لطالما الصراع الطبقي والعامل موجود، يبقى العداء للشيوعية! (حول رحيل غورباتشوف)
أُعلن من موسكو مساء الثلاثاء 30 آب موت ميخائيل غورباتشوف، القائد الأخير لدولة الاتحاد السوفيتي السابق. ومع إعلان موته تعالتْ أصوات النعي العاجلة أسفاً على رحيل السياسي ذائع الصيت، الذي وضع حداً لسباق التسلح النووي مع أمريكا، وصاحب الفضل في هدم جدار برلين، ورافع الدعوة لإصلاح الاتحاد السوفيتي، والذي غيّر مسار التاريخ…الخ.
منذ بدايات دخوله عالم السياسة السوفيتية، في مستهل شبابه كان غورباتشوف طموحاً ونشطاً وقد ارتقى مناصب محلية ابتداءً من مقاطعة ستافروبول محل ولادته، وتدرجه بالدولة والحزب من وزير للزراعة حتى تسنمه أخيراً منصب المسؤول الأول في الدولة والحزب.
المرحلة السياسية التي عاشها منذ مطلع الخمسينيات حتى تفكك الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن المنصرم على أيدي الحزب الذي كان هو رئيسه ورئيس دولته. يعزو الكثيرون انهيار الاتحاد السوفيتي و”الشيوعية” ويقرنونها بغورباتشوف. بيد ان هذا الامر بعيد كل البعد عن الحقيقة. اذ انهارت التجربة الاشتراكية في روسيا من منتصف عشرينيات القرن المنصرم. حيث عجزت الطبقة العاملة من ارساء بديلها الاقتصادي الاشتراكي رغم انتزاعها للسلطة السياسية بعد الاطاحة بالقيصر وحكومة كيرنسكي. وعليه، تمكنت البرجوازية في ظل غياب الافق الاقتصادي الاشتراكي لدى الحزب الشيوعي السوفيتي، من احلال بديلها. ولهذا لم يكن نصيب العمال والفلاحين وسائر جماهير الشغيلة، رغم تضحياتهم العظيمة ونضالهم الجهيد بقيادة لينين والبلاشفة سوى دولة لا ربط لها بحلمهم بالرفاه والحرية والمساواة. وبنتْ السلطة الجديدة باسم “الشيوعية” على هذا الأساس قواعدها خدمة لطموحاتهم الطبقية واستحالت هيئة لسيادتهم من جهة، وإلى معسكر للأشغال الشاقة بالنسبة للعمال والفلاحين. لم يعد الاتحاد السوفيتي دولة اشتراكية كما أُريد له، وأضحى طابعه العام رأسمالية الدولة بقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي، عجزتْ هذه الطبقة آنذاك ونموذجها (رأسمالية الدولة) عن مسايرة النموذج الاقتصادي للعالم الغربي (رأسمالية السوق) وتعفنت دولتهم وحزبهم، وكل الذي فعله غورباتشوف في النهاية، لم يكن سوى قيامه بالإعلان الرسمي لموت هذا النظام ورحيله إلى الأبد.
انتهز الإعلام الغربي بضجة لم يشهد لها التاريخ مثيل، هذه الفرصة – تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة في اوروبا الشرقية التي تدور بفلكه – وسوُق فكرة ألح عليها إلحاحاً عجيباً بأن مع نهاية هذا النموذج قد انتهت الشيوعية وحلتْ “نهاية التاريخ” مع انتصار الليبرالية الجديدة، وسيعم الخير على العالم؛ سيغدو بلا حروب ولا تشرد ولا مجاعات ولا بطالة ولا دمار للبيئة…
ولازال ترداد هذه النبرة قائماً بنفس القوة، تُستحضر بمناسبة أو بدون مناسبة، حتى على سبيل المثل مع بدايات جائحة كورونا صرح السياسيون والإداريون الامريكيون بأن الحزب الشيوعي الحاكم في الصين “فشل في السيطرة على تفشي فيروس كورونا”.
