لا صلة لهربرت ماركيوز بالماركسية.
أحمد عبد الستار
على أثر ما ارتكبته إسرائيل من إبادة جماعية في غزة، بعد أحداث السابع من أكتوبر العام الماضي، ألهبت هذه المأساة المتواصلة الوجدان العالمي السليم، وخرج الملايين حول العالم مطالبين بوضع حدٍ لهذه المجزرة بحق العوائل والأطفال وأبرياء غزة، من داخل أمريكا نفسها الداعم الرئيسي لإسرائيل وكذلك الدول الغربية، ودول أمريكا اللاتينية وكندا واستراليا واليابان، ودول آسيوية وعربية كثيرة..
أطلق شرارة هذه التعبئة الضخمة طلاب الجامعات في هذه الدولة ابتداءً من أمريكا وفرنسا وبريطانيا وأنشأوا مخيمات داخل الجامعات رافعين لافتات مؤيدة لفلسطين، ثم امتدت إلى جامعات العالم، وموقف الطبقة العاملة في دول كثيرة تدخلت مثلما تدخل الطلاب والمؤسسات التعليمية لمنع حكوماتهم وشركاتها تزويد اسرائيل بالسلاح، وجماهير غفيرة بالملايين فاضت بها شوارع الغرب والشرق يصدح صوتها ولافتاتها تقول ” لا للإبادة الجماعية في غزة”، في مشاهد تمثيل لمآسي الأمهات وهنَّ يحملن في أكفان مدماة، أوصال أطفالهن المقطعة من القصف الإسرائيلي.
خروج طلاب الجامعات المناصر والكثيف فيما يشبه الهبّة أو الانتفاضة، فتح الحديث مجدداً لدى أكاديميين ومثقفين وجهات يسارية عديدة، عن المفكر الأمريكي من أصول ألمانية هربرت ماركيوز(Herbert Marcuse، 1898- 1979)، الذي خصص مساحة واسعة من مؤلفاته للتنظير عن الطلبة باعتبارهم الفاعل الأهم من العمال للتغيير في المجتمع المعاصر، والمنتمي إلى ما يُعرف بمدرسة فرانكفورت الفكرية التابعة إلى معهد الأبحاث الاجتماعية في جامعة غوته في مدينة فرانكفورت في المانيا الغربية آنذاك قبل توحيد الألمانيتين عام 1990، مع محاولة ايديولوجيو الرأسمالية ابراز هذه المدرسة على أنها ماركسية، أو ما بعد ماركسية، رغم رجعيتها وغموض طروحاتها وأدبياتها النظرية أعدت باعتبارها واجهة جديدة للماركسية، وهذه المدرسة يشير أنصارها ” إلى واقع أن الرأسمالية ما تزال موجودة. ويؤكدون على أنها شهدت قدرا كبيرا من التغيرات منذ أيام ماركس، وبالتالي فإنه من المؤكد أن الماركسية صارت بحاجة إلى التجديد. كما يشددون على أن الطبقة العاملة قد فقدت على الأقل بعضا من “فاعليتها” الثورية، وأن ذلك نتيجة للدور القوي المتنامي للثقافة الجماهيرية، والتي أغفلها ماركس. يزعمون أن “البنية الفوقية” للأيديولوجية والثقافة قد اكتسبت قدرا كبيرا من الاستقلالية عن القاعدة الاقتصادية، على عكس ما شرحه ماركس.”
ويسأل ماركيوز وهو من أهم منظريها في كتابه الشهير ( الإنسان ذو البعد الواحد) قائلاً:” هل ثمة أمل في تحطيم هذا الترابط بين الإنتاجية والاضطهاد المتعاظمين؟
ان الاجابة على هذا السؤال تقتضي ان نسقط ابعاد التطورات الراهنة على شاشة المستقبل مفترضين استمرار التطور السوي نسبياً ومهملين امكانية الحرب النووية الواقعية. ولسوف نفترض ان “العدو” سيبقى، أي أن الشيوعية ستستمر في تعايشها مع الرأسمالية. ولسوف تكون الرأسمالية في هذه الحالة قادرة على المحافظة بل على رفع مستوى الحياة بالنسبة الى عدد متعاظم من السكان..”.
نفهم من كلامه أو من نصيحته أن نتخلى عن النضال الطبقي لأن الرأسمالية جيدة، والصراع الطبقي أصبح لطيفاً ولا حاجة بنا إلى الثورة ويمكن تأجيلها، حتى إلى الأبد.
ويقدم ماركيوز دليلاً لافتاً في نظره عن صحة نظريته قائلاً:” إذا كان العامل ورب عمله يشاهدان نفس البرنامج التلفزيوني ويترددان إلى المنتجعات ذاتها، وإذا كانت السكرتيرة ترتدي ثيابا لا تقل أناقة عن ابنة صاحب العمل، وإذا كان الزنجي يمتلك سيارة من طراز كاديلاك، وإذا قرأوا جميعا نفس الصحيفة، فإن هذا التماثل لا يدل على زوال الطبقات، بل يدل على مدى تقاسم الاحتياجات والاشباعات التي تخدم الحفاظ على المنظومة من قبل السكان التابعين”.
