفا مسلطا على رقاب كل من يفكر خارج أبدية العالم البرجوازي، وسلوانا لتخفيف من وطأة الظلم الذي يعانيه كي انظر (نقد فلسفة الحق عند هيجل-ماركس) يحلم بالعالم الآخر ومادة تستخدم في التسميم الطائفي للمجتمع عندما تقتضي الحاجة له في صراعها مع الأجنحة البرجوازية الأخرى.
إن الصراع بين تلك الأجنحة أسهم في طمس الصراع الطبقي الحقيقي بين البرجوازي والعامل، بين الرأسمال والعمل المأجور. صراع بين أماني وأهداف طبقة محرومة وتريد إن تحرر نفسها بمعية المجتمع كله، وبين طبقة تفرض الاستعباد بكل أشكاله، تشعل الحروب والصراعات الطائفية والقومية، تفرض الإفقار والعوز على المجتمع. طبقة تنتج الخيرات، وأخرى طفيلية ولديها استعداد أن تحرق كل شيء من أجل أرباحها، وقد رأينا ماذا يحدث في أيام تفشي وباء كرورنا.
وأخيرا إنَّ ما نريد أن نستخلصه، هو إنَّ من فشل أمام القوى الإسلامية هو اليسار البرجوازي، إذ فشل مشروعه الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وفشلت مشاريعه التي كانت تحت عنوان “التنمية” “الخطة الخمسية“، فشل في توحيد الأسواق العربية التي سماها “الأمة العربية” وأضفى هالة مقدسة حولها، فشل في “تحرير فلسطين“ كي يسدد ضربة قاسمة للإمبريالية ويحسم صراع النفوذ السياسي لصالح القومية العربية وحركتها الصاعدة.
لقد امسى اليسار البرجوازي العربي بجناحيه اليمين القومي العروبي مثل التيار الناصري والبعثي والقومي، وجناح الوسط القومي المحلي أو الوطني متمثلا بالأحزاب الشيوعية التقليدية، يمينيا بامتياز، فهو قد اختار عقد الصفقات مع القوى الإسلامية مثلما حدث في عهد السادات عندما اتفق مع القوى الإسلامية على؛ السلطة لنا والشارع لكم، أو كما حدث في السودان منذ انقلاب النميري حتى سقوط عمر البشير بتقاسم السلطة مع الإخوان المسلمين، أو في حال نظام البعث العراقي عندما كتب عبارة “الله اكبر” على العلم العراقي بعد هزيمته في الحرب الخليج الثانية عام ١٩٩١ وشيدت كبريات الجوامع على بطون الملايين من العراقيين الجوعى بسبب الحصار الاقتصادي وإعلان الحملة الإيمانية عام ١٩٩٦..الخ، أو التحالف الأخير الذي عقد بين الحزب الشيوعي العراقي والتيار الصدري وسمي بتحالف سائرون. أما ما تبقى من الأحزاب الشيوعية التقليدية الأخرى فقد سلَّم رايته (الطبقية الوطنية) إلى الجناح الآخر للبرجوازية أو سعى إلى الانسجام مع بقية الأجنحة، فبات ملكي أكثر من الملك نفسه، فأصبح ديمقراطيا ومدافعا عن اقتصاد السوق واستبدل مقولة الاشتراكية بالعدالة الاجتماعية، والدولة العلمانية بالدولة المدنية وهكذا دواليك.
بمعنى آخر إن التيار الإسلامي خطف مشروع الحركة القومية العربية التي تقاسمته معها أو اشتركت به معها الأحزاب الشيوعية التقليدية، وكل ما نتج عن مشروعهما على الصعيد الاقتصادي هو رأسمالية الدولة وبناء سوق محلية مستقلة، وعلى الصعيد السياسي التحرر من الاستعمار والإمبريالية، وعلى الصعيد الاجتماعي تحرر المرأة من قبضة التقاليد والعادات التي كبلتها في ملازمة البيت من أجل تحرريها وإرسالها إلى سوق العمل الناشئ، والى التعليم ومحو الأمية…الخ.