واستحال نعي غورباتشوف إلى تأبين، تعالت أصوات كل قادة العالم الرأسمالي يستذكرون أفضاله في نشر السلام والحرية وهذه الشخصية الفذة التي ألهمت الكثيرين بالتخلي عن الفكر الشمولي، وسوء الإدارة المفضي إلى المجاعة والقمع الوحشي…
أصوات زعماء العالم الرأسمالي من غوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة؛ والمفترض في دوره الحياد صرح مستشهداً بكلام غورباتشوف أثناء حفل تسليم الأخير جائزة نوبل للسلام عام 1990″ إن السلام ليس الوحدة في التشابه بل الوحدة في التنوع”
ويقصد بذلك نظرية خروتشوف فيما يُعرف بالتعايش السلمي والانفراج السياسي على الساحة الدولية، على العكس من المسلمة الماركسية التي ترى بأن الصراع بين الدول الرأسمالية هو امتداد للصراع الطبقي، والتي عبّر عنها لينين بأن ” الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بشكل دموي” حيث إن الطبقات الحاكمة في هذه الدول المتصارعة تنتهج سبيل الحرب حتى تحسم من يستطيع أن ينهب أكثر ويستعمر أكثر، وما كان حسم الصراع الطبقي يعني شيئاً للطبقة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي بهذه الحقبة.
وأدلى بايدن بدلوه أيضا قائلاً ” إن غورباتشوف قائد نادر قادنا إلى عالم أكثر أمانا”.
وأعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون عن اسفه مؤبناً الراحل بأنه كان “رجل سلام مهّدت خياراته الطريق أمام الحرية للروس”.
ولم تفتْ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الفرصة، لكي يصرح تصريحا ذا حدّين مع استمرار “بوتين عدوانه على أوكرانيا، يظلّ التزام (غورباتشوف) الدؤوب لانفتاح المجتمع السوفياتي مثالاً يُحتذى لنا جميعاً”. وتصريحات كثيرة لشخصيات أخرى مثل رئيسة المفوضية الاوربية وبوتن …الخ تتمحور جميعها حول الراحل كونه ساهم مساهمة جديرة بالثقة لتطور العالم، أي عالم الطبقة الرأسمالية، والتنديد بالشيوعية عبر الحطّ من التجربة السوفيتية المشوهة أصلاً.
في الوقت الذي تدعو النظرية الماركسية، على لسان مؤسسيها، إلى الاشتراكية؛ وكانت كل جهودهم التنظيرية قد استخلصت عِبر وتجارب نضال الطبقات المحرومة في المجتمع الغربي، إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستغلال، وأكسبوا هذا النضال صفته العلمية كما عرّفها انجلز قائلاً بأن الماركسية “دليل للعمل وليس دوجما”، أي إن الماركسية لم تكن حلماً لأفراد او جماعة من البشر منعزلين عن التاريخ، أو مخطط يوتيوبي لمصلح اجتماعي ما.
بل هي بحث فكري لواقع عياني متحرك، واقع اجتماعي قائم على الصراع الاجتماعي والاقتصادي بين الطبقات، وسعيها لسيادة مصالحها. المجتمع الشغيل يناضل من أجل التحرر من عبودية العمل الرأسمالي، وإلغاء تملك وسائل العمل الرأسمالية تملكاً خاصا لفائدة أقلية طفيلية، وجعل جميع وسائل الانتاج الاجتماعي ملكية عامة تعود منفعتها لجميع افراد المجتمع، ويكون العمل حراً بلا منفعة شخصية وبناء روح تتغذى من هذا التحرر، لتغدو روحاً اكتسبت صفتها الإنسانية الخالية من كل قيد.
يصور ايديولوجيو الرأسمالية نمط دولة الاتحاد السوفيتي، وغيره من بلدان استعارت واستمدت خبرتها منه، لتأسيس دولة برجوازية وطنية تحفظ كما يزعمون حقوق كل الطبقات، ويمكن للجميع العيش تحت ظلها برفاه. بواسطة القمع السافر والمصادرة البوليسية لجهود العمال والكادحين في خدمة دولة قائمة على هذا الاساس من أجلهم. يدعونها اشتراكية ودول شيوعية… وإنما هي نمط آخر من الأنظمة الرأسمالية؛ يؤسس في البداية بواسطة قمع الدولة المطلق أركان نظام يكون أرضية لنظام أكثر صراحة في الاستغلال وصراعه مع العمال، كما هو الحل في العالم الغربي، وكما عادت برجوازيات هذه البلدان بعد انهيار وتأخر نمط هذه الدول لتلبية طموحاتها إلى تسخيرها في خدمتهم في النهاية. تتحدث وتطالب بالاشتراكية، وهم يتحدثون ويصورون رأسمالية الدولة على إنها هي الاشتراكية.