من هؤلاء السكان التابعين يا ترى؟ إنهم ” غير القادرين على تصور عالم مختلف اختلافا نوعيا” أي الطبقة العاملة المنسجمة مع رأس المال التي لا تفكر بالثورة وتغيير النظام فهو أمر مستبعد بسبب تأثير الأجهزة الإعلامية الحديثة – ووسائل التواصل الاجتماعي حالياً يجب أن نقول- وغيرها من وسائل الثقافة العصرية كما ترى مدرسة فرانكفورت وماركيوز، والأخير يشرح فيما معناه في عدة مواضع من مؤلفاته بأن الطبقة العاملة اندمجت وذابت نهائياً في المجتمعات الغربية وأصبحت جزء من النظام القائم، وطرح مقترحاً طبقة ثورية جديدة في المجتمع بدلاً من الطبقة العاملة التي اصبحت قوة محافظة وخاملة، وهي طبقة المثقفين والطلبة.
استوحى ماركيوز عناصر نظريته بخصوص الطلبة والشباب، من المد الواسع لانتفاضات الطلبة والشباب التي اندلعت خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وعقود قبلها، احتجاجاً على الظروف الدراسية والمعيشية الصعبة التي يعانيها الطلبة والمجتمعات، واحتجاجاً على حرب فيتنام، في جامعات أمريكا عام 1968، وما يُعرف بالثورة الطلابية في فرنسا في نفس العام كذلك وفي مصر أيضا بنفس العام هذا، وفي اليونان بالسبيعينيات وقبلها في اليابان والمجر… استغل ظاهرة الفورات هذه وقدمها على إن في ذلك دليل على صحة نظريته، عن تراجع دور الطبقة العاملة في الثورة والتغيير الاجتماعي، متجاهلاً عن عمد هو ومدرسته الظروف الموضوعية التي أدت إلى انكماش الطبقة العاملة الغربية –بالذات- خلال هذه الحقبة، بسبب خيانة الستالينية واحزابها للعمال، وتبعية النقابات العمالية وقادتها للسلطة البرجوازية في هذه البلدان، وجملة ظروف أخرى ساهمت بشلل الطبقة العمالية عن التحرك تجاه أهدافها التاريخية. وتصاعد دور الطلبة الثوري في التغيير والاحتجاجات الجماهيرية.
يُقال عن الطلبة بأنهم داينمو الشعوب، وهذا صحيح، ولو نأخذ مثالاً ليس بعيداً، من واقعنا العراقي في مساهمة الطلبة في جامعات ومعاهد بغداد الفاعلة بشكل أساس، في وثبة عام 1948 ضد معاهدة بورتسموث لجعل العراق تابعاً رسمياً لبريطانيا، وسقوط الحكومة وإلغاء المعاهدة على أثر التضحيات التي قدمها الطلبة وسائر جماهير العراق. وكذلك كانت احتجاجات اصحاب الشهادات العليا من أشعلت فتيل انتفاضة اكتوبر عام 2019، وكثير من الأماكن في العالم تقدم الطلبة أو كانوا هم أشعل فتيل الاحتجاجات والتظاهرات الكبرى التي أسقطت أنظمة وغيرت سياسات غير مرغوبة في دول كثيرة، ولكن رغم تمرد وهيجان الحركات الطلابية والشبابية إلا إنها توصف بكل تأكيد بأنها انفعالية ذات طابع عفوي وتفتقر إلى التنظيم الذي يوجهها توجيهاً صحيحاً وسليماً، للقضاء على العدو الرئيسي للمجتمع ولهم، أي السلطة الرأسمالية وهيمنتها الطبقية، بالتالي فإن الحركة الطلابية داينمو غير ثوري، إلا متى ما تحالف هذا الحراك وهذا النضال مع نضال الطبقة العاملة وتحت قيادتها، وهذا هو واجب الاحزاب العمالية قبل الطلاب وجميع شرائح المجتمع المتضررة من سلطة رأس المال، وهذا ما أكد عليه مؤسسا الشيوعية ماركس وانجلز في كل كتاباتهم تقريباً، لكي ينجح المحرومون في مواجهة عدوهم اللدود، وهو الرأسمالية وأوجز لينين ذلك بالقول:” ان مأثرة ماركس وانجلز التاريخية العالمية العظيمة تقوم في كونها بيّنا للبروليتاريين في جميع البلدان دورهم ومهمتهم ورسالتهم: ان ينهضوا اوائل من ينهضون إلى النضال الثوري ضد الرأسمال ويوحدوا حولهم في هذا النضال جميع الكادحين والمستثمرين”، وتدلنا مئات وآلاف التجارب في فشل كل نضال اجتماعي ما لم يكن هدفه الصراع الطبقي، لأن، كما يقول ماركس” كل انتفاضة ثورية، مهما بدا هدفها بعيدا عن الصراع الطبقي، ستظل تمنى بالضرورة بالإخفاق الى ان تنتصر الطبقة العاملة الثورية، وان كل اصلاح اجتماعي يظل مجرد طوباوية ووهم الى ان تتقابل الثورة البروليتارية والثورة المضادة …”.
إن كنّا ماركسيين حقاً وتهدينا نظرية ماركس إلى نهاية سبيل الصراع الطبقي، بالقضاء على سلطة الرأسمالية عبر توحيد نضال الطبقة العمالية العالمي، وقيادتها وتوجهها لنضال طبقات وقوى المجتمع المسحوقة الأخرى، عندئذ يتبلور لدينا فهم وتصور حاسم عن طبيعة المجتمع المنقسم طبقياً بين طبقتين كبريتين، الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة وأيديولوجيتهما ولا وجود لطبقة ثالثة وأيديولوجيا ثالثة تتجاوز حسب ما يدعون نظرية ماركس، وتنتقدها، بل هم خدم بأقنعة ملطفة للرأسمالية.
وتلقف هذه النظرية طيف واسع من اليساريين والاشتراكيين غير مدركين حقيقة هذه المدرسة وهذا المنظر الرجعي.