لم يكن في مشروع أي من تلك الأجنحة البرجوازية بقوميها وشيوعيها؛ تأسيس لدولة علمانية تفصل الدين عن الدولة، وتطلق الحريات السياسية والفردية، إن إخفاق المشروع القومي بجناحيه العروبي والمحلي الوطني، فتح الباب لجناح آخر إن يرد على الحاجة الطبقية للبرجوازية، لذلك نجد كل الشعارات والبرامج السياسية تبنتها التيارات الإسلامية مثل تحرير فلسطين ومعاداة الإمبريالية (الاستكبار العالمي) و(الشيطان الأكبر). أما على الصعيد الاقتصادي فقد تناغمت مع اقتصاد السوق والسياسة الليبرالية الجديدة، إن التيار الإسلامي مثل التيار القومي العروبي أراد أن يكون لطبقتها البرجوازية اعتباراً ونفوذاً وحصةً في التقسيم الرأسمالي العالمي للإنتاج. فلم يكن لديه مشكلة مع الإمبريالية إذا قبلت بمكانته ودوره ومنحه حصة مناسبة من الإنتاج الرأسمالي العالمي. ولذلك وعلى سبيل المثال لم يتردد اي طرف سواء إدارة باراك اوباما في تقديمها مبلغ ٣٠٠ مليون دولار لحملة محمد مرسي الانتخابية في ترشيحه إلى رئاسة المصرية، ولم يتردد الإخوان في استلام المنحة، وفي مكان آخر وتحديدا في تونس فقد لاقى وصول حزب النهضة الإسلامية في تونس إلى سدة السلطة بعد ثورة يناير ترحيبا من المؤسسات المالية مثل النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوربي، وقدمت قروض للحكومة التي شكلها ذلك الحزب.
موضوعة (اليسار) والبرجوازية الصغيرة:
إن من يعزف على هزيمة القوميين بعد أن ألبسهم ثوب اليسار وثوب العلمانيين والتحرريين، أمام القوى الإسلامية دون البحث في المحتوى الطبقي، يحاول إن يطمس حقيقة الصراع الذي تحدثنا عنه وهو صراع بين أجنحة البرجوازية على السلطة السياسية، فهو يحاول بشكل مخادع تصوير البطل المهزوم على انه تيار يمثل أغلبية المجتمع التواق إلى التحرر والمساواة، فيضفي بذلك الضبابية والأوهام ونثر اليأس في المجتمع، حول المهزوم الطبقي الحقيقي، الذي يحاول إن يلبسه لباس الطبقة العاملة ويسارها والحركات الاجتماعية الحقيقية المناضلة من اجل المساواة والحرية، إن هذه المنهجية في فهم وتفسير (اليسار) كمقولة وموضوعة هي منهجية المنظمات اليسارية البرجوازية الصغيرة التي ضاعت بوصلتها السياسية والفكرية والنضالية، وتنهال بالنقد الأخلاقي اللاذع على انزوائها أمام انتصار احدى الأجنحة البرجوازية المتصارعة، وهي ليس لها أية صلة بالصراع الاجتماعي والنضال الاجتماعي، وإن أفضل حالاتها هي أن تصف حالتها عبر وصف حال الآخرين، وتنهال بالنقد وتطالبهم بجلد الذات، إلى الحد الذي يصور للقارئ مشهد بأن هؤلاء بحاجة إلى علاج نفساني . ولذلك فالبرجوازي الصغير لا يرى نفسه في طبقته، لأنه لا يجد قوة اجتماعية فيها، فيعتقد دائما أن بجمع الأفراد بشكل جبري من الممكن أن يتوحد اليسار، ودون أية آفاق سياسية أو رؤية طبقية، انظر (الحزب الشيوعي العراقي وموضوعة التحالفات–نفس المصدر السابق)، فهو يتحدث عن العلمانية واليسارية والتحررية وقضايا المرأة والحريات بشكل رومانسي، ويعرضها كما تعرض السلع في سوبر ماركت عسى ولعل أن يجد زبون لشرائها، أما ربط تلك القضايا بالمصالح الطبقية وفصلها عن آفاق التيارات البرجوازية، فابعد من تصوره الذي يعيش بخبز يومه، إذ أمست موضوعات مثل اليسار والعلمانية والتحررية، دون الفصل بينها وبين مصالح التيارات السياسية التي تقف خلفها وتعيد استخدامها، من هموم ذلك المثقف البرجوازي الصغير، الذي يتوج نضاله فقط في ذهنه وأمنياته ومزاجه وغضبه وفرديته وغروره، إن هذا (المثقف) الذي ملأ المشهد السياسي والفكري بزعيقه، يقاوم التنظيم، وينزع دائما نحو الفردية، ويتحدث عن الاستقلالية، وتراه معادي بشكل سافر للتحزب وساخط على كل من حوله وأحياناً حتى على نفسه، ولذلك نجده يألِّه نفسه ونضاله ولا يرى أية حقانية دنيوية إلا في ذاته.
التيار الاشتراكي ويسار الطبقة العاملة:
إن التيارات البرجوازية السياسية في المنطقة كما اشرنا سلفا لم تدرج في أجندتها لا في الماضي ولا في يومنا الحالي، مطلب فصل الدين عن الدولة ولا المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، ولا أية من الحريات السياسية والحقوق الفردية، هذا ناهيك عن عدائها الطبقي السافر للطبقة العاملة، وأكثر من ذلك هو أنَّه وبعد الثورتين المصرية والتونسية، وضعت تلك التيارات ما تبقى لها من (شعرة التحررية) جانبا، هذا إذا كانت لديها منذ صعودها في مسار تاريخي وسياسي شعرة أصلاً، لترفع إما راية الدين أو الطائفية لتقويض الثورتين المذكورتين وتفريغهما من محتواهما، وإشعال المنطقة بحرب أهلية. لذا نرى إن الحرب الأهلية في سورية وليبيا واليمن، وصعود نجم داعش في العراق وكل الصراصير الإرهابية وجر المنطقة برمتها بدعم ومساندة الأنظمة البرجوازية الغربية، كان جواباً واضحاً على تلك الثورتين والمطالب العادلة للجماهير التي تلخصت بالكرامة الإنسانية والحرية والرفاه. فما حدث في منطقتنا هو نتيجة تضافر جهود التيارات البرجوازية القومية العروبية والإسلامية وداعميها من التيارات البرجوازية في السلطة مثل ميركل ألمانيا وماكرون وقبله فرانسو اونلاند وساكوزي في فرنسا، وديفيد كاميرون وتيرزا ماي وأخيرا جونسون في بريطانيا، وادارتي اوباما وترامب.
فإذا كانت التيارات البرجوازية في الغرب أمست محافظة في بلدانها إذا لم نقل رجعية منذ حقبة من الزمن، بالرغم من أنها ما تزال تحت ضغط الحركات الداعية للمساواة، وتحاول مقاومتها والتحرر منها فيكفي إن نذكر كيف إن الاقتصاد تغلب على الصحة عند تفشي وباء كورونا، وباتت تريد فتح أسواقها بعد ما تأخرت في غلقها وفرض الحجر الصحي مما سبب قتل مئات آلاف من البشر وخاصة في صفوف المسنين، فما بالك مع التيارات البرجوازية في منطقتنا التي تعتبر حثالة هذه الطبقة بامتياز، إذ نفذ ما في جعبتها من رائحة اليسار والتحرر الشكلي.
إن الدفاع عن إقحام الدين في السياسية وترسيخ دونية المرأة وقمع الحريات بكل أشكالها بما فيها حق الإضراب والتنظيم هي مسالة محورية في أجندة التيارات السياسية البرجوازية ولا يمكن الاستغناء عنها، ولكن مع كل تقدم نضالي نحو التحرر ونحو التخلص من آثار الدين ونحو إطلاق الحريات، فإن ذلك يعني انتزاع امتيازات ونفوذ وهيمنة البرجوازية على المجتمع، ويعني تقويض سلطاتها وأرباحها لحساب الطبقة العاملة والشرائح الاجتماعية المحرومة الأخرى في المجتمع.
إن اليسار الوحيد الذي يمكن له إنقاذ المجتمع هو اليسار العمالي، يسار الطبقة العاملة، وتحديدا اليسار المتمثل بالتيار الاشتراكي، لإن الطبقة العاملة لها مصلحة مباشرة في فصل الدين عن الدولة والتربية والتعليم وإرساء دولة المواطنة، بسبب أن شروط عملها وظروفها المعيشية لن تتغير باستبدال مستثمرها سواء كان أجنبيا أو وطنيا، إيرانيا أو أمريكيا أو تركيا أو سعوديا أو إماراتيا أو قطريا، إسلاميا أو مسيحيا، سنيا أو شيعيا. إن عدو الطبقة العاملة هو الفيروس القومي والطائفي والديني، وان جميع أجنحة البرجوازية مختلفة على كل شيء إلا إنها متفقة على تفتيت وحدة العمال ودك إسفين في صفوفها. وعليه فإن أكثر التيارات حزما كما يقول ماركس هو التيار الشيوعي في صفوف الطبقة العاملة، فعلى الشيوعيين والاشتراكيين إن يدركوا هذه الحقيقة ويسلحوا العمال بها.
بعبارة أخرى وبقدر ما تمثله الحماقة في انتظار التيارات البرجوازيةالتي تحدثنا عنها أن تكون يسارية بالمعنى المطلق، وأن تدرج في أجندتها وبوصلتها راية التحرر والمساواة فإنه وبنفس القدر من الوهم يعني الانتظار من البرجوازية الصغيرة وتشرذمها السياسي والتنظيمي والفكري أن تخطو خطوة واحدة خارج نضالها الذهني إذا لم نقل هلوستها الذهنية.